بعد النقمة نعمة
قصة : أسماء بريوية
طفولة سجنت وراء قضبان الحديد، سعادة مقيدة وراء
نافذة، بطلتها عينان براقتان اسمها نجلاء حكم عليها بالتضحية لفترة من عمرها، و هي
لا زالت في سن يتعطش للعب. كانت تكتفي بالجلوس وراء نافذة زنزانتها، أو بالأحرى
غرفتها لتشاهد هؤلاء و أولئك يلعبون، يمرحون ويضحكون. كعادتها ترجت أمها لتدعها
تلعب ولو لدقيقة رفقة زملائها، لكن باء ذلك بالفشل. إن خوف أمها الحنونة عليها أرغمها
على ذلك، لكن لم تدري قط أن زج ابنتها في سجن سيقيد فكرها، وسيجعلها تشعر بنقص.
فما كانت تفكر به أمها سوى القضايا الاجتماعية السلبية التي لا تنتهي. لكن ما يميزها
هو تنوعها الذي بات يخلق الرعب في أحشاء المجتمع. لطالما تمنت هذه الفتاة البريئة أن
تشارك زملاءها الفرحة، لكن فرحتها محكوم عليها بالضمور. توالت الأعوام حتى غدت
البنت في سن السادسة عشر، كانت جل أفكارها سلبية، و حتى أحاسيسها التي سيطر عليها
العذاب و التأنيب. فكرت مرات ومرات في الانتحار، لكن خوفها من ربها ردعها. لم تجد
صديقة وفية تحكي لها أسرارها ومعاناتها لأن، في نظرها، الصداقة عنوانها المصلحة.
فاختارت أن يكون كتابها أنيس وحدتها التي كانت تعيش في دوامتها، رغم أنه كان يعيش
حولها كل من كانت تحبهم، إلا أن وحدتها نفسية. في كل مرة تشعر بأن لا أحد يساعدها
و يهتم بها إلا أن قصدت كتابها والذي لطالما سمته بالكتاب السحري الجالب للحظ. وما
أن تشرع بكتابة أحزانها في الأوراق الذهبية حتى تغادر أحاسيسها العالم الواقعي
متجولة في العالم الافتراضي أو الخيالي، عالم تكسوه أفكار تتخللها عبارات مجازية.
لكن ما خلق الحدث هو أن جل مذكراتها سلبية تتحدث عن الدمار والظلام، وفي بعض الأحيان
كانت تجد ضوءا يشع من بعيد، فتكتب عن الأمل لكن سرعان ما يختفي الضوء الذي لامسته
عيناها، فتعود للخيبة والحسرة ومن بعض مذكراتها : يوم 10 يناير 2014 "عجزت
كلماتي عن التعبير، تصادف خروجها قلب مكسور أغلقت شظاياه عبور الكلمات، عرقل
تسربها، اسمعها بداخلي تنادي الغيث، تبكي حرقة لعدم وصفها شعوري، أصداؤها رنات
مخيفة أرهبت وجداني، شبح الماضي والحاضر والمستقبل يظهر أمامي، إنه تأنيب الماضي
وبكاء الحاضر والخوف من المستقبل المجهول، بداخلي عواصف هائجة، قلبي و أحشائي تطلب
اللطف من العلي القدير ولكن هذه العاصفة لن تهدأ روعها حتى تجد كفيلها في الحياة،
شخصا يفهمها، يقدرها، و يأخذ بيدها ليغيرها... أريد أن تهدأ العاصفة وتصبح
البراكين الملتهبة وديانا من ماء عذب تسمع خريره من بعيد. تصادمت المشاعر في كياني،
غضب، تأنيب، عذاب، وما إلى غير ذلك من المشاعر التي قاسمها المشترك سلبيتها...
فيارب أسألك الطمأنينة و الهداية، فلا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك" سبحان
الله..
هذا كل ما اعتقدته الفتاة من طفولتها إلى مراهقتها. مرت
السنوات حتى صارت البنت طبيبة. عجيب أمر هذه الفتاة كيف لنقص أن يولد فتاة ناجحة ؟؟ لكن الحقيقة هي أنها فوضت أمرها لله تعالى الذي يعلو و لا يعلو عليه أي شيء...
غدت نجلاء غنية لكن ليس بالمعنى المادي و إنما على المستوى المعنوي حيث حققت
العديد من أحلامها التي كانت تتحرق شوقا لتحقيقها، والتي كانت تشغل الحيز الأعلى
في تفكيرها. كانت هذه الفتاة في قمة التواضع.. كل من يطرق بابها لا ترده خائبا.
كانت تمد يد العون ولو في أصعب القضايا، لكن ربها جزاها بأن سخر لها عبدا مثقفا
واع بأهمية المرأة في مجتمع تضطهد فيه النساء. هذا الأخير علم بالنقص الذي تولد في
طفولتها فاقترح أن يعيد هذه المرحلة ولو ليوم واحد وقضى هذان الاثنان يوما غير الأيام
المعتادة في حياة نجلاء... لعبا في الشارع، *في البحر*، و الأرجوحة التي تمنت
اللعب فيها. كما أدركت أن النقص والسجن الذي ترعرعت في طياتهما ولدا شخصا فعالا
متميزا في المجتمع وذا تربية قيمة. وذلك بعد أن رأت بأم عينيها أن كل من كانت
تراقبهم وراء قضبان زنزانتها لم يصلوا إلى مبتغاهم. أو بالأصح إلى أعلى الدرجات،
بعدما كانوا متشبثين بحبل اللهو واللعب، أدركوا بعدها أن الحبل قد انقطع، الشيء
الذي آل بهم إلى السقوط الذي لن ينهضوا بعده قط. وقد آمنت الفتاة بأن كل
قرار اتخذت في حقها أمها كان نعمة وليس نقمة. و أيقنت يقينا أن الأفكار
السلبية التي كانت تتحدث عنها مجرد أوهام لا معنى لها، و أنها خير من الله مادام إيمانها بالله عز وجل وثيقا بحبل لا تتلاشى
خيوطه ولو مرت آلاف السنين. وهي الآن تنتظر مولودتها الأولى إسراء التي قررت
الأم أن تتخذ في حقها نفس القرار ونفس الحكم لكن هذه المرة مع شرح العبرة منه.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية