تمتاز
الفلسفة التحليلية بجملة من الخصائص تميزها عن المدارس الفلسفية الأخرى فى الفلسفة المعاصرة ومنها :
1- فكرة مركزية اللغة بالنسبة للفلسفة ،
إذ يعتقد الفلاسفة التحليليون أن قضايا الفلسفة يمكن فهمها جيداً عن طريق العناية باللغة . وهذا الاتجاه نحو الاهتمام باللغة أصبح يسمى فى العرف الفلسفى "
التحول اللغوى "وهو
أصدق ما توصف به الفلسفة التحليلية وتعرف فى كلمتين .
2- الاعتماد على المنهج التحليلى سواء اتخذ هذا المنهج صورة التحليل المنطقى أو التحليل اللغوى .
3- احترام نتائج العلم والحقائق التى يسلم بها الحس المشترك ،
وأخذها بعين الاعتبار عند معالجة المشكلات الفلسفية ([1]).
ولقد نسب
الفيلسوف مايكل داميت Michael Dummett الصيغة الكلاسيكية " التحول اللغوى "إلى
فريجه ،
مؤسس المنطق الرياضى الحديث ،
حيث قال : "إن موضوع بحث الفلسفة لم يحدد بصفة نهائية إلا مع فريجه ، بحيث تبين (1) أن هدف الفلسفة قائم فى تحليل بنية الفكر ، (2) وأن دراسة الفكر ينبغى أن تتميز عن دراسة عمليات التفكير النفسية،(3)
وأن المنهج الكفؤ لتحليل الفكر يستند إلى تحليل اللغة"([2]).
وهذا
ما أكده أنتونى كينى Anthony Kenny فى كتابه
"فريجه "بقوله : " .. إذا كانت الفلسفة التحليلية قد ولدت عندما حدث التحول اللغوى ، فإن ولادتها لابد من أن تؤرخ بنشر كتاب فريجه "أسس الحساب "عام 1984 عندما قرر أن الطريق إلى بحث طبيعة العدد هو تحليل الجمل التى تظهر فيها الأعداد "
([3]).
كما
أكد داميت فى موضع آخر دور فتجنشتين المهم فى هذا الشأن فقال : ".. إذا جعلنا من التحول اللغوى نقطة إنطلاق الفلسفة التحليلية ، فإننا ، على الرغم من تقديرنا لأعمال فريجه ، ومور ورسل التى هيأت الأجواء ، لن نستطيع أن نشك فى أن الخطوة الرئيسية نحو هذا التحول خطاها فتجنشتين فى كتابه "رسالة فلسفية منطقية " ([4]).
فقد رأى أن العمل الفلسفى هو فى جوهره توضيحات ،
حيث قال : "إن موضوع الفلسفة هو التوضيح المنطقى للأفكار ،
فالفلسفة ليست نظرية بل هى فاعلية . ولذلك يتكون العمل الفلسفى أساساً من توضيحات لا تكون نتيجة الفلسفة عدداً من القضايا الفلسفية إنما هى توضيح للقضايا . فالفلسفة يجب أن تعمل على توضيح الأفكار وتحديدها بكل دقة وإلا ظلت تلك الأفكار معتمة مبهمة إذا جاز لنا هذا الوصف "
([5]).
وقد
يكون الفيلسوف إير هو أول من لفت الانتباه إلى "التحول اللغوى "، فهو يقول: "
إن الفيلسوف من حيث إنه محلل ليس معنياً بالخصائص الفيزيائية التى تتميز بها الأشياء . هدف الفيلسوف هو أن ينظر فى الكيفية التى نتحدث بها عن الأشياء "
. أو
بعبارة أخرى : "إن قضايا الفلسفة ليست قضايا واقعية ،
بل هى فى طبيعتها قضايا لغوية . فهى لا تصف سلوك الأشياء المادية ،
ولا حتى الأشياء العقلية ،
بل تقتصر على التعبير عن التعريفات أو النتائج الصورية التى تترتب على التعريفات . وكنتيجة لذلك تكون الفلسفة علامة بارزة من علامات البحث المنطقى الخالص " ([6]).
و"
التحول اللغوى "
Linguistic Turn هو التحول نحو اللغة واتخاذها موضوعاً للفلسفة ؛
وهذا التحول لم يأخذ صيغة واحدة ،
كما يصوره أنصار الفلسفة التحليلية ،
وإنما يأخذ فى الحقيقة صوراً متعددة . وأصبحت عبارة "
التحول اللغوى "
أكثر انتشاراً عندما استعملها رورتى عنواناً للكتاب الجماعى الذى أشرف عليه وكتب له مقدمة نشرت عام 1967 . وهذا الكتاب عبارة عن مجموعة من المقالات أغلبها لفلاسفة مناطقة وتحليليين ،
ومنها : "مستقبل الفلسفة "
لـ (مورتس
شليك)،
" التجريبية ،
السيمانطيقا ،
والأنطولوجيا "
لـ)رودلف كارناب)،
" الوضعية المنطقية ،
اللغة ،
وإعادة بناء الميتافيزيقا "
لـ (
كوستاف برجمان )
، "التعبيرات النسقية الخاطئة "
لـ (
جيلبرت رايل ) و
" معضلة
فلسفية "
لـ (
جون وزدم )
و "
التقدم السيمانطيقى "
لـ (
ويلارد كواين)
و "
الاكتشافات الفلسفية "
لـ (
ر.م. هير) و
" أرامسون ودارنوك "
لـ (
جون أوستن ) ،
" مدخل
إلى اللغة : الكلمات والمفاهيم "
لـ (
ستيوارت هامبشير )
، " تاريخ
التحليل الفلسفى "
لـ
(أرامسون ) و
" التحليل ،
العلم ،
والميتافيزيقا "
لـ (بيتر
ستروسون)
.. الخ .
يقول
رورتى فى مقدمة كتابه "
التحول اللغوى "
: " إن الهدف الذى يصبو إليه هذا الكتاب يتصل بتقديم معطيات تمكن من التفكير فى الثورة الفلسفية التى حدثت فى السنوات القليلة الماضية ، أى فى الفلسفة اللغوية. وأعنى " بالفلسفة اللغوية " هنا " تلك الرؤية التى تقضى بأن المشكلات الفلسفية يمكن حلها سواء بإصلاح اللغة ، أو بالمزيد من الفهم الذى يمكن أن نصل إليه حول اللغة التى نحن بصدد استعمالها " ([7]). وهو
يعرف "التحول اللغوى "
بأنه ذلك " التحول الذى اتخذه الفلاسفة فى اللحظة التى هجروا فيها الخبرة بوصفها موضوعاً فلسفياً وتبنوا موضوع اللغة وبدأوا فى السير خلف خطى فريجه بدلاً من لوك " ([8]).
وأكد
رورتى هذا المعنى فى موضع آخر فقال : " لقد اتخذت صورة الفلسفة القديمة والوسيطة " الأشياء " Things منطلقاً لها ، واتخذت الفلسفة فى القرون من السابع عشر إلى التاسع عشر " الأفكار " Ideas منطلقاً لها ، ويتم توضيح الساحة الفلسفية المعاصرة بواسطة " الكلمات " Words ([9]).
وأضاف رورتى أن النظام المعرفى المسمى حالياً "
فلسفة اللغة "
له مصدران أساسيان :
المصدر الأول : جملة المشكلات التى عالجها فريجه وناقشها ،
على سبيل المثال ،
فتجنشتين فى "الرسالة" ،
وكارناب فى "المعنى
والضرورة "
. وهى مشكلات بخصوص معرفة كيفية تنظيم أفكارنا عن المعنى والإشارة بطريقة تمكننا من الإفادة من المنطق الكمى ،
والحفاظ على حدوسنا عن منطق الجهة ،
وبصفة عامة ،
تقديم صورة واضحة ومرضية حدسياً تتشكل من مفاهيم "
الحقيقة "
، و"المعنى" ،
و" الضرورة "
و" الإسم "
. ويسمى رورتى هذه الفئة من المشكلات "
موضوع فلسفة اللغة الخالصة "
، وهى
نظام ليس له شكل معرفى ولا حتى أى علاقة مع معظم الاهتمامات التقليدية للفلسفة الحديثة .
المصدر
الثانى : هو المصدر المعرفى ،
ويتمثل فى محاولة استعادة صورة الفلسفة الكانطية كإطار تاريخى دائم للبحث فى شكل "نظرية المعرفة "
. فقد بدأ "
التحول اللغوى " كمحاولة لتقديم نزعة تجريبية غير نفسية عن طريق إعادة صياغة الأسئلة الفلسفية بخصوص المنطق . ولقد جرى الاعتقاد بأنه من الممكن الأن ،
تقديم المذاهب التجريبية والفينومينولوجية ليس بوصفها تعميمات تجريبية – نفسية ولكن كنتائج "
للتحليل المنطقى للغة "
. وبوجه عام ،
إن الفعاليات الفلسفية حول طبيعة المعرفة الإنسانية ومجالها (
على سبيل المثال ما قدمه كانط من مزاعم معرفية حول "
الإله "
و "
الحرية "
و "
الأخلاق") يجب أن تقدم من جديد فى شكل ملاحظات أو تعليقات حول اللغة ([10]).
ويرى
رورتى أن "
الفلسفة التحليلية "
بوصفها صورة من التجريبية قد انطلقت فى عصرنا من أعمال رسل وكارناب – الخ- وأن الفيلسوف إير هو الذى استوعب هذه الأعمال وقام بنشرها وتفسيرها خاصة فى كتابه "
اللغة والصدق والمنطق "
(1936) . حيث
قدم من خلاله جملة من الأفكار التى تشكل ما يسمى فى عصرنا "
الوضعية المنطقية "
أو "
التجريبية المنطقية "
وهى الأفكار نفسها التى أعادت الابستمولوجيا التأسيسية للتجريبية البريطانية إلى مجراها اللغوى بدلاً من النفسى . وهذه الأفكار تختلف بشكل كبير عن الأفكار التى تشكل الأساس لما يسمى ،
أحياناً ،
" فلسفة
تحليلية ما بعد الوضعية "
– وهى فرع من الفلسفة يقال عنه أنه "
أبعد من "
أو "
تجاوز "
للتجريبية والعقلانية ([11]).
ويقول
رورتى : " إن التحول الذى حدث داخل الفلسفة التحليلية منذ بداياتها فى حدود 1950
م ،
إلى غاية اكتمالها فى سنة 1970م
، من
الصعب رصده بيسر وتحديده بدقة ،
فهو يرجع إلى تفاعل معقد لقوى كثيرة صاحبت الفلسفة التحليلية . لكن مع هذه الصعوبة هناك ثلاثة أعمال رئيسية ساهمت فى مسار الفلسفة التحليلية وهى : "معتقدان للتجريبية "
لـ ( ويلارد فان أورمان كواين) و " بحوث فلسفية " لـ ( لودفيج فتجنشتين ) و" التجريبية وفلسفة العقل" لـ ( وليفرد
سيلرز) ([12]).
ومقال
سيلرز ،
من بين تلك الأعمال الثلاثة ،
والذى يتصف بالتعقد والثراء ،
هو أقلها شهرة ومناقشة . فقد أكد مؤرخوا الفلسفة الأنجلوأمريكية أهمية مقال كواين فى إثارة الشكوك حول فكرة " الصدق
التحليلى "
وكذلك حول فكرة رسل وكارناب القائلة "
بأن الموضوع الرئيسى للفلسفة يجب أن يكون "
التحليل المنطقى للغة ".
كما عملوا على إبراز قيمة مقال فتجنشتين ودوره فى هدم كثيراً من مشكلات الفلسفة التقليدية . ومع هذا ،
فإنهم لم يسلطوا الضوء بشكل كاف لتقدير دور سيلرز فى هذا المجال. وسيلرز (1912
-1982) بأعماله العديدة ورؤيته الموسوعية والعميقة بتاريخ الفلسفة قد تميز عن كثير من فلاسفة التحليل وعلى رأسهم كواين وفتجنشتين؛ فهو يقول : " إن الفلسفة من دون تاريخ الفلسفة، إن لم تكن عمياء ، فإنها على الأقل تكون خرصاء "([13]).
والحقيقة
أن محاولة رورتى للجمع بين "
التجريبية "
و "العقلانية" تعتمد
أساساً على أفكار سيلرز وخاصة فى كتابه "التجريبية وفلسفة العقل
" . وهو
الكتاب الذى أشاد به رورتى واعتبره من أكثر الأعمال جاذبية فى عصرنا ،
ولا يمكن التعرف على مشروع سيلرز الفلسفى من دونه . والفكرة الرئيسية فى هذا الكتاب هى قول كانط : " الحدوس من دون مفاهيم تكون عمياء "
. فوجود انطباع حسى ،
هو فى حد ذاته ليس مثالاً للمعرفة ولا للخبرة الواعية . سيلرز ،
مثل فتجنشتين المتأخر ،
وعكس كانط ،
رأى أن وجود "مفهوم
" يعنى
" التمكن من استعمال كلمة "
. ولذلك فهو يقول : " إن كل وعى بالأنواع ،
وبالتماثلات ،
وبالوقائع .. الخ ،
أى باختصار ،
كل وعى بالكيانات المجردة – بل حتى كل وعى بالجزئيات هو "
عمل لغوى" . ومذهبه الذى سماه "
النزعة الاسمية السيكولوجية" Psychological Nominalism يوضح
– كما يرى رورتى – أن لوك ،
وباركلى ،
وهيوم كانوا مخطئين فى اعتقادهم أننا "
ندرك أنواع محددة .. وذلك ببساطة بفضل وجود أحاسيس وصور([14]).
و" النزعة الأسمية السيكولوجية "
عند سيلرز مبنية على أسلوب فتجنشتين فى كتابه "بحوث
فلسفية "
، والذى
أكد ارتباط المعرفة بالممارسة الاجتماعية .. وتؤدى إلى تضييق الخلاف ،
بل والجمع بين توجهات "
العقلانيين "
و "
التجريبيين " ([15]).
وذلك من
خلال توسط اللغة ومعالجة المشكلات الفلسفية بالرجوع إليها .. يقول سيلرز : " إن التحكم فى اللغة هو الشرط الضرورى لكل خبرة واعية "
([16]).
ويقسم
رورتى فلاسفة العقل واللغة إلى قسمين : فلاسفة ذريين Atomists وفلاسفة
كليين Holists ؛ وهؤلاء جميعاً يرون أن أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات هو العقل واللغة . وقد زادت حدة الخلاف بين الفريقين منذ نشر كتاب "
مفهوم العقل "
لـ "
رايل "
، و " بحوث
فلسفية "
لـ "
فتجنشتين "
، و
" التجريبية ومفهوم العقل "
و
" معتقدان للتجريبية "
لـ "
كواين "
. فقد شك فتجنشتين فى منطلق النظرية النسقية للمعنى ،
وسخر كواين من القول "
بوجود كيانات تسمى (معانى)
مرتبطة بالتعبيرات اللغوية" ،
وشك رايل فى تصورات علم النفس التجريبى ،
وسار سيلرز على نهج فتجنشتين بقوله إن ما يميز البشر هو قدرتهم على التخاطب مع بعضهم البعض ،
وليس امتلاكهم حالات عقلية داخلية متماثلة بشكل ما مع حالات بيئتهم ([17]).
وبعد
أن تربى رورتى فى أحضان الفلسفة التحليلية ،
وتمرس على آلياتها سرعان ما تمرد عليها وانتقدها بعدما اكتشف إخفاقاتها المتنوعة .
الهوامش
(1) د. صلاح إسماعيل : نظرية جون سيرل فى القصدية ،
دراسة فى فلسفة العقل ، حوليات الآداب
والعلوم الاجتماعية – الحولية السابعة والعشرون ، مجلس النشر العلمى، جامعة الكويت
، 2007 ، ص34 .
(2) Timothy Williamson : Op – cit , pp- 11-12.
(3) Anthony Kenny : Frege : An
Introduction to the Founder of Modern
Analytical
philosophy ,
oxford , Blackwell, 2000, p-211
(4)
Michael Dummett : Origins of Analytical philosophy , Cambridge, Mass :
Harvard university press, 1996 , p- 25 .
(5) لودفيج فتجنشتين : رسالة فلسفية منطقية ،
ترجمة د. عزمى إسلام ،
مراجعة د/ زكى نجيب محمود ،
مكتبة الأنجلو المصرية ،
1968 ، ص
ص 36
، 37 .
(6)
Alfred Jules Ayer : Language, Truth and logic, Penguin Books,
1936,p- 76.
(7) Richard Rorty : The
Linguistic Turn , Essay in philosophical Method , The University of Chicago
press, 1992, p- 3 .
(8)
محمد جديدى : مرجع سابق ، ص 256 .
(9) Richard
Rorty : Philosophy and the Mirror of Nature , p-263.
(10) Ibid , pp- 257-258 .
قارن د.محمد جديدى :
مرجع سابق ص 259
(11) Richard Rorty : "
Introduction " In " Empiricism and the philosophy of Mind "
edited by willforid Sellars, Cambridge, Mass, Harvard University press, 1997,
p-1 .
(12) Ibid , pp- 1-2 .
(13)
Ibid, pp- 2-3 .
(14) Ibid, pp- 3-4 .
(15) Ibid, pp- 4-5 .
(16) Ibid, p- 9 .
(17)
Richard Rorty : Contingency, Irony and solidarity, Cambridge university
press, 1995, pp—176 – 180.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية