الفروسية المغتربة في ديوان "التفت حنظلة" للشاعر محمد فراشن

الفروسية المغتربة
في ديوان "التفت حنظلة" للشاعر محمد فراشن
         الدكتور عبد الجبار لند
         ارتبطت الفروسية وقيمها بالشعر العربي منذ مراحله الأولى، فكان لسان حال الميادئ السامية والمثل العليا التي جبل عليها الشعراء الفرسان يصدح بها في الآفاق، ويذكر ببطولاتهم وأمجادهم في خوض الحروب واقتحام المهالك في سبيل هذه القيم، التي حظيت  بدراسات عديدة على يد الباحثين والأكاديميين، لما تحمله من روح وثابة ونموذج يتحدى في تحقيق العزة التي يتغياها كل إنسان  يتوق إلى الحرية ويصبو إلى الشرف والنبل، فشخصية الفارس في الموروث الثقافي العربي تفرض عليه أن يكون شجاعا مقداما عزيزا كريم النفس لا يقبل الظلم وفيا لا يغدر ولا يخون، يحافظ على المرأة ، ويحمي من استجار به، وقد كان ارتباط الفروسية بالشعر راجعا لكون الشعراء على غوايتهم البريئة ومشاعرهم النبيلة أقرب إلى الأنبياء والحكماء وكبار الثائرين، لأن ما يجمعهم جميعا هو  صفاء النفس، ومعاناة العذاب الإنساني والرغبة في تحريره وتطهيره وإضفاء المعنى على عالم ما فتئ ينتهك المعنى.
         وهكذا فالفارس هو الإنسان الذي تتجسد فيه القيم الشعرية الأصيلة بمعانيها المتعددة من شهامة وبذل وعطاء وحس مرهف، لكن هذه القيم عرفت في شعرنا العربي المعاصر غربة واغترابا ، خاصة مع توالي النكبات و افتقاد المجتمع لقيمه الأصيلة وتغير نمط عيشه، وتبدل رؤيته للكون وللأشياء، وعلاقاته الإنسانية، مما أفقد قيم الفروسية ألقها وتوهجها، حتى لدى العديد من الشعراء يقول الدكتور نجيب العوفي : " هذه الفروسية الشعرية بالضبط هي المفتقدة والآن افتقادا هائلا في مشهدنا الشعري المغربي، الذي أصبح غاصا بالمتشاغبين والمتطفلين، ومغمورا بهذر الشعر وهرائه".
         وبالرجوع إلى ديوان الشاعر محمد فراشن فإن قيم الفروسية وروح التحدي لديه يطالعنا من العنوان " التفت حنظلة" ومن الغلاف الذي يبرز صورة الطفل الرمز الأسطوري الشاهد على الكفاح الفلسطيني يلتفت أخيرا وتظهر ملامح وجهه المليئة بالندوب وعينه البراقة المتطلعة إلى الأفق البعيد وهي تدمع على هذا الواقع المرير الذي ما آن له أن يتغير.
         وحنظلة شخصية أبدعها الفنان الكاريكاتوري الفلسطيني ناجي العلي ، وهي تمثل طفلا فلسطينيا في العاشرة من عمره أطل  على الجمهور أول مرة سنة 1969 عبر صحيفة السياسة الكويتية، ومن يومها أصبح حنظلة توقيعا لأعمال ناجي العلي ، وقد قال عنه: " هذا المخلوق الذي ابتدعته وأسميته حنظلة هو الذي سيخلدني بعد مماتي"، ويقدم لنا حنظلة بطاقة تعريفية عنه تبرز خصال الفروسية المغتربة، يقول : أنا إنسان عربي اسمي حنظلة، اسم أبي مش ضروري أمي اسمها نكبة، ولدت في حزيران 1967 جنسيتي أنا مش فلسطيني مش أردني، مش كويتي ومش لبناني، مش مصري مش حدا... محسوبك إنسان عربي وبس، وإني إنسان عربي واعي معاشر كل الناس، المليح والعاطل ورحت الأغوار وبعرف مين يقاتل ومين بيطلع وبس، وفهمته إني ما بخاف من حدا، غير الله، واللي بدو يزعل ، يروح يبلط البحر".
         إذن من خلال هذا الرمز الذي اختاره شاعرنا لعنوانه الذي أتى على صيغة الأمر "التفت حنظلة" والصورة المصاحبة له والتي تمثل لحظة الغروب ، بأبعادها الإستيتيقية والدلالية، تبرز قيمة العمل الفني الذي بين أيدينا، والنفس الشعري الذي يتخلله والمرتبط أساسا بقضايا الأمة وهموها ، في مضمونها الإنساني المتأسي على واقعها والمتطلع إلى غد أفضل يتحلى فيه الإنسان العربي بقيم الفروسية التي افتقدها.
         والديوان من الحجم المتوسط يتضمن تسعا وثمانين صفحة تتوزعه أربع وثمانون قصيدة إضافة إلى إهداءين الأول يتوجه به الشاعر إلى والدته، والثاني إلى أخيه، والقصيدة الأولى التي يمكن اعتبارها إهداء إيضا إلى حنظلة، إذ يقول فيها:
حنظلة
أيها الفارس ..
أما آن لك أن تلتفت..
وتكدر صفو الطاغية..
أما آن لك أن تبتسم..
وتوقف دمع الباكية..
أما آن لك أن تنتفض
وتعلن مجد القافية..
فمن هنا نجد أن الشاعر يجعل من القضية الفلسطينية قصيدة يجب أن تعلن مجدها ونصرها ، بل إننا نلفي نوعا من التوحد بين حنظلة الرمز وحنظلة الشاعر صاحب الديوان فكلاهما يحمل هم أمته ويتطلع إلى غد أفضل يصبو إلى التغلب على خوفه والجرأة على الالتفات  والتحدي هذا الذي نجده في العديد من قصائد الديوان.
         ونجد هذا العنوان يتكرر في الصفحة 48 من وسط الديوان، حيث يبرز هذا التداخل الوجداني  والتأثير المبتادل، بين الشاعر والرمز الذي يتخذه قناعا يعكس من خلاله طموحاته وتطلعاته، نحو الفروسية الغائبة، يقول الشاعر :
وصرت إلهي.. ومعبدي ..
وقصة حبك ملحمة..
وهمسك قصائد
استادر من أجلها ..
الطفل حنظلة..
         وهذه الفروسية  تطالعنا من خلال مجموعة من السمات اللغوية والأسلوبية والدلالية، إذ تتخلل الديوان العديد من الألفاظ الدالة على هذه التيمة كالسيف والرمح والسياف والفرس والقتل، والصفات المعبرة عنها كالكرم والصدق والوفاء والإقدام وروح التحدي، يقول الشاعر من قصيدته علمني:
علمني الزلزال
كيف لا أقلق
وعلمني الطوفان
كيف لا أغرق
إلى أن يقول:
علمتني الحياة
كيف لا أستسلم
للمطلق..
         كما تتخلل الديوان مجموعة من التيمات التي ترتبط بالتيمة الأساس ولا تناقضها خاصة في عصرنا هذا زمن المتناقضات ، ففروسية الشاعر المغتربة عن زمانها ومكانها وروحها ووجدانها. تنصدم بواقع الأنانية والخذلان والغدر والنفاق والجبن والتسلط في مدنية غارقة في وحل الذاتية المطلقة المغيبة لكل ما هو إنساني، بل نجده في إحدى قصائده يتأسف على هذه المفارقات وهي بعنوان ، " فارس قزم" يقول فيها:
فارس قزم
قزم
فرسان هذا الزمان..
سيوفهم
أعواد ثقاب..
وجيادهم جرذان..
لهم أساطيل من ورق..
وقائد اسمه الغرق..
أبادوا مكارم أمتهم..
وزفوا الغروب للغسق..
شيدوا قصور نخوتهم..
في النخاع العربي..
أعوذ برب الفلق..
من شر ما خلق ..
         فمن هذه التيمات نلفي تيمة الغربة وتيمة الألم ، وتيمة الأرض والوطن، وتيمة الحب وتيمة الحزن ، وتيمة القرية والمدينة وغيرها ، مما لا يسع المقام لجردها جميعا وتفصيل القول فيها ، يتداخل فيها الواقع بالخيال والحقيقة بالحلم ، والأمل باليأس ، ليشكل صورة كلية للفارس الذي أبى أن يترجل رغم واقع الهزيمة والنكبات والتنكر الجماعي لقيم الفروسية الخالدة. ليبقى حنظلة هذا الطفل العربي شاهدا على ذلك.
         فهذا الديوان الذي بين أيدينا تكمن قيمته الفنية والأدبية في شاعرية صاحبه هذه الشاعرية التي أضحت ناذرة وفي سعة اطلاعه وتعمقه في ما يطالعه، يتضح ذلك من خلال المعجم الفني والتراثي الذي يوظفه كالتراث الديني ، مثال النبي ، عيسى موسى ، وسليمان، الهدهد، بلقيس العذراء ، البراق، والرمز التاريخي الفراعنة ، وعنترة ، وسبأ وغيرها.
         كما تتميز لغته ، بقوة بنائها، وجزالة ألفاظها ، ومتانة أسلوبها ، ومواكبتها للدفقة الشعورية لدى الشاعر، والتي كانت في معظمها قصيرة، تعكس نفسية الشاعر المتوترة القلقة ، إذ تخرج المقاطع كزفرات ينفثها الشاعر لتخفف الوهج المشتعل بداخله بسبب ما ألم بوطنه وبأمته من مأسي متداخلة، منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي ومنها ما هو قيمي. يشعر الفارس الحقيقي بالغربة والضياع ، ويضع المتلقي أمام الصورة الدونكيشوتية النمطية للفارس الذي يصارع طواحين الهواء.
         وبهذا نختم هذه المداخل البسيطة التي حاولت أن تقترب من الديوان وتلامس بعض معالمه الفنية والدلالية، دون الغوص في مكنوناته ورؤاه ،مما لا يسع المجال للتوسع فيه ، وفي الأخير أستميح شاعرنا عذرا لأختم كلامي بقصيدته هذه التي تعكس غربة الفارس ، وهي بعنوان "الغريب "، يقول فيها:
وطني مسافر
كالضباب التائه
خلف الحدود..
في بيتي غريب
أنا ذاك الغريب..
أشعر بالرجوع
آلاف السنين..
أبحث حقا
عن جد الجدود..
أعود وحيدا
في كفي سلام
لا يؤمن بالوعود..
أذوب نفيسا
أبقى نفيسا
وأعود انبثاقا
يحيي العهود
         ومن هنا يبقينا الشاعر أمام عودة المخلص الثائر، الذي قد يكون نبيا ، وقد يكون حكيما أو فارسا أو قد يكون  طائر فينيق .    
  

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس