النزوع القومي العربي في شعر أبي الطيب المتنبي

النزوع القومي العربي في شعر أبي الطيب المتنبي
المتنبي شاعر العروبة ومخترق الأزمنة
مــلأ الدنيـــا وشغــل النـــاس
بقلم:ليلى الدردوري 
"ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس" كلمة قالها الناقد الكلاسيكي ابن رشيق في الشهرة والسيرورة اللتين نالهما شعر المتنبي منذ ظهوره حتى اليوم، والسؤال الذي يتبع ذلك هو: كيف جاء المتنبي؟ وما العوامل التي هيأت لشعره كل هذه الشهرة، وأفضت بالناس إلى الانشغال به، والاختلاف أيضا في شأنه؟ والحقيقة أن هذه العوامل لا بد أنها عديدة انبثقت من مصدرين رئيسيين: شخصية المتنبي أولا، وأوجه شعره المختلفة، فالمعروف أن شخصيته استرعت الجميع بعظمتها،
ولا تزال كذلك حتى اليوم بفضل الشعر الذي تجلت فيه.
فنشأة المتنبي في الكوفة أحد مواطن الحضارة العباسية، اشتهر  بقوة الذاكرة وشدة النباهة والذكاء والمقدرة على نظم الشعر، وبعد استيلاء القرامطة على الكوفة فر مع ذويه إلى السماوة ومكث فيها سنتين اختلط خلالها بالبدو. ثم عاد إلى الكوفة واتصل بأحد أعيانها أبي الفضل الكوفي فاعتنق مذهب القرامطة. وبين سنة 937 وسنة 939 طاف المتنبي بالشام فمدح رجالا مختلفي المرتبة غير يائس من نفسه. ومع تنقله بين رجالات عرب وأجانب ظل المتنبي بدوي النزعة، خالص العروبة، وأنمى في ذاته أمثل الشمائل العربية كالبسالة والطموح والمجد، والأنفة، وانشغلت عبقرية المتنبي طول حياته بمثال النفس العربية المثلى، فاتخذها غرضا لجميع شعره، دائبا في توضيح ملامحها، من ثم ظهر في نواح متعددة من شعره اعتزاز دعاه ليحفز العرب على جمع كلمتهم لتحطيم نير السلطات الأجنبية والتحرر من قيودها، مبرزا بقوة وجلاء ضرورة إعادة الملك 
العربي إلى صحته وصفائه. وباعث هذه الدعوة النابضة ضآلة أحوال العرب في ذلك الزمان وما كان عليه السلطان العباسي، وقد أذن بالأفول من انكسار سياسي لكثرة ما كان تحت رايته من أقطار متفرقة وشعوب مختلطة، مختلفة النزعات، كثيرة الشيع والمذاهب، وقد طمعت بالحكم فقامت تعرض تفوقها الثقافي
لم يزغ المتنبي يوما عن الهدف الذي سعى إليه منذ مطلع عمره حتى مقتله، فشعره ينبض بذكرى وطنه وقومه، ويشهد بأن فكرة العروبة قد لازمته أينما حل حتى كانت أوفر الأشياء سحرا وفتنة تعجز عن ملء نفسه وإسعاده، ما دامت أحوال العرب هزيلة قاصرة وهو ما بينه في قوله في شعب بوان:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ولكن الفتى العربي فيها
غريب الوجه واليد واللسان
ويمثل الشعر القومي عند المتنبي القسم الثاني من شعره بعد شعر الفتوة وهو ما قاله في حلب عند سيف الدولة، وقد داق من الدهر حلوه ومره،وخبر الناس وسبر أعماقهم، وهو شعر من ظفر ونال هدفه، وإن لم يمت حساده، ينشده في بلاط أمير يرمز في نظره للقائد العربي، ويمثل القومية العربية، وما تنزع إليه نفس المتنبي من فروسية وبطولة وتطلع إلى المعاني وهو كذلك شعر ينقل قلب الشاعر من منزلة إلى أخرى، ومن مرتبة الإحساس الشخصي المنفرد الضيق إلى الاحساس الشخصي المتولج 
في المجتمع المزاحم في سياسته، المؤمل من سيف الدولة رد السلطان إلى العرب وإن القارئ ليلمس في هذا الشعر قلب الشاعر المنتفض بالفرح والاعتزاز المملوء بالثقة، وقلبه الدامي أيضا، وقد اجتمعت عليه من ضروب الكيد بالمنافسة والحسد، 
وتكاثر الخصوم ما صرف عنه الأمير من وقت إلى آخر، وأدى أخيرا إلى الافتراق النهائي. ومن أدلته على تفوق العرب، التاريخ الذي حفظ لهم أمجاداً وحسب القومية العربية عنده أنها أقوى القوميات وأنبلها أصلا ووراثة، وأكرمها طبعا، وأذكاها عقلا، وأشد ما لديه من البراهين التأكيد القاطع الذي يفرض المراد فرضاً لا يقبل الجدال، و قد اقتضت ذلك نزعة المتنبي الشخصية وحالة الحرب والتضييق في عصره وقد نشأ نزاع دائم قاس في قلب الشاعر بين الفرحة الغالية والحسرة المتمكنة معبرا بشعر خافق عن حياة مضطربة ينجلي فيها الصراع الشديد الناطق تارة بفخر نابض، وتارة بشعر هو أصفى الشعر الغنائي وأروع الشعر الملحمي من قبيل قوله يصف معركة ضد الروم:
أبصروا الطعن في القلوب دراكا
قبل أن يبصروا الرماح خيالا
بسط الرعب في اليمين يمينا
فتولوا وفي الشمال شمالا
ينفض الروع أيديا ليس تدري
أسيوفا حملن أم أغلالا
هي إذن القوة تنطلق لفظا وقافية تزيدها صور الشاعر واستعاراته الميالة إلى المغالاة اشتدادا، وإلى عظيم خيار من الأخيلة قال في غلو حماستها وفي مقدارها أحد النقاد المحدثين ان هذا الزخم من الشعر الحماسي البليغ في ديوان الشاعر المتنبي لا نظير له في الإلياذة، ولا الشاهنامه، بل ذهب إلى حد حسبانه  منقطع النظير في المهابهارتا والراميانا الهنديتين وهي أروع شعر حماسي باللغة العربية، وهي جمالات القوة المعادلة لذات المتنبي، و التي لا تلبث أن تتجلى في مدائحه ولا ينساها في غزل أو فخر، أو وصف، أو شكوى،أو تهكم، وهو الذي أجمع المؤرخون والنقاد معا على صلة شخصيته بشعره، معتبرين ذلك صورة لخلجات نفسه، وأحواله المختلفة، وقد بلغ به الولع حد هيامه بالتحدث عن نفسه، وهو الشاعر الذي تفاعلت في تكوينه عوامل منها طموحه إلى المجد والسيادة، والانفراد، كيف لا وهو المسكون بشبه جنون العظمة بشخصه.
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
وفي موضع آخر:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
هل كان يتوق إلى الحكم؟ بدليل أنه استلذ قرع الأسنة، فهوى ركوب أوعر المسالك في سبيل الغنى، وأقبل على غير اللذة الهينة، وقد صلب قلبه حب القوة، فما تدلل لحبيب  ولا تعدى تقاليد البساطة، ولئن طمع في المال وحرص عليه لعلمه أن (لا مجد في الدنيا لمن قل ماله). ثم بعدئد تبدو الآمال العظمى تتصاعد ناقمة بعدما تراءت له الآمال عظيمة، لا تلبث أن تتحول إلى صواعق مدوية في ذم الزمان والناس:
دهر ناسه صغار
وإن كانت لهم جثت ضخام
وما أنا منهم بالعيش فيهم
ولكن معدن الذهب الرغام
مفتحة عيونهم نيام
ويبقى أن حصاد الشهرة الذي لازم شعر المتنبي شيئ منتزع من سمات فنه وهو فن شخصي متفرد، شعره جال جولة في الزمن، واستحوذ على حظ وفير من الشروح وغزارة أبحاث، اتفق على وضعها أكابر النقاد الشرقيين والمستشرقين من ابن جني، إلى الشيخ ابراهيم اليازجي وطه حسين،  ومن رايسكه ودي ساسي إلى هامر، ونيكلسون، وبروكلمان... أما شاعريته باستوائها الراقي فقد اتسعت إى حد نشأة الحركة المتنبية التي شملت العهد العباسي وعهد النهضة العربية وعهد النهضة الذي شهد انبعاث الشعر العربي وإحياءه في العصر الحديث.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس