تاريخ الفكر اللغوى
عند عالم اللغة الأمريكى بلومفيلد
أ.د.ابراهيم طلبه سلكها
أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة
ورئيس قسم الفلسفة
كلية الآداب-جامعة طنطا -مصر
لقد
تتبع بلومفيلد تاريخ الفكر اللغوى عند الهنود واليونانيين والرومانيين وفى
العصور الوسطى والعصر الحديث فى أوربا حتى دى سوسير . وهذا ما سوف نوضحه فى
الصفحات التالية: بداية يجب الإشارة إلى أن
القدماء كانوا أعلى وعياً باللغة ومشكلاتها ، كما هو ثابت فى الفصل الخاص ببرج
بابل الوارد فى سفر التكوين . ومن الأمثلة القديمة للاهتمامات اللغوية البدائية
استخدام المترجمين فى بلاط الفراعنة ، والنقوش القديمة المكتوبة بلغتين أو ثلاث
محفورة على الحجارة فى المناطق التى كانت تستخدم أكثر من لغة ، كذلك معجم الأنواع
المزدوج للغة الموضوع باللغتين السومارية والأكادية ([1]).
يرى ماريوباى أن
الاهتمام باللغة ومشاكلها قد بدأ مع فلاسفة اليونان القدماء والنحاة السنسكريتيين.
ففى حين ناقش الأولون أصل اللغة وطبيعتها ، حاول الآخرون أن يقننوا لغتهم ويضعوا
لها القواعد الخاصة ، بها والذي يبدو أن النحاة اليونانيين قد شقوا في النهاية
طريقهم مستقلين عن الهنود ، وتوصلوا إلى وضع نظام نحوى يناسب لغتهم وغيرها من
اللغات الشبيهة بها في التركيب ، تلك اللغات التى لها أنواع نحوية متميزة تعبر عن
الجنس والعدد والحالة والشخص والزمن والصيغ الفعلية ، وتعد تراكيبها جزءا لا يتجزأ
منها ، ويمكن التعرف عليها بملاحظة الصيغ ، أو بملاحظة المعانى والوظائف ، وكذا
اللغات التى تقع كلماتها فى مواقع متميزة بحيث يمكن ببساطة أن توصف بأنها اسم او
صفة او فعل –
ألخ ، وليس عن طريق الإشارة إلى سلوك الكلمات فى الجملة فقط ، ولكن أيضا عن طريق
الإشارة إلى طرق تركيبها ، وطرق تشكيل نهايتها ، وتغييراتها الداخلية التى يختص كل
منها بنوع معين من أنواع الكلام ([2]).
وهذا ما يؤكد عليه بلومفيلد
حيث يرى أن اليونانيين القدماء قدموا عدة تصورات غير مسبوقة عن أصل اللغة وبنيتها
وتاريخها؛ فمثلا هيرودوت Herodotus يروى
أن ابسماتيك Psammitichos ، فرعون مصر ، أراد أن
يعرف أى الأمم أعرق ، فعزل طفلين حديثى الولادة وحدهما في حديقة ، فلما أخذا فى
الكلام ، نطقا بكلمة Bekos وهى الكلمة " الفريجية
" Phryglan التى تدل على الخبز ([3]).
وأفلاطون (427–
347 ق .م ) فى محادثة "كراتيليوس" Cratylus
يناقش أصل الكلمات ، ويناقش مسألة مهمة ،
ظلت تشغل اللغويين والمفكرين أزمنة طوالا ، هى مسألة العلاقة بين الأشياء
والكلمات التى تسميها ، أهى علاقة طبيعية وضرورية ؟ أم أنها لا تعدو أن تكون
ثمرة "اصطلاح" الجماعات الإنسانية ؟([4])
.
ويقول بلومفيلد إن
هذه المحاورة تعطينا لمحة أولى سريعة عن مسألة طال الخلاف فيها بين القياسيين Analogists و الشذوذيين Anomalists ، فالقياسيون كانوا يعتقدون أن اللغة فى أساسها " طبيعية Natural
" فهى لذلك " منتظمة " ( أى مطردة
القواعد ) Rgular و" منطقية " Logical ، أما الشذوذيين
فكانوا ينكرون هذه الأمور ، ويرون أن اللغة غير منطقية وأبرزوا شذوذيات البيئة
اللغوية . كان القياسيون يعتقدون أنه من الممكن تتبع أصل الكلمات ومعناها بالنظر
فى أشكالها ، وسموا البحث فى هذا " الاشتقاق " Etymology ([5]).
ومثل بلومفيلد لهذه
النظرية ، مصطنعاً أمثلة من اللغة الإنجليزية فقال : من الواضح أن كلمة Blackbird
(الشحرور ) تتكون من Black (أسود) وbird
(طائر) فهذا النوع من الطيور سُمَّى بهذا الاسم
من أجل لونه الأسود ، وهذه التسمية صادقة حقا علي هذه الطيور ، فهى " طيور
" وهى " سوداء " ، وعلى هذا المنوال توصل اليونانيون إلى وجود
علاقة بين Gooseberry ( "عنب الثعلب"
وهو ثمرة من فصيلة التوت) وبين Goose(إوزة)؛ لأن الكلمة
الثانية هى مصدر الكلمة الأولى ، علماً بأنه لا علاقة بينهما سوى هذا الشبه .
وكانت مهمة علماء الاشتقاق هى إيجاد هذه العلاقة ([6]).
فكثير من الكلمات الإغريقية كما هو الحال فى اللغة الإنجليزية تستعصى على هذا
النوع من التحليل ؛ فكلمة Early (مبكرا ) تنتهى بمثل ما
تنتهى به كلمة Manly (رجولى ) ، ولكن من الواضح
أن الكلمة الثانية مكونة من Man
(رجل ) مضافا إليها اللاحقة (LY ) أما ما يتبقى من
الكلمة الأولى بعد تجريدها من اللاحقة (ly) فهى بقية غامضة لا
تعين فى تفسير معنى هذه الكلمة . وكذلك كلمة Woman
(امرأة ) تشبه كلمة Man
(رجل) ولكن المقطع الأول فى الأول وهو WO
غامض لا يعين فى تحديد معنى الكلمة . فى هذه
الأحوال وما إليها ، كان اليونان وتلامذتهم من الرومان ، يلجئون إلى الحدس
والتخمين ، ومن ذلك أنهم قالوا إنَّ الكلمة اليونانية Lithos
(حجر) مشتقة من العبارة Lian
Theein (الجرى الكثير ) لأن هذا هو ما لا تفعله الحجرة ([7]).
وبعد ذلك يقول بلومفيلد :
" إن هذه الاشتقاقات ، على أى حال ، ترينا أن الصور الكلامية Speech- Forms تتغير
على مر الزمن ، وفى الدراسة المنهجية لهذا التغير وجد الدارسون المحدثون ، المفتاح
لحل معظم المشكلات اللغوية ، وإن كان القدماء لم يبدوا أى عناية بدراسة التغير
اللغوى ، وكان اليونانيون القدماء لا يدرسون اللغة ذاتها وإنما اهتموا بموضوعاتها
، فاعتقدوا أن بنية لغتهم تبرز الصور العامة للتفكير الإنسانى ، أو ربما للنظام
الكونى Cosmic Order ، ولقد قاموا تبعا لهذا
بملاحظات نحوية ، ولكنهم قصروها على لغة واحدة ، هى اللغة اليونانية فى صورة فلسفية
. واكتشفوا أقسام الكلام الخاصة بلغتهم ، وتراكيبها السنتاطيقية ؛ مثل المبتدأ Subject
، والخبر Predicate ، وكذا فصائلها
التصريفية الرئيسية : الجنس Gender ، العدد Number ، الحالة Case ، الشخص Person
،الزمن Tense ، والصيغة Mode . ولم يحددوا كل ذلك
بمصطلحات صور لغوية يمكن إدراكها " إنما بمصطلحات تتعلق بمعنى الصنف
اللغوى" وهذه الملاحظات النحوية تبلغ كمالها فى نحو ديونسيوس ثراكس Thrax Dionysus ( فى القرن الثانى ق.م)
، وفى نحو أبولونيوس ديسكولوس Apollonius
Dyscolus (
فى القرن الثانى بعد الميلاد) ([8]).
فلقد بدأ ديونسيوس
بمقدمة عن محيط الدراسات القواعدية كما كان يراها علماء القواعد السكندريون ، فهو
يكتب :" القواعد هى المعرفة العلمية باستعمالات كتاب الشعر والنثر للألفاظ
وتشتمل على ستة أقسام: الأول عن القراءة الصحيحة (بصوت مرتفع) مع وجوب مراعاة
الأوزان العروضية ، والثانى عن تفسير التعابير الأدبية فى المؤلفات ، والثالث عن
تقديم الملاحظات حول أسلوب ومادة الموضوع ، والرابع عن اكتشاف أصول الكلمات ،
والخامس عن استنباط أنواع الاطراد القياسى ، والسادس تقدير قيمة التأليف الأدبى
الذى هو أشرف أقسام القواعد ([9]).
يضاف إلى ذلك ما قام به
اليونانيون ببعض الملاحظات اللغوية التفصيلية فيما يتعلق ببعض الصور القديمة
اليونانية ، وببعض لهجاتها ؛ فالإلياذة Iliad
، والأوديساOdyssey
كانتا مكتوبتين بلغة يونانية قديمة ، كانت غير
معروفة وقت كبار النحاة ، فكان عليهم أن يدرسوا لغتهما ، وأن يقابلوا بين نسخها
المختلفة لتقويم نصها. وكان أشهر الباحثين فى هذا الميدان أريستارخوس Aristarchus
(ولد حوالى 216 ق.م ومات سنة 144 ق.م ). ولما
بَعُدَ العهدُ بلغة كبار الأدباء الأثينيين من القرن الرابع اتخذت لغتهم موضوعا
خاصاً للدراسة ، وكانت المثل الأعلى للغة الكتابة وجمع بعض متأخرى النحاة معلومات
قيمة عن الملاحظات اللغوية التفصيلية فى هذا الشأن ؛ ومن أشهر هؤلاء : هيروديان Herodian بن
أبولونيوس ديسكولوس ([10]).
كما أن التعميمات اليونانية
حول اللغة لم تدخل عليها تحسينات حتى القرن الثامن عشر ، عندما توقف الباحثون عن
رؤية اللغة على أنها منحة أو هبة مباشرة من الله ، ووضعت بعد ذلك نظريات مختلفة عن
أصلها. فلم تعد اللغة من اكتشاف الأبطال Heroes
القدماء ، أو بطريقة أخرى لم تعد نتاج الروح
الأسطورية للشعوب ، لقد بدأت بمحاولات الإنسان محاكاة أصوات الطبيعة وهو ما يعرف
بنظرية " البو- وو" Bow
– Wow
" ، أو بردود أفعاله للأصوات الطبيعية ، وهو ما يعرف بنظرية " دانج – دونج Ding
– Dong
" ، أو بصيحاته وهتافاته العالية التى تعبر عن ألمه وفرحه ، وهو ما يعرف
بنظرية (بو-بو) Pooh – Pooh
، أو ما يعرف بالأصوات الجماعية وهى نظرية
" يو– هى – هو " Yo
– He – Ho ([11]).
وبذلك يؤكد بلومفيلد عبقرية
اليونان الفكرية ويقول : " كان لدى اليونانيين القدماء موهبة الاندهاش
إزاء الأشياء التى أخذها الآخرون مأخذ التسليم " ([12]).
فلم يكن اليونانيون روادا للأوربيين فى علم اللغة وحده ، فآثارهم فى جميع مناحى
التفكير الحضارى واضحة المعالم ، وانعكاسات جهودهم بادية فى الفكر الأوربى الوسيط
والمعاصر على حد سواء . فلقد بدأ النظر فى اللغة مع سقراط والبلاغيين
الأوائل ، ولعل أهم الآثار ما يعود إلى أفلاطون فى محاورته "
كرايتليوس" التى خصصها للقضايا اللسانية بوصفها قضايا فلسفية ، فى حين
تقابلنا تلك الآراء الجادة والمتناثرة فى فكر أرسطو ، والتى يمكن عدها حجر
الأساس فى هذا العلم ، ليس فقط فى بلاد اليونان وإنما أيضاً كفلسفة عامة انطلقت
منها اللسانيات الحديثة.
فى القرن الثالث ق.م تطالعنا
المدرسة الرواقية الفلسفية بآرائها المتميزة فى البلاغة والفلسفة واللغة ، وكان
منهجها الجدلى مبنياً على اللغة ذاتها ، فالدراسة الجدلية الفاعلة تبدأ من الجزء
الذى يبحث فى الكلام ، كما ميزت فى اللغة بين الصيغة والمعنى ، وهو تمييز يقارب ما
ذهب إليه سوسير حديثا فى تفرقته بين الدال والمدلول ([13]).
ولا شك أن المدرسة
الرواقية تعد من أكثر المدارس أهمية فى تاريخ علم اللغة ، فلقد أحرز علم اللغة
فى ظلها منزلة واضحة داخل الإطار العام للفلسفة ، فعولجت المسائل اللغوية بشكل
واضح فى أعمال مستقلة خصصت للجوانب اللغوية ، كما عولجت بطريقة منظمة. ووضع اللغة
فى نظام الرواقيين يمكن إجماله فى ثلاثة شواهد:" فى البداية يأتى
الانطباع ، وبعد ذلك يعبر العقل بالكلمات –
مستفيدا من الكلام عن التجربة الناشئة عن الانطباع" ، " وكل الأشياء
يمكن إدراكها من خلال الدراسة الجدلية " ، " ومعظم الناس متفقون على أنه
من الصحيح أن نبدأ دراسة الجدل من جزئه ذاك الذى يبحث فى الكلام " ، كما
صاغ الرواقيون ثنائية الصيغة والمعنى ، مميزين فى اللغة بين الدال والمدلول ،
وقدموا معالجات مستقلة لكل من الصوتيات والقواعد ؛ ولكن مساهمتهم الأكثر بروزا
كانت فى مجال القواعد ، فوضعوا نظرية
النحو أو تركيب الجملة والتى تقوم على تحليل أنواع الإسناد المختلفة الموجودة فى
النظام الفعلى للغة اليونانية كالإسناد بالفعل المتعدى أو اللازم أو المبنى
للمجهول. كما نظر الرواقيون للغة بوصفها مقدرة إنسانية طبيعية يجب قبولها كما هى ،
وكانوا معنين بالمسائل اللغوية ولم يكن مَرَدَّ ذلك كونهم نقاد قواعد ونصوص ، بل
لكونهم فلاسفة واللغة بالنسبة لهم تعبيرا عن الفكر والشعور ، كما أن الأدب فى
نظرهم يحتوى على معانٍ وأفكار عميقة تكمن فى الأسطورة والقصة الرمزية ([14]).
أما الرومان فأسسوا
قواعد اللغة اللاتينية على نهج النحو اليونانى ، ومن أشهر أعمالهم النحوية أعمال دوناتوس
Donatus ( فى القرن الرابع ق.م) ، وأعمال برشيان Priscian
(فى القرن السادس ق.م) . وظلت هذه الأعمال
مرجعاً مهماً للباحثين خلال مرحلة العصور الوسطى . فعرف الفلاسفة السكولائيين فى
هذه العصور ملامح النحو اللاتينية ، مثل التمييز بين الأسماء Nouns ، والصفات Adjectives
، والخلافات بين التطابق Concord ، والحكم ، والبدل Apposition
. كما رأوا فى اللغة الاتينية التقليدية الصورة
المعيارية المنطقية للكلام الإنسانى ؛ وأدى هذا الاتجاه فى العصور الحديثة إلى
الكتابة فى النحو العام General Grammar والتى أظهرت أن بنية اللغات
المختلفة – وبخاصة اللغة اللاتينية – قوانين الفكر الضرورية فى المنطق. وكان من
أعظم تلك الدراسات التى حاولت إخضاع كل اللغات لقواعد نحوية عالمية هى التى ظهرت
عند جماعة بورت رويال Port-Royal سنة 1660 . وظل مذهب تلك الجماعة سائدا فى القرن
التاسع عشر ، ونجده على سبيل المثال ، عند Gottfried
Hermann فى
عمله De emendona ratione Graecae grammaticae (1801) . ولا يزال هذه الاتجاه التقليدى الذى
يسعى إلى تطبيق المعايير المنطقية Logical
Standards على
اللغة سائدا حتى الآن. والنمو غير الملائم لفكرة النحو العام كان من خلال الاعتقاد
بأن القواعدى أو المعجمى الذى استخدم قوى التفكير يستطيع تدعيم الأساس المنطقى
للغة ووصف كيف يجب أن يتحدث الناس . ففى القرن الثامن عشر ، الانتشار المتزايد
للتعليم جعل العديد من متحدثى اللهجة المحلية يتعلمون صور عالية المستوى من الكلام
، وأعطى هذا للفاسستيين Authoritarians فرصتهم ؛ حيث كتبوا عن القواعد المعيارية التى
تجاهلوا فيها الاستخدام الفعلى للأفكار التأملية ([15]).
وكان فارو Varro أكثر الكتاب الرومان
استقلالية وأصالة فى الكتابة عن الموضوعات اللغوية . فكان كاتبا موسوعيا ، غطت
اهتماماته مجال الزراعة وبروتوكول مجلس الشيوخ والشئون الرومانية القديمة. واستفاد
من سابقيه ومعاصريه اليونانيين بدلا من مجرد تطبيق معرفتهم على اللغة اللاتينية
بأدنى تعديل ،دعم مقولاته واستنتاجاته بالبراهين ، والشروح ، وبالبحث المستقل فى
المراحل المبكرة للغة اللاتينية.
رأى فارو أن اللغة
ناشئة عن قائمة أصلية محدودة من الكلمات الأولية التى فرضت على الأشياء لكى تشير
إليها ، وهذه الكلمات عملت بشكل مثمر بوصفها مصدرا لأعداد ضخمة من الكلمات الأخرى
عن طريق تغيرات متلاحقة فى الحروف أو فى صياغتها الصوتية ، وهذه التغيرات فى
الحروف قد حدثت على مر السنين، وقد تم الاستشهاد بالصيغ المبكرة بوصفها أمثلة على
ذلك ، وفى نفس الوقت تتغير المعانى ([16]).
وأما فى العصور الوسطى
Middle Ages فوجدنا اهتماما كبيرا
باللغة اللاتينية الكلاسيكية ، وفى نهايتها زاد الاهتمام باللغة اليونانية وتمت
إضافة اللغة العربية واللغة العبرية .. وأدى عصر الاستكشاف إلى وجود معرفة سطحية
بالعديد من اللغات ، حتى أن بعض المستكشفين قام بالكتابة فى قواعد النحو والمعاجم
الخاصة باللغات الغربية ، أو التى جلبوها معهم. وبدأ القساوسة الأسبانيين هذا
العمل فى بداية القرن السادس عشر ، واللغويين الأمريكيين يدينون لهم بالعديد من
البحوث عن اللغات الأمريكية والفليبينية .
وأدى زيادة التجارة والسفر أيضا إلى تجميع قواعد ومعاجم اللغات التى يتم
التعرف عليها. ويمكن دراسة المجال اللغوى فى نهاية القرن الثامن عشر من خلال عمل
" الجلوسماتيك" أو " قائمة مفردات " . Glossary
التى تشمل شرح 285 كلمة فى 200 لغة فى أوربا
وأسيا وقد نشرها ب.س.بالاس P.S.
Pallas (1641
– 1811) فى وصية
الإمبراطورة كاثرين فى روسيا عام 1786. وأضافت الطبعة الثانية منها عام 1791 ، 80
لغة جديدة تشمل بعض اللغات الإفريقية والأمريكية. ولقد ظهر فى الأعوام من 1806 إلى
1817 بحث من أربعة أجزاء تحت عنوان" Mithridates
" بواسطة ج.س. أديلنجJ.C
Adelung ، ج.س فالتر J.S.
Valter حيث اشتمل على 500 لغة ([17]).
وكان تأثير الإغريق فى
الأوربيين فى المرحلة الوسطى أن انقسم الباحثون من هؤلاء إلى طائفتين: الكنسيين
الذين ذهبوا مذهب أفلاطون واعتقدوا أن اللغة هبة من الله ، وأن لغة الإنسان
القديم كانت واحدة ينتظم فيها أهم شيء حتى سقوط برج بابل ، وتفرق أبناء نوح عن
بعضهم فى البلاد وكان عدد هؤلاء اثنين وسبعين ، فكان سبب ذلك أن انقسمت اللغات إلى
اثنين وسبعين لغة. والمدرسيون الذين ذهبوا مذهب أرسطو إن اللغة ما
تواضع عليه المجتمع الإنسانى فى مكان ما ([18]).
وفى عصر النهضة Renaissance زاد
الاهتمام بالتسجيلات والوثائق اللغوية. كما تطورت الدراسات اللغوية نتيجة ظهور
النزعات الإنسانية والقومية والحكومات العلمانية وتوسع أوربا وراء البحار . فعصر
النهضة كان هو أول عصر للطباعة فى أوربا ؛ مما أدى إلى تنامي معرفة القراءة
والكتابة ، وطلب التعليم بشكل ثابت ، و انتقلت المعرفة بشكل أسرع وانتعشت دراسة اللغات الأجنبية ، وكذلك دراسة
اللغات الكلاسيكية عن طريق كثرة النصوص و كتب القواعد و المعاجم المطبوعة و تيسرها
. وهذه العوامل ذاتها جعلت تبادل المعرفة والمناقشة النظرية بين العلماء في الأماكن المختلفة أسهل
و أسرع كثيرا ، ومع مرور الوقت أخذت تشكل
بعض ملامح عالم اليوم . فقام فرنسيس جونيوس Francisus
Junius (1589 –
1677 ) بجهد كبير فى دراسة الوثائق القديمة الخاصة بالإنجليزية وما يرتبط بها من
لغات أخرى مثل الفارسية والهولندية والألمانية والاسكندنافية والقوطية . كما نشر جونز
وثيقة ترجع إلى القرن السادس عشر تشمل أجزاء من ترجمة الإنجيل مع أناجيل الأنجلو
ساكسون . كما واصل George Hickes (1642 –
1715 ) هذا العمل ، ناشرا "النحو القوطى والأنجلو ساكسونى" ودراسات عن
أقدم مراحل اللغة الإنجليزية واللغات المتشابهة ([19]).
وفى المرحلة الحديثة يمكن
إبراز أصداء حصيلة الجهود التى قام بها الاتجاه العقلى بزعامة ديكارت
وتلاميذه من بعده فى المجال اللسانى من خلال ما يلى:
1-
المقدرة
اللغوية عند الإنسان هى التى تتيح له ترجمة أفكاره وأحاسيسه إلى جمل منطوقة .
2-
العلاقة
بين اللفظ والمعنى علاقة بين الجسد والروح عند الإنسان ، والرمز اللغوى يمثل حقيقة
الإنسان المؤلفة من روح وجسد.
3-
التفكير
فى بناء نحو عالمى بالاعتماد على وحدة التفكير المتجلية فى النحو العقلى بغض النظر
عن الاختلافات السطحية بين اللغات ، وهذا ما دعا إليه ليبنتز من ضرورة وضع لغة
فنية اصطناعية للتواصل العقلى .
4-
ظهور
النحو العقلى والعام من خلال أعمال نحاة بورت –
رويال الفرنسيين حيث أكدوا على دور المنطق فى التمييز بين المفاهيم والموضوعات فى
الفكر ، وتواصل آثارهم فى الفكر النحوى . ويظهر ذلك من خلال كتاب " النحو
العالمى " لـ " نيكولاس
بارزى " وكتاب " الأسس المنطقية للنحو" لدى مارساى ،
وكتاب " النحو العالمى" لفرنر الألمانى بالإضافة إلى العمل الذى
قدمه أرنولدولانسو فى النحو العام والعقلى([20]).
ولاحظ بلومفيلد أنه
على الرغم من أن الدارسين فى المدارس الأمريكية فى القرن الثامن عشر ، قد حددوا
الخصائص القواعدية للغة بشكل فلسفى فإنهم لم يضعوا فى الاعتبار الاختلافات
التركيبية بين اللغات ، نتيجة إدخالهم الأوصاف فى نظام القواعد اللاتينية ، ولم
يكتشفوا أصوات الكلام ، كما خلطوها بالرموز المكتوبة للأبجدية ( الألفبائية أو
حروف الهجاء) Alphabet . وهذا الفشل فى التمييز بين الكلام الفعلى
واستخدام الكتابة شوه أفكارهم عن تاريخ اللغة . رأوا فى العصور الوسطى والحديثة أن
الأشخاص المتميزين يكتبون ويتحدثون اللاتينية بشكل جيد ، بينما الأفراد الأقل
تعليما أو حرصا يقعون فى كثير من الأخطاء : الفشل فى رؤية أن هذه الكتابة
اللاتينية كانت كتدريب مصطنع وأكاديمى، واستنتجوا أن اللغات تم حفظها بواسطة
استخدام أشخاص متعلمين وحريصين وتغيرت بواسطة إفساد ما هو غريب. لقد أمنوا فى حالة
اللغات الحديثة مثل اللغة الإنجليزية ، أن الصور الكلامية فى الكتب وفى المناقشات
عالية المستوى تمثل مستوى أقدم وأرقى حيث تفرع منها سوقية أو فظاظة عامة الناس على
أنها " فساد" بواسطة عملية " الفساد اللغوى" Linguistic
Decay . ولذلك شعر القواعديين
بالحرية فى إيضاح القواعد الوهمية المشتقة من المنطق([21]).
وإن هذه الاعتقادات الخاطئة
منعت الدارسين من استخدام المعطيات التى كانت فى متناول أيديهم : اللغات الحديثة
واللهجات المحلية ، تسجيلات اللغات القديمة ، التقارير عن اللغات الغريبة (الداخلية)
، وفوق كل ذلك الوثائق التى توضح لنا المراحل المتتالية لإحدى اللغات مثل اللغة
الأنجلوساكسون ( الإنجليزية القديمة ) ، الإنجليزية الحديثة أو اللغات اللاتينية
والرومانسية الحديثة. إن الفرد يعلم أن بعض اللغات متشابهة ، لكن مبدأ "
الفساد اللغوى " لم يشجع الدراسة النظامية لهذه العلاقة ، حيث إن التغييرات
التى تمت من اللاتينية إلى الفرنسية الحديثة ظهرت أخطاء موحدة . وإن الوهم بأن
اللغة اللاتينية استمرت ، لم تتغير بجانب اللغات الرومانسية Romance
Languages ، جعل الدارسين يشتقون اللغات المعاصرة من واحدة
لأخرى ، وعلى الأغلب ، فإنهم اتخذوا اللغة العبرية على أنها اللغة التى اشتقت منها
كل اللغات الأخرى ، وإن كان بعضهم ظن شيئاً آخر ، مثل Goropius
Becanus الذى اشتق كل اللغات من اللغة الهولندية بسبب
انتمائه لموطنه ([22]).
وبعيدا عن التناول الأوربى
للفكر اللغوى ، يلاحظ بلومفيلد أن العديد من الأمم طورت المذاهب اللغوية
على الأسس القديمة خاصة . فلقد استخدم العرب قواعد نحوية ذات شكل كلاسيكى
من خلال لغتهم ، كما هو واضح فى القرآن . وبلغت العربية ذروتها في نهاية القرن
الثامن فى قواعد سيبويه البصرى ، وإنه لأمر ذو دلالة أن يكون سيبويه
نفسه فارسيا وليس عربيا ، وهذا يشهد بالتالي علي الحافز الداعم للبحث اللغوي
الكامن في الاحتكاك اللغوي المفروض ثقافيا
. وقد اعتمد سيبويه على الأسس التي
وضعها سابقوه ، وأقام قواعد اللغة العربية الكلاسيكية فعليا كما هي معروفة اليوم ،
مميزا ثلاثة أقسام من الكلمات ، وهى : الاسم المتصرف ، والفعل ، والحرف غير
المتصرف ألخ . وأنجز سيبويه وصفا صوتيا مستقلا للأبجديه العربية ، وهذا الوصف
سابقا لعلم الأصوات الغربي المعاصر . كما أن اليهود في الدول الإسلامية كونوا علم
قواعد عبري . وفي عصر النهضة ألم الأوروبيون بهذه القواعد ، فالمصطلح " جذر
" Root ، مثلا ، كتحديد للجانب
الأساسى من الكلمة استمد من علم القواعد العبرى . وفي أقصى الشرق نجد اللغه
الصينية حازت علي كم كبير من المعرفة اللغوية Linguistic
Knowledge
القديمة خاصة في طريقة تأليف المعاجم . ويبدو أن قواعد النحو الياباني قد نمت بشكل
مستقل([23])
.
وفى الهند نشأ شكل من
المعرفة تم توجيهه للأفكار الأوربية الثورية الخاصة باللغة . حمى الدين البرهماني
بعض المجموعات القديمة جدا من الترانيم ، كنصوص مقدسة ، وإن الأقدم من هذه
المجموعات هو الريج فيدا Rig – Veda والذي يرجع تاريخها إلى عام 1200 ق0م0 وحيث إن
لغة هذه النصوص أصبحت مهمة لطبقة معينة من المتعلمين . إن الاهتمام القديم باللغة
الذي نشأ بهذه الطريقة تحول إلى مجال عملي بشكل أكثر ؛ ومن بين الهندوسي Hindus والشعوب
الأوربية أيضا اختلفت طبقات مختلفة من المجتمع في طريقة الكلام . والغالب أنه كانت
توجد قوي (ضغوط) في العمل التي جعلت المتحدثين في الطبقات العليا يستخدمون أنواعاً
منخفضة المستوي من الكلام . لقد وجدنا أن النحويين الهندوسي مدوا اهتمامهم من
الكتب المقدسة إلى اللغة الخاصة بالمجموعة المتحجرة ( إحدى طوائف الهندوسي ) ووضع قواعد
وقوائم للصور الوصيفة للنوع الصحيح من
الكلام الذي سموه اللغة السنسكريتية ([24]).
و أما عن مجالات الاهتمام
اللغوى عند الهنود فيمكن تفريعها إلى (1) اهتمامات تدخل فى صميم النظرية
اللسانية العامة، (2) اهتمامات تدخل في علم الدلالة والمعجم . (3) اهتمامات صوتيه
. (4) اهتمامات صرفية ونحوية . وهذه الاهتمامات نجدها بوضوح في القواعدى الهندى
الكبير بانينيPanini الذي احتفظ له بلومفيلد
بقدسية حقيقية حيث يقول: " إن قواعد بانينى تمثل أحد أكبر نصب الذكاء
الإنسانى ، فهو يصف بأدق التفاصيل علم الصرف ، وعلم الاشتقاق وكل استخدام
سنتاطيقي للكلام " ، ومن الواضح أن نظام تفكير بانينى حول اللغة اتخذ نموذجا
للوصفية الدقيقة عند بلومفيلد . وعامة فقد وصلت أوربا لبعض المعرفة عن
اللغة السنسكريتيه والنحو الهندي من خلال المبشرين في القرنين السادس عشر والسابع
عشر . وفي القرن الثامن عشر نقل الإنجليز الذين يعيشون في الهند تقارير أكثر دقة ،
وفي مطلع القرن التاسع عشر أصبحت معرفة اللغة السنسكريتية جزأً من إعداد الدارسين
الأوربيين([25]).
إن المفاهيم القديمة المحيرة
الخاصة بالعلاقة اللغوية استمرت لوقت قصير في الرأي الخاص بأن اللغات الأوروبية
اشتقت من اللغه السنسكريتية ، لكن هذا الرأي أتاح
الطريق بسرعة للتفسير الملائم بوضوح
، على وجه الخصوص ، بأن السنسكريتية واللاتينية واليونانية وهكذا ، هي
مستمدة من صور لغة ما كانت موجودة قبل التاريخ . ويبدو أن هذا التفسير قد تم ذكره
لأول مرة بواسطة السيد وليم جونز Sir
William Jones (1746-1794)
أول أكبر دارس أوروبى للغة السنسكريتية . في بحثه المشهور الذي قام به في
عام(1786) وفيه قال : " إن اللغة السنسكريتية تحمل بعض التشابه مع اللغه
اليونانية واللاتينية والتي تعد قريبة جدا من أن تؤدي إلى وجود فرصة لكي توضح أن
كل الثلأثه قد نتجوا من مصدر عام لحد ما ، ربما يكون غير موجود الآن " ؛
والقوطية Gothic هي مصدر الجرمانية والكليتية Celtic
من المحتمل أن يكون لها نفس المصدر ([26]).
وللقيام بمقارنة هذه اللغات
فإن الفرد يحتاج - بالطبع معطيات - وصفية لكل واحدة منها . وإن مجال المقارنة مع
ما يكشفه من الصور الكلامية القديمة والهجرات القبلية وأصل الشعوب والعادات قد
أثبت بشكل كبير أنه لم يقم أى أحد بالمهمة المملة لتحليل اللغات الأخرى علي أساس
نموذج اللغة السنسكريتية. وإن الدارسين الأوربيين لديهم القليل من المعرفة الصوتية
الخاصة باللغة اللاتينية واليونانية فمعظمهم يتحدثون اللغة الجرمانية علي أنها
لغتهم الرئيسية . وبمراجعة العبارات الدقيقة للقواعد السنسكريتية أو الصورة
المعجمية المحللة بدقة فإنهم يستطيعون عادة الحصول علي خاصية مماثلة من بعض أو كثير
من اللغات المتشابهة . وفي الحقيقة فإن هذا كان بديلاً مؤقتاً وإن ما يفعله
المقارن كافٍ للقيام بدراسة مبدئية لوضع حقائق ، وفي بعض الأحيان يقبل بسب عدم
وجود معطيات منظمة . إذا كان لدي الدارسين الأوربيين أوصاف للغات المتشابهة
بمقارنتها بالوصف الهندوسي للسنسكريتيه ، فإن الدراسة المقارنة للغات الهندية
الأوربية(مثلما يطلق عليها الآن) قد تطورت بشكل أكثر سرعة ودقة ؛ حيث إن الدراسة
التاريخية والمقارنة للغات الهندية الأوروبية أصبحت واحدة من المشاريع الرئيسية و
واحده من أكثر العلوم الأوربية نجاحا في القرن التاسع عشر ([27]).
إن
اللغات الفارسية (المسماة باللغات الإيرانية) تشبه إلى حد كبير اللغة السنسكريتية
؛ حيث أن علاقتها واضحة من البداية . لقد تم إيجاد علاقة تشابه ، علي الرغم من
كونها أقل احكاما ، بين اللغات البلطية ( اللتوانية ، والليتشية ، والفارسية
القديمة) واللغات السلافية . إن ظن جونز بأن اللغات الجرمانية كانت مرتبطة
باللاتينية واليونانية والسنسكريتية قد ثبت صحته ، مثل ظنه الثاني بخصوص الكلتية
(الأيرلندية ، الولشيه ، البروتينية) وقد ثبت أيضا أن اللغات الأرمينية،
والألبانية والقليل من اللغات القديمة المعروفة لنا . من خلال الوثائق المكتوبة ،
تنتمي أيضا للأسرة الهندية الأوربية([28]).
وعلي
الرغم من أنه كان هناك بعض الجدال علي التفاصيل ، فإن الافتراضات الضمنية للدراسة
التاريخية والمقارنة للغة أصبحت واضحة . فاللغات تتغير علي مدار الوقت ،
والاستثناءات واضحة مثل استخدام اللاتينية في العصور الوسطي والحديثة (أو
السنسكريتية في الهند) ، حيث إن الذين يدرسون لمدة طويلة قد يتدربون علي تقليد لغة
الكتابات القديمة . إن هذا العمل القديم يختلف بشكل واضح عن عملية نقل اللغة من
الأباء إلى الأطفال . والحقيقة ، أن كل الكتابة هي اختراع حديث نسبياً وتأثير
الكتابة علي الصور وتطوير الكلام الفعلي كان ضئيلا جدا ([29]).
وإذا
تم التحدث بلغة في منطقة كبيرة ، أو نتيجة للهجرة في مناطق متعددة منفصلة ، فإنها
ستتغير بشكل مختلف فى المناطق المختلفة ، وستكون النتيجة هى مجموعة من اللغات
واللهجات الرومانسية الأخرى . لقد استنتجنا أن المجموعات الأخرى من اللغات
المتشابهة مثل الجرمانية ( أو السلافية أو الكليتية) هى فقط حوادث تاريخية ؛ حيث
إنه لا توجد تسجيلات مكتوبة للحالة الأولية لهذه اللغات فتم التحدث بها قبل القيام
بعملية التمييز. وأعطينا أسماء لهذه اللغات الأصلية غير المسجلة ؛ مثل : الجرمانية
البدائية ( السلافية البدائية ، الكلتية البدائية وهكذا). وبنفس الطريقة ، فإن
اكتشاف أن كل هذه اللغات والموجوعات ( اللغة السنسكريتية ، الإيرانية ، الأرمنية ،
اليونانية ، الألبانية اللاتينية الكلتية ، الجرمانية ، البلطية ، السلافية) تشبه
بعضها البعض بعيدا عن وجود أدنى صدفة ، ويسميها بلومفيلد الأسرة الهندية الأوربية
من اللغات ، واستنتج مع جونز أنها صورة متشعبة من لغة واحدة قد وجدت قبل التاريخ ،
وأعطاها إسم "اللغة الهندية الأوربية البدائية"([30]).
قرأ السير وليم جونز ورقته
الشهيرة فى الجمعية الملكية الأسيوية فى كلكتا التى أثبت فيها - من دون شك -
القرابة التاريخية للسنسكريتية ، اللغة الكلاسيكية للهند ، مع اللاتينية
واليونانية واللغات الجرمانية. فقال فى تقريره" اللغة السنسكريتية مهما يكن
قدمها ، لغة ذات تركيب عجيب ، وهى أكثر كمالا من اليونانية ، وأغزر إنتاجا من
اللاتينية ، وأكثر منها تهذيباً بشكل رائع ، وهى فوق ذلك على قرابة بكل منهما فى
جذور الأفعال وصور القواعد معها ، قرابة أقوى من أن تكون نتاجا للمصادفة ، وهى
قرابة قوية فى الواقع لدرجة أن أى عالم فى الفيلولوجيا لا يمكنه أن يفحص اللغات
الثلاث جميعا ، دون أن يعتقد أنها نشأت عن أصل معين ربما لم يعد موجودا ، كما أن
هناك مسوغا مشابها، رغم أنه ليس قويا تماما ، وهو الافتراض أن كلا من القوطية
والسلتية تشتركان فى نفس الأصل مع السنسكريتية " ([31]).
ولذلك يؤكد جون ليونز
John Leyons أن اللغة السنسكريتية كانت
هى الأساس الذى قام عليه البحث اللغوى عامة وفقه اللغة المقارن خاصة .. وأن
السنسكريتية ستبقى هى الدليل الوحيد لهذا العلم ، وعالم فقه اللغة المقارن الذى لا
يعرفها مثل عالم الفلك الذى لا يعرف الرياضيات ([32]).
كما يرى بلومفيلد أن
بداية المقارنة النسقية للغات الهندو- أوربية كانت فى بحث عن النهايات المصرفة
للأفعال فى اللغة السنسكريتية واليونانية ، واللاتينية ، والفاريسية ، والجرمانية
، المنشور فى عام 1816 بواسطة فرانز بوب Franz
Bopp (1791 –
1867) . وفى عام 1818 نجد رازموس كريستيان راسك Rasmus
Kristian Rask
(1787 – 1832 ) أوضح أن كلمات
اللغة الجرمانية تحمل علاقة صورية منتظمة فى أشكال الصوت مع كلمات من اللغات
الهندو- أوربية الأخرى . وفى عام 1819 نشر يعقوب جريم Jakob
Grimm (
1787 – 1863 ) الجزء الأول من
كتابه " النحو الجرماني" ، ولم يكن عن النحو الجرمانى ، إنما كان عن
النحو المقارن للغات الجرمانية ( القوطية، الاسكندنافية ، الإنجليزية ، الفارسية ،
الهولندية ، والجرمانية).وفى الطبعة الثانية فى عام 1822 ، من هذا الكتاب قدم جريم
عرضا نظاميا لتوافق الثوابت بين اللغة الجرمانية واللغات الهندو-أوربية الأخرى.
ومنذ ذلك الحين وهذه التطابقات معروفة للدارسين المتحدثين باللغة الإنجليزية على
أنها قانون جريم . و هذه التطابقات عبارة عن بيان تاريخي ، وتكمن أهميتها في أنها
أوضحت أن الفعل البشرى Human Actionليس
اتفاقياً تماما ، لكن يمكن أن يعمل بانتظام
حتى فى الحالات غير المهمة مثل طريقة نطق الأصوات الفردية من خلال الكلام ([33]).
كما بدأ فريدريك ديتس Friedrich Diez(1794 –
1876) الدراسة الجادة للغات الرومانيه في كتابه " نحو اللغات الرومانية
" (836 –1844
) . وفتح يوهان كاسبر زيوس Johann Kaspr Zeuss (1806 –1856
) حقل دراسه اللغات الكلتيه (مجموعة من اللغات الهندو- أوروبيه ومنها الأيرلندية
والأسكتلندية والويلزية … الخ ) في كتابه " نحو اللغات الكلتية " (1853)
. وكتب فرانز فون مكلوش Franz Von Miklosich (1831 –1891) مؤلفه " النحو المقارن للغات السلافية "
(1852 –1875) ، كما نشر العالم
الأمريكي وليم دويت ويتنىWilliam
Dwight Whitnay (1827 –1894 ) كتابيه "
اللغة ودراسة اللغة " (1867 ) ، "وحياة اللغة ونموها " (1874 ) .
وترجمت هذه الكتب إلى العديد من اللغات الأوربيه، وإن تبدو اليوم غير كاملة فإنها
لا تزال تخدم بوصفها من المداخل الممتازة لدراسة اللغة . وفي عام ( 1880) نشر
العالم هرمان بول Hermann Paul (1846 –
1921 ) كتابه " أصول التاريخ اللغوي " ، وهو عمل معياري أو نموذجى من
مناهج علم اللغة المقارنة ([34])
.
ويري بلومفيلد أن
كتاب " الأصول " لبول رغم تأثيره العظيم علي الدراسات اللغوية فإن
الدارسين في معظم الأجيال الحديثة يهملونه ، لأنه يحتوي علي عيوب أو نقائص عديدة
علاوة علي إسلوبه الجاف . ومن هذه النقائص إهمال بول أو استخفافه بالدراسة الوصفية
للغة ، وإصراره علي استخدام التفسير السيكولوجي . فاستخدم مصطلحات العمليات
العقلية في عباراته حول اللغة . ولا يجوز الاعتقاد بأن من الممكن تفسير وقائع
لغوية غامضة من خلال فرضيات فلسفية أو سيكولوجية أكثر غموضاً منها . إن الحقيقة
الوحيدة في هذه العمليات العقلية هي العملية اللغوية Linguistic
Process فتلك
العمليات العقلية لا تفيد الشرح أو المناقشة في شىء بل تزيده غموضا. ([35])
ولا يمكننا هنا أن نتجاهل
الإنجازات الكبيرة التى قدمها فريدريك أوجست فولف Friedrcih
August Wolf (1759–1824) في دراسته اللغوية
. فقد عرف فقه اللغةPhilology علي أنه معرفة الطبيعة البشرية كما ظهرت في
العصور القديمة " فهو ترجمة لحياة الأمة " ، أو تركيب كل المعلومات
المتاحة عن الناس: لغتهم ، أدبهم ، فنهم ، دينهم .. الخ . وهذه الأنواع المختلفة
من المعلومات لا تدرس في ذاتها ولذاتها ، بل تفسر على أنها وسائل رسم صور للناس .
لقد عمم لازاروسLazarus Geiger هذا البرنامج ليشمل التواريخ السيمانطقية أو
الدلالية ، ليس فقط بالنسبة للأمم التى حققت تحضرا عاليا في الماضى بل أيضا لكل
الشعوب. وخصصه كدراسة لتطور "العقل" أو "الفكر" وعالم
المفاهيم والمدركات لدى الكائنات البشرية .وهذه الدراسة المتخصصة تبناها فولف
حيث رأى أن دراسة اللغة يمكن أن تبرر في ذاتها ، لأن "اللغات في الإبداعات
الأولى للروح البشرية تتضمن المستودع الكامل للأفكار العامة وصور الفكر المختلفة ،
كما أنجزت وتطورت فى الثقافة المتطورة للشعوب" . ([36])
كما أشاد بلومفيلد بما قدمه لسكينLeskein
(1840-1916). في
مجال أسس المناهج التاريخية في حقل دراسة اللغة . ورأى أن أول كتاب عظيم عن علم
اللغة العام هو الدراسة التي كتبها فلهلم فون همبلولتWilhelm
Von Humboldt (1767- 1835) عن تنوعات الكلام الإنسانى والتى
صدرت عام (1836) . وبجانب معظم الدراسات العامه عن أسس اللغة نشر هيمان شتينتالHeymann
Steinthal (1823-1899) فى عام (1861) دراسة عن الأنماط
المبدئية لبنية اللغة . وكان العمل الذى نشره جورج فون درجابلنتس Gorg
Von der Gabelents (1840 –1893) عن علم اللغة
عام (1891 ) هو اقل هذه الأعمال من حيث أبعاده الفلسفية . وبلغ هذا الاتجاه اللغوى
ذروته فى الدراسة العظيمة عن اللغة للفيلسوف وعالم النفس فلهلم فنت Wilhelm
Wundt
(1832-1920) والتى صدرت فى عام (1900 ) كأول جزء من الدراسات عن علم النفس
الاجتماعى . واهتم فونت ببيان العلاقة بين الظواهر اللغوية والظواهر
النفسية ، واختلف معه كثيرا فى هذا الموضوع دلبروك Delbruck . ويضاف إلى كل ذلك ،
كل الإسهامات الكبيرة التى قدمها كل من Otto
Bohtlingk (1815 –
1904)،وفريدريك موللر Friedrich Muller ( 1834 - 1898)، وفرانز نيكولاس فانك Franz
Nikolaus Finck (1867-1910)
، وفرديناند دى سوسير Ferdinand De
Saussure (1857 –
1913 ). ([37])
ويجب
الإشارة هنا إلى أن دى سوسير هو أهم شخصية لغوية غيرت مجرى الدراسات
اللغوية في القرن العشرين ، وذلك من خلال كتابه " محاضرات فى علم اللغة العام
" ، والذى اهتم فيه بدراسة العديد من الموضوعات ؛ مثل : تاريخ علم اللغة ،
موضوع علم اللغة ، وعلاقته بالعلوم الأخرى ، التميز بين اللغة والكلام ، والدال
والمدلول ، والنزعة الأسمية والنزعة الاجتماعية ، وعلم دراسة الأصوات ، وتصنيف
الأصوات حسب مخارجها ونطقها من الفم ، علم اللغة الوصفى وعلم اللغة التاريخى ،
وعلم النحو وفروعه وأنواع التغيرات الفونطيقية وقوانين الإبدال ، والاشتقاق والصرف
وعلم اللغة الجغرافى واللغة الأم 00الخ ، ولذلك اعترف بلومفيلد بأنه مدين
فكريا لسوسير وأشاد بالتمييز الدقيق جدا الذى وضعه بين (الدراسة الوصفية ) و(
الدراسة التاريخية ) للغة . وقال أن سوسير يكاد يكون فريدا في علم اللغة ، وان
قيمه كتابه "محاضرات فى علم اللغة" العام تكمن في الوصف الواضح والدقيق
للمبادئ الأساسية 0 وقال : " بأن سوسير وضع الأساس النظرى لعلم اللغة
الإنسانية " وأن القضية الجوهرية تتمثل فى أنه كان أول من رسم خارطة عالم لا
تحتل فيه القواعد التاريخية للغة الهندو- أوربيه سوى مقاطعه بسيطة ". ([38])
ولعل
ذلك يرجع فى الحقيقة إلى عدة أمور منها اهتمام سوسير بالصعوبات التى
تواجهنا فى تحديد الموضوع العينى Concrete
Object والشامل لعلم اللغة . فإذا كان بعض العلوم ينصب
اهتمامها على موضوعات محددة من قبل ، ويمكن النظر إليها واعتبارها من نواحى مختلفة
، فان موضوع علم اللغة ليس كذلك . فعندما ينطق إنسان ما الكلمة الفرنسية "
عار" Nu : فقد يحاول الملاحظ
العادى المتكلف أن يرى فيها موضوعاً لغوياً عينياً غير أن الدراسة الدقيقة تجد
فيها تباعا عدة أمور حسب الكيفية التى تنطلق منها . فقد ينظر إلى هذه الكلمة من
جهة الصوت أو من جهة التعبير Expression بها عن فكرة ، أو من
جهة الاشتقاق اللغوى وغير ذلك من أوجه النظر . وأيضا فلا يوجد ما يخبرنا مقدما بأن
شيئا من أوجه الاهتمام بالظاهرة موضوع البحث يكون سابقا أو متعالياً على
الاهتمامات الأخرى . ([39])
وعلاوة
على ذلك فان الظاهرة اللغوية دائما ذات مظهرين متقابلين ، لا ينفصل أحدهما عن
الأخر . فعلى سبيل المثال :
1- الحروف الملفوظة عبارة عن تأثيرات سمعية
تدركها الأذن ، ولكن الأصوات لا توجد بدون الأعضاء الصوتية Vocal
Organs ، ولذلك فإن حرف (n)لا يوجد إلا متعلقا
بهذين المظهرين ، فلا يمكننا ببساطة رد اللغة إلى الصوت ولا فصل الصوت عن فعل
النطق بالفم ، وبالعكس فلا نستطيع معرفة حركات الأعضاء الصوتية إذا نحن أهملنا
التأثير السمعى وجردناه .
2- ولكن لو أننا افترضنا أن الصوت شىء بسيط ، فهل
هو الذى يحدث الكلام ؟ والإجابة أنه لا يمكن تأكيد ذلك ، لأن الصوت ليس إلا أداة
للفكر Instrument of Thoughtولا
يوجد من أجل ذاته . وهنا يبرز تقابل جديد مخيف ، ذلك أن الصوت ، وهو وحدة مركبة
سمعية صوتية يؤلف بدورة مع المعنى أو الفكرة وحدة مركبة فسيولوجية وذهنية . وليس
الأمر كذلك فقط.
3- فللكلام جانب فردى وجانب اجتماعى ، ولا يمكن
أن ندرك أحد الجانبين بمعزل عن الآخر ، وبالإضافة إلى ذلك :
4- فإن الكلام يقتضى دائما أمرين متلازمين : نسقا
محددا ثابتا ومتطورا معا . وفى كل لحظة وحين يكون الكلام مؤسسا فى الزمن الحاضر
وإنتاجا للزمن الماضى . ومبدئياً يظهر أنه من اليسير علينا أن نميز بين هذا النسق
وتاريخه، أى بين ما يوجد عليه الآن وبين ما كان عليه . وفى الحقيقة أن ما يضم هذين
الأمرين ويوجد بينهما لهو أمر قوى الصلة يكاد يكون من الصعب الفصل بينهما …
الخ ([40])
وهكذا فكيفما كانت الجهة
التى نتناول بها هذه المسألة ،لا نحيط بالموضوع الشامل لعلم اللغة ، فى تمامه ومن
جميع جهاته ، ولا نكاد نحصر أطرافه ، ويعترضنا فى كل مرة معضلة كبيرة : فإما أن
نقتصر على جانب واحد من كل مشكلة فنقع فى خطر عدم الإدراك للثنائية التى أشرنا
إليها سابقا ، وأما أننا ندرس الكلام من جميع جوانبه فى الوقت نفسه ، فيظهر لنا
حينئذ أن علم اللغة عبارة عن ركام من الموضوعات المختلطة ، غير المتجانسة ولا رابط
بينها . ونكون بذلك قد فتحنا الباب لعلوم كثيرة ؛ مثل علم النفس والانثروبولوجيا ،
والنحو المقارن وعلم فقه اللغة ؛ وبسلوكنا هذا الطريق نكون قد ميزنا هذه العلوم عن
علم اللغة ، ولكن هذه العلوم ستطالب الكلام كما لو كان جزءا واحدا من موضوعاتها ([41])
.
ولا يوجد فى رأى سوسير
، سوى حل واحد لجميع هذه الصعوبات : ذلك أنه يتعين علينا أن نضع أقدامنا بثبات على
أساس اللغة ، واستعمالها باعتبارها معيارا لجميع المظاهر الأخرى للكلام. فاللغة
وحدها تبدو مهيأة لتعريف مستقل . لكن ما اللغة ؟ .
يفرق سوسير بين
" الكلام " و " اللغة " ويرى أن " الكلام " ليس سوى
جزء محدد من اللغة ، وهو جزء أساسى لا شك فيه . وبهذا الاعتبار يكون " الكلام
فى الوقت نفسه ، إنتاجا مجتمعياً حادثاً عن ملكة اللغة ، وعن أنواع الاتفاقات ، أو
الأعراف الضرورية التى أقرها المجتمع وسنها ، لكى تتأتى ممارسة هذه الملكة عند
الأفراد . فإذا نظرنا إلى " الكلام " فى شموليته وكليته نجده متعدد
الصور ، وكما أنه يقع على حدود أطراف ميادين علوم عديدة فيزيائية ، وفسيولوجية
وسيكولوجية ، فى نفس الوقت ، فإنه يقع على حدود ميدان الفرد وميدان المجتمع .
ويصعب وضعه ضمن فصائل الظواهر الإنسانية ، إذا كنا لا نستطيع أن نكتشف وحدته . أما
" اللغة " فهى ، على العكس ، عبارة عن كل قائم بذاته وهى مبدأ للتصنيف ([42]).
ويرى سوسير : أنه
ينشأ بين الأفراد الذين تربطهم لغة واحدة ضرب من التناسب . فجميع هؤلاء الأفراد
يبدون ويعيدون محدثين نفس الدلالات والرموز مرتبطة ومتحدة بنفس التصورات.. فلو
استطعنا أن نحيط بمجموع الصور اللفظية المحتفظ بها مخزونة عند جميع الأفراد للمسنا
الرابطة الاجتماعية التى تؤسس اللغة . فاللغة عبارة عن نسق من القواعد النحوية
الموجودة بالقوة فى كل دماغ أو بالضبط فى أدمغة مجموعة الأفراد . فاللغة توجد عند
كل فرد ناقصة ولا توجد كاملة إلا عند المجموع (الجمهور) . وعندما نفرق بين اللغة
والكلام فإننا نكون قد عزلنا فى الوقت نفسه (1) ما هو مجتمعى عما هو فردى (2) ،
وما هو أساسى عما هو ثانوى أو عارض فى الأعم الأغلب . فليست اللغة إذن نشاط أو
وظيفة للفرد المتكلم ، بل هى الإنتاج الذى يكتسبه الفرد بكيفية سلبية عن طريق
تسجيله . ولا تفترض اللغة أبداً سابق تأمل ، ولا يتدخل فيها التأمل والتفكير إلا
من أجل القيام بترتيبها . أما الكلام فهو على العكس من ذلك فعل فردى ، متعلق
بالإرادة والذكاء. ([43])
ويحدد
سوسير خصائص اللغة على النحو التالى :
1-
اللغة موضوع محدد ثابت داخل الركام غير المتجانس من الوقائع الكلامية . وهى الجانب
الاجتماعى من الكلام ، وهى عنصر خارجى بالنسبة للفرد الذى يكون بمفرده غير قادر
على ابتكارها ولا على تغييرها . فاللغة لا توجد بين أعضاء الجماعة إلا على نوع من
الاتفاق . والطفل يتعلم اللغة على التدريج . ومن الواضح تماما أن أحد الناس لو حرم
استعمال الكلام امتنع عليه الاحتفاظ باللغة إلا أن يفهم الإشارات والدلالات
الصوتية التى سمعها .
2-
اللغة ، وهى تختلف عن الكلام ، يمكن دراستها دراسة مستقلة. فمع أننا لا نتكلم
اللغات الميتة إلا إننا نستطيع أن نتفهم تنظيمها اللغوى وأن نتقن ذلك التنظيم أحسن
إتقان . فعلم اللغة لا يستغنى فقط عن بعض العناصر اللغوية الأخرى بل لا يكون ممكن
الوجود إلا إذا لم تختلط به هذه العناصر .
3-
وبينما يكون الكلام غير متجانس ، فإن اللغة وعرفناها ذات طبيعة متجانسة : فهى نظام
من الدلالات حيث لا تعطى الأهمية فيه إلا لاتحاد المعانى بالصور السمعية ويكون
طرفا الدلالة فى هذا النظام من طبيعة سيكولوجية أيضا.
4-
ولا تقل اللغة عن الكلام من حيث إن موضوعها من طبيعة عينية ، وهذه ميزة عظيمة
بالنسبة لدراستها . وكون الدلالات اللغوية فى جوهرها سيكولوجية لا يعنى أنها
تجريدات . فأنواع الترابطات التى وقع عليها الاتفاق والتواضع الجماعى ، ومجموعها
يكون اللغة ، إنما هى حقائق ووقائع محلها ومقرها الدماغ ، وعلاوة على ذلك ،
فالدلالات اللغوية هى إن صح التعبير ذات صفة محسوسة ملموسة وللكتابة قدرة على أن
تثبتها وتسجلها ، بينما يستحيل أن نصور بآلة التصوير أفعال الكلام فى أدق تفاصيلها
. فالتلفظ بكلمة يحتوى على كثير من الحركات العضوية لدرجة يصعب معها معرفتها ورسم
صورتها أما فى اللغة فالأمر مختلف ؛ إذ ليس فيها إلا الصورة السمعية ([44]).
5- واللغة ، وقد حددت هكذا ، يمكن تصنيفها ضمن
الظواهر الإنسانية ، بينما يتعذر ذلك بالنسبة للكلام . فاللغة عبارة عن مؤسسة
اجتماعية لكنها تختلف كثيرا عن سائر المؤسسات الأخرى السياسية منها والقانونية
وغيرها… إنها نسق من الدلالات التى تعبر عن الأفكار ؛ ومن ثم يمكن مقارنتها بأنساق
الكتابة وبالأحرف الأبجدية عند المصابين بالصم والبكم ، وكذلك مقارنتها بالطقوس
الرمزية وبالإشارات المتعارفة عند الجنود وغير ذلك . إلا أن اللغة هى أعظم أهمية من
بين جميع هذه الأنساق كلها ([45])
.
وفى النهاية يحسن أن نشير
بعد هذا العرض عن " تاريخ الفكر اللغوى " إلى ما يلى :
1- أن الدرس اللغوى عرف نهضته الحقيقية فى الغرب
بعد كشف خصائص السنسكريتية ، وازدهار الدراسات الفيلولوجية فى القرن التاسع عشر فى
بحث النصوص القديمة ، ومقارنة اللغات ، ومحاولة إعادة صياغة اللغات الأولى ، ثم
محاولة الوصول إلى قوانين ، وبخاصة فيما يتعلق بالتغيير الصوتى ، على أن الطابع
العام لهذه الدراسة ظل فى حيز التناول التاريخى للظواهر .
2- إن علم اللغة الحديث لم يبدأ من جهل أصحابه
بالمنهج الفيلولوجى التاريخى ، وإنما كان نتيجة الاتصال المباشر به والمشاركة فيه
دراسة وتأليفاً ؛ ومن ثم فإن التطور كان صحيحا ، حين رأى أصحابه أن المنهج
التاريخى استوفى أغراضه ، وأنه لم يعد
يصلح لبحث الظواهر اللغوية على مبادئ البحث العلمى .
3-
إن هؤلاء العلماء وجهوا اهتمامهم إلى جعل درس اللغة "علما" "
مستقلا " ، بحيث تدرس اللغة فى ذاتها ، ومن أجل ذاتها ، وهذا لا يعنى استبعاد
الإفادة من العلوم الأخرى ؛ كالطبيعة ، والتشريح ، وعلم النفس ، وعلم الاجتماع .
4-
إن الدعوة إلى "علمية " البحث اللغوى و" استقلاله " لا يتناقض
مع تأثر اللغويين الكبار بعلماء من ميادين اخرى ، كما رأينا من تأثر سوسير
بدوركايم وتأثر سابير بفرانز بواس وتأثر بلومفيلد بالسلوكيين .
5-
إن الفضل فى تأصيل "المنهج الوصفى " يعود إلى دى سوسير الذى دعا الى طرح
الدراسة الدياكرونية ( أى دراستها فى حاله التغير) ودراستها دراسة سانكرونية ( أى
فى حالة الاستقرار) وأن تطبيق هذا الاتجاه وجد سبيله عند بلومفيلد .
6- إن المنهج الوصفى مع تأكيده على عنصر المعنى فى
الكلام الإنسانى قد ركز اهتمامه على بحث الأنماط و" التراكيب الشكلية "
فى اللغة
7-
إن هذا المنهج ظل مسيطرًا على البحث اللغوى فى الغرب حتى أواخر الخمسينات ، حين
ظهر اتجاه جديد لا يقف عند "وصف" الظواهر وإنما يسعى إلى " تفسيرها
" على أساس من المنهج العلمى كذلك ([46])
الهوامش
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية