دور الجيش : بين الفقيه والفيلسوف

دور الجيش : بين الفقيه والفيلسوف

بقلم يوسف قشار: باحث في الفلسفة

"ان انغماس الجيش في تدبير الشأن العام يؤدي الى فساد المدينة "، فكرة تم الإجماع عليها نتيجة مسار طويل من التجارب السياسية أثبتت وأد الديموقراطية بولوج راكبي الدبابات الى الحقل السياسي، أي أن نسف العملية الانتخابية – كسبيل مؤسس لحكم الشعب نفسه بنفسه – تم في أغلب الحالات بخروج حراس المدينة من ثكناتهم الى المؤسسات المحركة لدواليب الدولة... واذا كان هناك اتفاق على أن المكان الطبيعي و الحيوي للجيش هو الحدود. فهل هذا الاتفاق آني ومعاصر استفردت بتناوله الفئة المدركة اليوم، أم أنه يتجاوزنا الى اللحظات الزمنية الفائتة ...؟ وما هو موقف المثقف عندنا وعند غيرنا من هذه المسألة...؟
ابن حزم : من جيش الأمة الى دولة العسكر
انتقد ابن حزم بشدة تشكيل الدولة الأموية لجيش نظامي، الذي عد تجربة غير مسبوقة والأولى من نوعها في تاريخ الحضارة الإسلامية العربية، حيث كان الإعلان عن الجهاد إشارة داعية الى تحويل كل الذوات القادرة على حمل السلاح الى جيش. فنحن نجد بأن الخلفاء الراشدين ومن قبلهم الرسول (ص) لم يشكلوا جيشا نظاميا، بل التزموا بفكرة أن حمل السلاح مسؤولية وواجب شرعي على كل من له القدرة على المشاركة في التصدي للعدوان الخارجي. فمع مسيرة جيل من التدبير السياسي ابتدأ بالنبي وانتهاء بعلي بن أبي طالب ترسخ معيار انتقاء عسكري تحدد بموجبه كون القدرة على حمل السلاح شرط الالتحاق بجيش الأمة، لا يرفع هذا الواجب الديني الا الافتقار الى مركب نتيجة بعد أرض المعركة بمسافة قطعها راجلا يتعدى الاستطاعة البشرية، " ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا و أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون" التوبة الآية 92. وكان المانع الثاني المعيل الوحيد لوالدين كبيرين في السن، قد يؤدي استشهاد الابن إلى تشردهما، وهو ما قد يؤدي الى أزمة تهدد التماسك الداخلي لدولة هي في أمس الحاجة الى الاستقرار لتحقيق الفتوحات الخارجية "جاء رجل الى رسول الله يستأذنه في الجهاد. فقال أحي والداك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد"، رواه البخاري ومسلم.            
كانت الارهاصات الأولى لفكرة الجيش النظامي بدأت بعد الخلاف بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب و الانقلاب القيمي الذي أحدثه الطرف الأول (معاوية) في المفاهيم المشكلة للعقل السياسي العربي ( العقيدة و الغنيمة و القبيلة)، و التي حولها الى ( الغنيمة ثم القبيلة و أخيرا العقيدة)، فأصبح العطاء المالي و التحيز القبلي المحفز الأساس للالتحاق بالمعسكر الأموي، الذي فقد نفوذه على العرب بعد إلغاء الانتماء القبلي و الاثني كشرط الاجتماع، وحلت محله العقيدة كناظم يلم كل الأجناس و الألوان مع قدوم الإسلام وهو ما حافظ عليه علي بإبقائه على ترتيب مكونات العقل السياسي كما تم تأسيسها مع التجربة النبوية.                                 كان قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان من طرف ما سمي بالثوار، وسهولة هذه العملية أمام حاكم دولة هي الأكبر آنذاك، هو ما أوحى لأبي سفيان بفكرة تشكيل جيش رادع ومتفرغ تابع للدولة وخادم لأهدافها، يتقاضى أجره من بيت المال لا من غنائم المعارك. وقد أضحى هذا الإنشاء، عند استيلاء الأمويين على الحكم بعد اغتيال علي، أول عملية تشويهية لدور الجيش الذي تحول الى حام للأنظمة قبل أن يكون خالقا للفتوحات ومساهما في الامتداد الأفقي للدولة. إن التأمل في الطريقة النبوية في تعاملها مع دور الجيش يوحي بأننا كنا أمام تجربة فريدة، يصبح بموجبها الدراية بالقتال وحمل السلاح فرض عين على كل المنتسبين للدولة، التي تسهر على توفير الإمكانيات المادية لتدريب أبنائها على الدفاع عن حوزاتها. ان وصية الرسول(ص) على تعليم الأبناء السباحة والرماية وركوب الخيل، والتي هي رياضات عسكرية بالإضافة الى المعطيات التاريخية، تزيد في تكريس فكرة جيش الأمة الذي يتحول معه الشعب بمختلف أبنائه الى جنود غير متفرغين للتدريب على القتال فقط، بل يقومون بوظائف في مختلف القطاعات يصاحبها التدريب اليومي أو الأسبوعي أو الشهري على اتقان استعمال السلاح، وتبدأ العملية التعليمية هذه في اللحظة الأعلى من الطفولة. مع هذه التجربة ستحافظ الدولة على العديد من الإمكانيات المادية التي تنفق على الآلاف من الجنود هم اليوم في حالة عطالة دائمة، وحتى إذا قاموا من سباتهم فغالبا ما توجه أسلحتهم اما الى دولة شقيقة، واما الى الطلائع الثورية الرافضة لسيطرة الأنظمة الشمولية المتحكمة في مصير شعب رافض للقهر وطامح للانعتاق.                                                               
أمام تجربة جيش الأمة بدل عسكر الأنظمة، لا يمكن أن تفكر أي دولة احتلالية -مهما كانت قوتها العسكرية –في اجتياح دولة أخرى مهما كان حجمها تمتلك شعبا كل أعضائه قادرين على حماية حدودها. وأمام هذا النموذج الذي تم وأده في مهده من طرف الاستبداد الأموي، لا يمكن أن تحاول أي عصابة عسكرية أن تصادر إرادة شعب بالانقلاب على نظام ديموقراطي أتى باختيار الناس، وحملته صناديق الاقتراع الى سدة الحكم. أمام هذا المثال الذي نأسف على ضياعه كان سيستحيل أن يتغول أي نظام سياسي مهما كانت سيطرته، على مفاصل الدولة وأن يستولي على باقي السلط ويتحول معه من نظام خادم للشعب الى نظام خادع له، لأن شرط الديمومة والخلود مقرون عند الحكم الاستبدادي بوجود هذه القوة الرادعة في متناوله، وهذا ما أزاحه نموذج جيش الأمة .
ان استتباب الديموقراطية في الجسم العربي اليوم، مشروط بعودة الجيوش الى أوكارها، وتحولها من حراس أنظمة الى حماة شعب، وانقلابهم من عسكر الدولة الى جيش الأمة. وهي تجربة لا يمكن أن يسمح بها أبدا أي نظام يريد الاستفراد بكرسي الحكم. وهذا ما قام به معاوية رائد العملية التحريفية لدور الجيش والناسف لتجربة جيش الأمة قبل اكتمالها. ان نقد ابن حزم لهذا الاغتيال الذي تعرضت له الجيوش الإسلامية بهذا التأميم، يشي بخصوبة خيال هذا الفقيه المنطقي، ورفضه تشكيل جيش نظامي من طرف الأمويين، كان وليد ايمانه بأن الجيوش النظامية بدعة ناتجة عن محاكاة للثقافة الساسانية، الغاية منها حماية الأنظمة التي يسوسها أنصاف الآلهة، والتي ترفض بالقوة كل رد فعل مواجه للقهر ومطالب بالحرية. كما أن نقد ابن حزم لما قام به الأمويون كان نابعا من اعتباره الجهاد فرض عين، لا يمكن أن نخصص له فئة من الناس، وهو واجب لا يمكن أن يتقاضى الجندي أجره الشهري على هذا السلوك الذي يعد ذروة سنم الإسلام، وهو ما جعل صاحب " طوق الحمام"، يستخلص بأن هذه الجيوش لم توجد للقيام بالفريضة السادسة في هذا الدين، وانما اصطنعت بخراج خيرات الشعوب لخدمة أقلية استولت على مقاليد السلطة وحولت الدولة الى أول عدو للأمة.                                                    
ان الاستقصاء التاريخي، سيجعلنا نكتشف بعد تواري الدولة الأموية، بأننا انتقلنا من لحظة كان فيها الجيش سيفا للنظام، الى مرحلة أضحى فيها العسكر خالق لهذه الأنظمة وخانق لشعوبها، وخاصة في الحياة الأخيرة للدولة العباسية، بعد ترهل سلطة الخليفة نتيجة اتساع رقعة هذه الإمبراطورية، واستيلاء قواد العسكر على جل أقطارها. ان هذه الحلة الجديدة التي لبسها هؤلاء، جعلتنا أمام واقع أبشع مما عشناه في السابق، وهو أقرب إلى الانقلاب العسكري كما نعرفه اليوم، و الذي يتحول فيه الجيش من خادم الى مخدوم، ومن عبد للحاكم إلى سيد على الكل، أي أننا مع الحكم العباسي سننتقل من عسكر الدولة الى دولة العسكر(سلاطين التغلب)، وهي وضعية كان تجنبها ممكنا لولا البدعة السيئة التي سنها بنو أمية، اعتقادا بأنهم يخلدون وجودهم السياسي في اللحظة التي كانوا يبنون فيها تجربة تغيب الفاعل المدني أمام استيلاء العسكر على حكم من وجدوا لحمايتهم لا التحكم فيهم.
ان نقد ابن حزم للتجربة الأموية على وجه الخصوص دون النموذج العباسي رغم بشاعته، يعود الى أن بني أمية كانوا أصل هذا الانعراج عن السبيل الذي وضع من أجله الجيش، ولولا هذا التغيير لهوية العسكر لما تمكن هؤلاء من السطو على السلطة في الإمبراطورية الثانية، وربما لما كان عالمنا العربي يعيش اليوم هذه الوضعية التي أضحينا فيها مهددون دائما اما باحتلال ذاتي ننتقل فيه الى دولة العسكر، أو احتلال من طرف قوة خارجية. ولا يختلف اثنان بأن الاحتلال أقل ضررا من الانقلاب، رغم أن مساوئهم واحدة: القتل والنهب و التعذيب وسلب الحريات و السطو على الممتلكات العامة و الخاصة... لكن مع الاحتلال الأجنبي سنحظى على الأقل ببطولية المقاومة عند وقوفنا ضد هذه القوة الغازية، وبشرف الاستشهاد إذا قتلنا في ميادين المعركة ونحن ننافح من أجل الانعتاق، وهو ما لا يمكن أن يتمتع به من حمل حجرة ضد العسكر الانقلابي، أو عصى ضد دبابة حولت مكانها من حدود البلاد الى أزقتها وشوارعها.

  أفلاطون : الكفاءة المعرفية معيار تولي المسؤولية 
شغل الجنود حيزا مهما في التفكير الأفلاطوني أثناء تشييده الافتراضي للمدينة الفاضلة. حيث كان تفرد الطبقة الغاضبة بالقوة مصدر انزعاج صاحب الجمهورية، من إمكانية استغلال هذه الفئة لهذا الوضع واستعمال الأسلحة في غير محلها،لتحقيق أحلام وتولي مهام ومناصب لا يمكن الوصول اليها الا ببلوغ درجات أعلى من العقل لا العنف.                                                   ان شساعة خيال أفلاطون، جعلته يضع افتراضات غير واردة في تلك اللحظة التاريخية، وهو ما دفعه الى خلق حواجز استباقية تقي دولته من أول عدو غير خارجي، والذي لا يمكن أن يكون سوى من يجب أن تتوفر فيهم فضيلة الشجاعة لا غيرها، أي الجنود.         كان أول مانع وضعه أفلاطون لحماية المدينة من السطو العسكري، هو جعل المهام والمناصب مرتبطة بالكفاءة العلمية، التي بلغ الفلاسفة أعلى دروة سنمها باعتبارهم الوحيدون الذين تمكنوا من النجاح في كل الاختبارات التي مروا منها في حياتهم الدراسية، وهو ما خول لهم أن يكونوا في أعلى هرم الدولة وحكاما لها، يليهم في المرتبة الجنود ثم الطبقة الثالثة أي الصناع. وقد اكتست كل طبقة من هذه الطبقات الثلاث المشكلة للمدينة بفضيلة من الفضائل، حيث كانت الحكمة خاصية الفلاسفة والشجاعة فضيلة الجنود أما الاعتدال فهو ما يجب أن تلتزم به الطبقة الشهوانية. وقد اعتبر أفلاطون بأن الجمهورية لا يمكن أن تعرف استمرارا أو استقرارا الا بوجود فضيلة رابعة وهي العدالة.ان تحديد مهام كل طبقة والإصرار على عدم تدخل كل فئة في شؤون الأخرى، بل اعتبار انصراف كل واحد الى القيام بواجبه دون الالتفات الى الغير هو العدالة، يعبر بعمق عن التخوف الذي كان يراود تلميذ سقراط من إمكانية سطو العسكر على مقاليد الحكم. ولتجنب كذلك هذه الآفة التي تهدد استقرار الدولة، اعتبر فيلسوفنا بأن الجيوش من الفئة العمرية الشابة، وهي المرحلة التي تغلب فيها القوة البدنية عن الكمال العقلي، والدول لا يمكن أن تدبر بالقوة بل بالحكمة التي هي فضيلة الفلاسفة. كما أن قيادة المدينة يجب أن يقوم بها أكمل الناس وليس أدناهم أو أوسطهم، لأن الدولة التي تحكم "بالنحاس والحديد مهددة بالفناء" 'محاورة الجمهورية صفحة 116'، وبالتالي لا يمكن أن تكون الفضة كمعدن أدنى من الذهب هي المكلف برعاية المدينة الفاضلة.
وقصد الحيلولة أيضا دون تفكير الحراس في القيام بمهمة الفلاسفة داخل المدينة، وذلك باستغلال القوة في الاستيلاء على الحكم وتحولهم من حراس الى حكام، أخضع الجنود الى اختبارات صارمة وذلك بالإلقاء بهم منذ الصغر وسط أشياء مخيفة، ثم إغرائهم بملذات لمعرفة ان كانوا سيقاومون المغريات ويظلون على استقامتهم في كل الظروف، و يحافظون على إيمانهم بأن المصالح العامة للدولة فوق كل المطامح الذاتية، أم أنهم سيتخلون عن هذا المبدأ من أجل تحقيق أحلام وغايات تفوق امكانياتهم العقلية وتتجاوز صنف الفضيلة التي يجب أن يلتزموا به. ومن خلال هذا الاختيار، سيتم انتقاء من بين الجنود أشدهم أخلاقا وأكثر حماسة للقيام طوال حياتهم بما يرونه نافعا للدولة ويأبون أن يفعلوا، بأي ثمن، ما يتعارض والصالح العام. وفي المقابل يستبعد من هذه المهمة – التي لا تقل شرفا عن باقي الوظائف-كل من يرسب في هذا الامتحان الكاشف عن نوايا من يريدون أن يتجاوزوا مهمة مساعدة الحكام وتنفيذي قراراتهم بحماية حدود الدولة من أي اعتداء خارجي، الى تحويل أسلحتهم للداخل طمعا في تحقيق ما كلت عقولهم عن بلوغه. وقد شبه أفلاطون هؤلاء المنقلبون من حماة المدينة الى محتليها بالذئاب المتوحشة والتي كانت في الأصل كلابا وفية حارسة للمواطنين ومنافحة عن وجودهم، قبل أن تنتقل الى قتلهم بعد هذا الانقلاب في الطبع نتيجة الابتعاد عن فضيلة العدالة. ولتثبيت هذه الفضيلة الرابعة التي تهتز بغيابها أركان المدينة الدولة، جعل صاحب المحاورات الحكم مسؤولية خالية من أية مغانم، فلا يحق للفلاسفة باعتبارهم حكاما أن تكون لهم ممتلكات خاصة و لا عقارات، بل لا يحق لهم أن يستعملوا حتى الأواني المصنوعة من المعادن النفيسة، معتبرا السعادة تتحقق بالفضيلة لا بالغنى .كما أن إصرار أفلاطون على تدبير المدينة من طرف الفلاسفة لا غيرهم، هو وليد إيمانه العميق بكمال أخلاق هؤلاء و تعاليهم عن الشوائب المادية، وهو ما لا يمكن أن نجده أبدا عند المحاربين.
صفوة القول:
ان رفض ابن حزم للجيش النظامي، والشروط الصارمة التي وضعها أفلاطون لاختيار حماة المدينة، يعكس تخوف الفقيه المنطقي والفيلسوف اليوناني من الانحراف الذي قد يقع فيه الجنود بالابتعاد عن الدور الذي وجودوا من أجله الى ما لم يكلفوا به، وما لا قدرة لهم على تدبيره. فرغم التباين التاريخي واختلاف المجال التداولي بين ابن حزم الذي لعب دور الناقد لتجربة سياسية حقيقية وواقعية كاشفا عن مساوئها. وصاحب المحاورات الذي يقوم بدور المنظر السياسي لتجربة حكم فاضل تستقر فيه العدالة بانصراف كل فئة من أفراد المجتمع الى وظيفتها، دون الطمع فيما بيد الآخرين من مهام. فقد اتفقا على أن العدل والاستقرار لا يتحقق الا بانصراف الجيوش الى وظيفتها الدفاعية عن حوزة الوطن دون الطموح الى أمور تسمو عن قدراتها (الحكم) أو ترتكس بها عن شرف ما وجدت من أجله (حماية الأنظمة)، وان كان أحدهما يدافع عن نموذج جيش الأمة والآخر يناقش تجربة الجيش النظامي .

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس