وهم المعرفة

وهم المعرفة

حسين نور
مفهوم "الوهم" يختلف تفسيره من شخص إلى أخر وفي حياة الفرد من حين إلى أخر .
فالشخص العامي يرى الوهم كل ما يخالف رأيه، وعالم النفس يرى الوهم تلك الاضطرابات التي تخيف الفرد في حياته , فيما السياسي يرى الوهم عبارة عن تلك المؤسسات أو الحركات التي تستخدمها الحكومات لأخافت شعوبها، فيما الفيلسوف هو أقربهم حيث يرى الوهم في المعرفة، والمتدين أبعدهم حيث يرى الوهم كل ما يخالف معتقداته ! .
فسقراط في مناقشاته كان يستهدف تبديد وهم المعرفة عن طريق الأسئلة المتتالية التي تطلب تعريفا للكلمة ومن ثم مناقشة هذا التعريف .
فأغلب مشاكل الإنسان تأتي من عدم قدرته على التعرف على وهم المعرفة لديه , حيث أننا قد نعرف اسم شيئا ولنمثل بالنخلة , حيث الكل يعرف أو على الأقل إلى الآن ما هي النخلة ولكن إن تم مساءلتنا من قبل عالم بيئة عن التربة التي تحتاجها النخلة لتنمو ؟ و ما هو العمر الافتراضي للنخلة ؟ و ما هي أنواع الثمار التي  سنجنيها ؟ هنا على الأغلب سنرى مدى جهلنا بالنخلة !.
فقد نعرف اسم شخص ما و لكن حالما يتم مساءلتنا عن أخلاقه واهتماماته سنرى أننا لا نعرفه على الإطلاق، وعلى هذا الوهم يتم الاستناد على تضليل الناس سياسيا و دينيا و اعتقاديا . حيث أن  الطقوس الدينية والخطابات السياسية تعتمد تلقين الكلمات بعد تفريغها من المعنى بالكامل ومن ثم عرضها بشكل متكرر ومستمر على الناس حتى يعتادها الناس ومن ثم يحصل وهم المعرفة .
فكلمات من وزن ( عقيدة - خلافة - سنة- شيعة- زندقة ) تحدث وهما بالمعرفة حيث أن العامة يقدسونها كثوابت لا تحتاج إلى شرح ويضعونها كقاعدة انطلاق لأفكارهم ما يجعل الناتج خاطئا حيث الأساس خاطئ .
فمفاهيم كالزمن والمكان تغير مفهومها من المطلق ،لى النسبي مع نظرية آنشتاين النسبية حيث أنها تختلف من حين إلى حين فلا تصلح كقاعدة علمية فكيف بآراء بشر ؟
إن العقيدة و الخلافة والمذاهب آراء بشر لا تصلح كقاعدة انطلاق، وكل فكر يعتمد عليها كقاعدة انطلاق سيفشل فشلا تاما كونها مجرد متواليات حرفية مفرغة من المعنى .
وفي السياسة نرى كلمات من وزن ( العدو - مصلحة الدولة - عميل ) كلها تعطي المستمع لها وهم المعرفة فيبدأ بشتم من وصف بعدو دون أدنى محاولة لمعرفة الحدود التي يتسنى لنا من خلالها تسمية الغير بهذا المسمى وكذلك لا يعرف ما هي مصلحة الدولة ولا كيف نطلق على الطرف الآخر عميل .
ولكن كيف نستطيع التعرف على وهم المعرفة ؟
1- التقديس
من أهم علامات وهم المعرفة " التقديس" حيث أن كل كلمة محاطة بهالة من القدسية أو عدم التحاور حولها تكون وهما يجب تبديده وهذا ما أشار إليه ميرلو بونتي . فالتقديس يورث التعصب،  والمتعصب أكثر الناس جهلا بالموضوع، أما المعرفة لا تورث تعصبا أبدا ....
2 - المثل العليا  :
 وكذلك أيضا في حالة " المثل العليا " للمجتمع حيث أن أسماءهم وأفعالهم تستحيل إلى مقدسات ما يجبر الفرد على قبول أفعالهم وان كانت تناقض الفطرة والأخلاق كما فعل أوغسطين الذي قتل الكثير ولكن تغاضى الشعب عن هذا ونحت له تمثالا مع كبار ملوك المملكة الرومانية .
وكما حدث هذا أيضا مع رموز إسلامية مثل السفاح مؤسس الدولة العباسية و الذي لا يصنف من قبل الإسلاميين من ضمن سفاحي التاريخ رغم قتله الآلاف وتمثيله بجثث من كان قبله من أمراء بني أمية بل وقتل من أسس الدولة العباسية معه وقس على هذا المتوكل وغيرهم .
ويتضح أكثر حينما نمر على سوار " الصحابة " حيث هذه الكلمة تمثل تحذيرا من محاولة التفكير بأن من يحاط بهذه المفردة على خطأ رغم أن التاريخ يخبرنا بأفعال لو نزعنا عنها الأسماء و استبقينا الحدث لاشمأزت منها قلوبنا ولكن أصحابها ينتمون إلى " المثل العليا "
ووهم المعرفة هنا يكون بإضفاء الطابع الإيجابي على " المثل العليا " دونما محاولة إمعان النظر في حقيقة هذه المكانة .
3 - الانطباع الأولي :
وأيضا هناك الانطباع الأولي حيث أن الانطباع الأولي قد يعطي وهم معرفة لصاحبه، فالانطباع الأولي من حدث معين غالبا يكون بمثابة إسقاط من الفرد على الحدث أو الشيء أو المفهوم، فيكفي أن أكون في مزاج ممتاز حتى تترك بعض النظريات انطباعا ممتازا لدي تماشيا مع مزاجي الرائع، وقس على هذا الحزن والغضب .
4 - الإجماع أو السائد :
من أكثر معوقات العقل الإجماع والسائد، حيث أن البعض يرى في الإجماع دليلا بعينه وهذا خطأ وقف ضده كيركجارد بقوة، حيث أن التاريخ يثبت على عكس ما قاله هيغل أن الجماعة غالبا ما يتفقون على الخطأ فيما الأفراد هم من يميلون إلى الصواب وهنا جذر حقبة التنوير .
فالأنبياء والمفكرون و العلماء والباحثون هم قلة أمام الأعداد الهائلة التي كانت و مازالت حول هذه الشخصيات، و من الطرافة أنهم يقمعون بذات الحجة قديما وحديثا ( هذا ما وجدنا عليه آباءنا ) إن كان الشأن دينيا أو علميا فسطوة الآباء هي سطوة عدد معبرة عن تاريخ مجتمع .
ولذلك يعاني الإسلام اليوم من وهم المعرفة لدى دارسيه الذين يعتقدون بقطعية كل ما ورد وكل ما أجمع عليه، بل ويضعون الإجماع كدليل قطعي رغم أن القرآن أشار إلى أن الجموع تكره الحق ( ولكن أكثرهم للحق كارهون ) وأكد على جهلهم ( ولكن أكثرهم لا يعلمون).
5 – التاريخ:
تقديس التاريخ والتعصب له كان من أهم الأسباب التي أوقدت نيران الحربين العالميتين، فالفلسفة الرومنسية بشقها الشعوبي وأنا أقصد شيلنج و هيغل أحيت في المرحلة الأولى قصص وحكايات وأساطير السابقين لحفظها، ومن ثم الافتخار والاعتزاز بها وزاد هيغل بسحق استقلالية الفرد، و من ثم واصلت بطريقة غير مقصودة عن طريق كارل ماركس ولم يقف ضد هذا الطوفان الهائج إلا كييركجارد الذي وجد نفسه كسقراط وسط الجموع في محاكمته .
فالتاريخ يعرف أنه حبر الملوك والظلمة، يصور جزءا من الحياة وليس مشهدا كاملا .
وحينما يتم تقديس التاريخ وكل ما ينتسب له سيكون الفرد هو الضحية دائما، وغالبا هذا الفرد يكون نبيا، أو مفكرا كجيوردانو ،أو عالما كغاليلي .
إن وهم المعرفة يضفي على التاريخ صفة إإيجابية تطول كل ما ينتمي لهذا التاريخ وإن خالف الخلق والفكر كون ملاحظة ذلك يتطلب إعادة النظر فيه وهذا من المحرمات .
أتمنى أن لا نركن لوهم المعرفة وأن نستغل أوقاتنا في دحض هذا الوهم وأن لا نتعصب بقدر ما نحاول أن نتعلم، وأن نعفو عمن يخطئ ويتعصب كونه مصابا بوهم المعرفة ... 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس