الفلسفة و المجتمع
بقلم الدكتور ابراهيم
طلبه سلكها
لا
شك فى أن الفلسفة تعد أكثر أبعاد الفكر الإنسانى تعرضا للطعن والهجوم والتهكم
والسخرية فقد كانت دائمًا ضحية لتلك الهجمات الضارية التى وجهت إليها من قبل عامة
الناس ، ورجال الدين ، ورجال العلم، ورجال السياسة ... الخ ، وقد استشهد كثير من
الفلاسفة فى سبيل ما صنعوا من فلسفات .
لذلك يرى برديائف أن الفلاسفة كانوا دائما جماعة ضئيلة من الأشخاص
بين مجموعة البشر ، ورغم ذلك فقد تحالف ضدهم رجال الدين واللاهوت والكنيسة ،
والمؤمنون ، والعلماء ، ورجال الدولة من محافظين وثوريين والمهندسون والفنيون
والفنانون وأخيرا جمهرة البشر . وهكذا يبدو وكأن الفلاسفة هم أوفر أعضاء الدولة
نصيبا من الإهمال ، أى هؤلاء الذين لا يؤدون وظيفة هامة سواء فى الحياة السياسية
أو الاقتصادية ، وعلى الرغم من ذلك فإن الطبقات الحاكمة وهؤلاء الذين يقومون بدور
هام فى حياة الدولة أو المجتمع يضمرون العداء للفلسفة لأنها لا تخدم أهدافهم
فيؤكدون أن الفلسفة عمل لا مبرر له وعبث لا طائل من وراءه .([1])
والحق أن موجات الهجوم على الفلسفة قد وجهت إليها من منطلقات متعددة ،
ومعظمها تقلل من عدم جدوى الفلسفة ، وتحط كثيرا من قدر عمل الفلاسفة وتقول : إن
الفلسفة عبارة عن مجموعة من التأملات المجردة التى لا أهمية لها فى الحياة ، وأنه
ينبغى بالأحرى التوفر على دراسة العلوم التطبيقية لأنها هى التى تحدد طرائق عمل كل
أوجه النشاط (من عمل المهندس إلى عمل المربى) ، من مثل علم الاجتماع و علم الاقتصاد
وعلم السياسة . والأساس الذى يقف وراء ذلك هو أنه :" فلنعش أولا ،
ولنتفلسف بعد ذلك" كما يقول المثل اللاتينى ، والتفلسف لا يغنى من فقر ،
ولا يسمن من جوع .([2])
وإذا بدأنا برجل الشارع نجده ينقد الفلسفة وينكرها ويرفضها ويسخر
منها قائلا : ما علاقتى بالفلسفة ، دعونى وشأنى، إننى مستغرق فى همومى الخاصة التى
ليس فى مقدور الفلسفة أن تقدم أى حل بشأنها ، فلن تستطع الفلسفة أن تدبر أمور
حياتى المعيشية أو علاقاتى الوظيفية وليس لدى وقت أضيعه فى التأمل ، وليس فى
مقدورى أن أتكسب بالفلسفة أو أتعلم مهنة مفيدة عن طريقها . إن الفلسفة لا يمكنها
أن تضيف إلى شيئا له قيمة ، فهى تبدو بعيدة عنى كل البعد ، إنها تدور فى دائرة ،
وأنا أدور فى الأخرى ، والدائرتان لا تقتربان أو تلتقيان . لقد قال الفلاسفة
الكثير لكنهم رغم كل هذا لم يستطيعوا أن يقدموا لنا حلول نهائية لكل المشكلات التى
عانت منها الإنسانية على مر العصور ، وكيف كان بإمكانهم ذلك وهم قد اختلفوا
وتنازعوا ولم يتفقوا حول كلمة واحدة تريحنا وتكشف لنا عن ذلك الطريق المحدد الواضح
الذى تتحقق به سعادتنا . إن الفلاسفة قوم حالمون يعيشون بمعزل عنى وعن غيرى ، وهم
لا يفعلون شيئا سوى التفكير بعيدا عن أرض الواقع لكى ينتهوا إلى نظريات ومذاهب
وأفكار يناقض بعضها بعضا.([3])
ورأى رجال الدين فى مختلف العصور أن الجهد الفلسفى لا طائل وراءه
فضلا عن خطورته : فالفلسفة تزعم أن بإمكانها أن تتوصل بالعقل إلى حقائق معينة ، فى
حين أن مثل هذه الحقائق ينبغى ألا تنكشف أو تؤسس إلا على الإيمان والعقيدة . وتأتى
خطورة الجهد الفلسفى فى توهم العقل أن بإمكانه التمرد على العقائد، بل إخضاعها له
.([4])
ولقد دأب رجال الدين ورجال السياسة دائما على اضطهاد الفلاسفة وتعذيبهم ،
بل وإحراقهم فى بعض الأحيان ... والتاريخ الفلسفى نفسه ينبئنا ببعض ما حاق بكثير
من الفلاسفة ، فلقد حكم اليونانيون القدماء على "انكساجوراس "
بالنفى المؤبد لأنه تجاسر فصرح بأن فوق آلهة اليونان روحا مستكفيا بذاته مدبرا لكل
شئ . وحكمت محكمة الأيثينين على "سقراط" بأن يتجرع السم
بدعوى تطاوله على العقائد وإفساده الشباب والعبث بقوانين البلاد لأنه أعلن الحرب
على المتعاليين والمدعين والمهرجين . و"أفلاطون" ألقى به فى
السجن وأوشك أن يقضى حياته فى الأسر و "أرسطو" أضطر إلى الهروب
من أثينا لينجو بحياته من كيد حاسديه .([5])
ونكل "بابن رشد" فى الأندلس حيث وشى به الفقهاء باسم
الدين فجرده أمير الموحدين من مناصبه وأقصاه منفيا إلى قرطبة وأحرق كتبه وأهدر دم
"السهروردى" فى حلب و"الحلاج" فى بغداد وقتل
كثير من المجددين الذين مهدوا لعصر النهضة فى أوربا أمثال "راموس"
و"فانينى" و"جوردانو برونو" الذى أحرق حيا فى
روما. وفى المرحلة الحديثة أرغم "ديكارت" على الالتجاء إلى
هولندا ، وطرد "سبينوزا" من المجمع اليهودى ... وحتى فى القرن
العشرين نجد الفلاسفة وقد حفت حياتهم بالمكارة : فمن فلاسفة وضعت الكنيسة بعض
مؤلفاتهم فى قائمة سوداء مثل "برجسون" إلى فلاسفة اضطرهم النظام
السياسى القائم فى بلادهم إلى النزوح عنها حذر الاضطهاد مثل "برديائف"
الذى ترك روسيا البلشفية وعاش لاجئا فى باريس ، و"كارل ياسبرز"
ترك ألمانيا وعاش لاجئا فى سويسرا.([6])
وهذه الشواهد وغيرها تنهض دليلا على ألوان التعذيب وصنوف الاضطهاد التى
صبها الممثلون الرسميون للدين على رؤوس الفلاسفة ، ويمكننا أن نشير هنا إلى موقف
الفيلسوف الوجودى "كير كيجارد" الذى هاجم الفلسفة تحت ستار
الدفاع عن الخبرة الدينية ... فهو يرفض كل محاولات الفلاسفة فى خلق أنساق
ميتافيزيقية وصلت إلى حد الكمال مع بدايات القرن التاسع عشر، ويرفض على وجه خاص
النسق الهيجلى ، ذلك النسق الذى ادعى صاحبه أنه استطاع أن يفسر كل شئ عن الكون
والإنسان تفسيرا كاملا عن طريق العقل . وأكد أن الفلسفة لا يجب أن تكون مجردة ، بل
على العكس من ذلك ، يجب أن تركز على تجربة شخصية Personal
Experience وعلى موقف تاريخى Historical Situation يجد فيه الإنسان نفسه ، ولذلك كانت الفلسفة عند "كير
كيجارد" نقطة ارتكاز لكل حياة فردية ، وليست للتأمل التصورى المجرد . ([7])
ومن منطلق دفاعه عن التجربة الدينية لم يقف : "كير كيجارد"
عند حد رفض النزعة العقلية عند "هيجل" بل رفض كل مذهب فلسفى
كائنا ما كان ، فلقد كتب يقول : "إن المذهب يعد بكل شئ ولكنه لا يفى بأى
شئ على الإطلاق" أضف إلى ذلك أن المذاهب تتطلب التسليم بمسلمات وبديهات
ومصادرات لا تحتاج فى ظن أصحابها إلى البرهان العقلى ، ومع ذلك فتلك المذاهب
تتظاهر بأنها عقلية من البداية إلى النهاية ، كما أن اجتهاد أصحاب المذاهب الذين
يبذلونه فى سبيل نوع من الكمال المنطقى يقضى على الإدراك للواقع المعاش فعلا .
لهذا كان "كير كيجارد" يعتقد دائما أن ما هو على صورة المذهب
معارض للحياة معارضة الشىء المغلق للشىء المفتوح ، وكان يرى أنه لا يمكن أن تصل
إلى الإله بوسيلة طرائق الفكر ، واعتبر أن كل محاولة من أجل إضفاء طابع عقلى على
العقيدة المسيحية هى تجديف وكفر .([8])
وما كان هجوم "كير كيجارد" على الفلسفة إلا نتيجة لإصراره
على القول بالمفارقة paradox فهو يقرر أن المفارقة لا يمكن أن
يسيطر عليها الفكر لأن الإيمان يبدأ من حيث ينتهى الفكر . وفى ضوء هذه الفكرة
يطالب "كير كيجارد" بضرورة أن نسقط العقل نهائيا إذا كنا نرغب فى
أن نعايش بالخبرة أو التجربة الدينية عالم القيم والأخلاق والدين .([9]) ومن
ثم فهو يرفض كل المذاهب العقلية التى حاولت تعقل التجربة الدينية .
وإذا كانت الفلسفة قد وجدت فى الدين أول مصدر للهجوم وأكثره عنفا فإنها
أيضا كانت ضحية لهجمات العلم ... فلقد ظلت الفلسفة ردحا طويلا من الزمان تحيا فى
وفاق تام مع العلم ، بل كان العلم يحيا فى ظلها ، ويحتمى بها ، ويستمد شرعيته منها
لسبب بسيط واحد وهو أنه لم تكن ثمة تفرقة بين العلم والفلسفة ، بل لم يكن هناك أى
معنى لوضع حدود فاصلة بين النشاطين ، فهما نشاط واحد ، نطلق عليها تارة اسم
الفلسفة وتارة اسم العلم ، ومن هنا عرفت الفلسفة بأنها علم العلوم . ومع انفصال
العلم عن الفلسفة بعد أن كان ممتزجا بها وداخلا معها فى كيان واحد ، بدأت تثار
الشكوك حول وظيفة الفلسفة فى ضوء علاقتها بالعلم ، وبدأت بالتالى محاولات إخضاع
الفلسفة للعلم . ([10])
وهذا ما نجده بوضوح عند "أوجست كونت" فى مذهبه الوضعى
الذى حاول خلاله أن يخضع الفلسفة مباشرة للعلم . فلقد أطلق على فلسفته اسم "الفلسفة
الوضعية" أى العلمية ، وكان يعتبر هذه الفلسفة هى المرحلة الفكرية
الراهنة التى وصل إليها العقل البشرى فى تطوره ، وفى ظل هذه المرحلة العلمية لم
يعد للفلسفة وجود ، بل أصبحت تابعة للعلم ، عليها أن تسير فى ركاب العلم وتهتم
بدراسة قوانينه ونتائجه التى تفسر ظواهر الطبيعة ، وعليها أن ترتب هذه القوانين من
الخاص إلى العام .
نجد ذلك أيضا فى عصرنا عند دعاة الوضعية المنطقية الذين يوجهون أعنف نقد
إلى الفلسفة التقليدية باعتبارها مجموعة قضايا وعبارات عديمة المعنى ، وأرادوا
بذلك أن يقدموا لنا فلسفة تنهل من نبع العلم وتعاليم العلماء ، وتهتم بالتحليل
المنطقى لأقوالهم لتحقيق الوضوح فى التفكير وإزالة اللبث والغموض عن ألفاظ اللغة
وعباراتها . لذلك يرى "زكى نجيب محمود " - أكبر أنصار الوضعية
المنطقية فى عالمنا العربى – أنه لا يجوز للفيلسوف أن يقول جملة واحدة يحاول بها
أن يصف هذا الكون أو أى جزء منه، وكل مهمته أن يحلل العبارات التى يقولها العلماء
فى أبحاثهم العلمية والناس فى حياتهم اليومية ، تحليلا يبين مكنون هذه العبارات
حتى نطمئن إلى سلامة ما يقال ، إذ هى مهزلة المهازل أن يجلس الفيلسوف على كرسيه فى
عقر داره مسندا رأسه على راحتيه زاعما لنا ولنفسه أنه يفكر فى حقيقة العالم وكأنما
العلماء أمام مخابيرهم وموازينهم ومقاييسهم يلهون ويعبثون ولا يبحثون عن حقيقة
العالم بحثا هو أجدى على الناس من ألف ألف رسالة فلسفية فى هذا السبيل .([11])
ويصف لنا "البرت اشفيتر" حال الفلسفة فى كتابه "فلسفة
الحضارة " فيقرر أن الفلسفة قد تراجعت وتخلفت اتجاهاتها فى عصرنا نتيجة
انصرافها عن القيام بواجباتها ، لقد كانت الفلسفة تقود الإنسانية وتتضمن فى داخلها
تفلسفا أوليا عن الإنسان والمجتمع والجنس والإنسانية والحضارة مما جعل لها سمة
شعبية واضحة ، ومن ثم كانت تهيمن على التفكير العام وتحافظ على التحمس للتحضر ،
وكانت عاملا فعالا فى إنتاج معتقدات عامة عن الحضارة . أما الآن وبعد الانهيار
الذى حدث فى منتصف القرن التاسع عشر أصبحت الفلسفة عمليا هى تاريخ الفلسفة ، لقد
غادرتها الروح المبدعة ، وأصبحت خاوية من التفكير الحقيقى . كما راحت تتأمل فى
النتائج التى وصلت إليها العلوم الجزئية ومن ثم فقدت القدرة على التفكير الأصيل .([12])
وفى ظل هذا الوضع لم يعد للفلسفة رسالة تؤديها للعالم ، لقد أصبحت مجرد
حذلقة فلسفية يقوم بها منحلون ، أصبحت غريبة عن العالم ومشاكل الحياة الروحية
العامة . إنها لم تتفلسف فى الحضارة إلا قليلا لأنها خدعت بثرواتها وأهملت غرس الأرض
بمحاصيل مفيدة ، وبالتالى أسلمت العصر لمصيره وتجاهلت ما فيه من مشكلات .
وعموما رغم كل اتجاهات الشك هذه فى جدول الفلسفة لا يمكننا أن نتجاهل أصالة
الفكر الفلسفى وفاعليته فى بناء الحضارة الإنسانية . فالفلسفة لون أصيل من التفكير
لا نستطيع التخلى عنه ، فهى مرتبطة بوجودنا ووعينا وإنسانيتنا . والإنسان متفلسف
بطبيعته طفلا وصبيا وشابا وكهلا على نحو ما يرى "كارل ياسبرز"..
إن النزعة إلى التفلسف ظاهرة طبيعية فى الإنسان ومرتبطة به من حيث هو كذلك . وهذا
ما أكده "كانط " نفسه برغم اعتقاده بأن الميتافيزيقيا مستحيلة المعرفة
على عكس المعرفة العلمية الممكنة لنا . فهو يقول "لقد قدر للعقل الإنسانى فى
نوع من أنواع معرفته – يقصد الميتافيزيقيا – أن يحمل بأسئلة أملتها عليه طبيعته
فلا يستطيع أن يتجاهلها ، ولكنها لتجاوزها حدود قدرته هو لا يستطيع أن يجيب عنها ".([13])
إن الإنسان لا يمكنه أن يتحرر كلية من الفلسفة حتى
الأطفال لهم رؤى فلسفية تتكشف لنا من خلال تساؤلاتهم حول محتويات هذا الوجود ...
فهؤلاء الذين يظنون أنهم لم يغمسوا أصابعهم فى أى فلسفة إنما هم متفلسفون هواه ،
وفى الوقت نفسه الذى يستخفون فيه بأعمال رجال ذوى قدرات عقلية تفوق قدراتهم أيما
تفوق ، فإنهم يبنون لأنفسهم فلسفاتهم الخاصة ، وإن تكن معدومة الفائدة وردئية
القيمة .([14])
وإذا كان من الحق أن الفلسفة معادية للغالبية العظمى من الناس فمن الحق
أيضا أن كل إنسان فيلسوف بمعنى من المعانى دون أن يدرى ذلك . فكل إنسان شعر بذلك
أو لم يشعر ، يحاول أن يحل مشكلات ذات طبيعة ميتافيزيقيا ، وهذه المشكلات أكثر
مساسا بحياته من المشكلات الرياضية والطبيعية ، والفلسفة الشائعة سمة مشتركة
للطوائف والطبقات والمهن المتعددة كالسياسة سواء بسواء والإنسان الذى يشعر بنفور
من الفلسفة أو الذى يحتقر الفلسفة له هو أيضا فلسفته الخاصة ، ولو لم يكن ذلك حقا
بالنسبة للسياسى والثورى والمتخصص والمهندس والرجل الغنى لما خطر لهم أن الفيلسوف
رجل تدعو إليه الحاجة .([15])
ولهذا فإن التقليل من قدر عمل الفلاسفة هى مسألة باطلة وخاسرة ولا يمكن
تبريرها ... فالفلسفة هى التى تحمى الإنسان من الهبوط إلى مستوى البربرية وتساعد
على بقاء الإنسان إنسانا ، وعلى أن يصير إنسانا على نحو أفضل ، ومهما بدا فى
الظاهر من عدم جدوى الفلسفة فإن الفلسفة فى الواقع قوة تاريخية مؤثرة وقادرة .
فينبغى أن نوافق "وايتهد" حين يقارن ما أحرزه الاسكندر
المقدونى أو قيصر الرومان من نجاح بالنتائج التى تبدو فى الظاهر غير مثمرة
التى يحصل عليها الفيلسوف ، فالواقع أن الذى يغير مسار الإنسانية إنما هو الفكر .([16])
ويؤكد "وايتهد" أهمية الفلسفة للحضارة من حيث إنها محاولة
لتنظيم جميع المعلومات المتوفرة فى فكرة عامة . كما أنها أكثر تأثيرا من كل
الدراسات الفكرية ، فهى تبنى القصور الشامخة قبل أن يكون العمال قد حركوا حجرا
واحدا ، وتهدمها قبل أن توضع مواد البناء فى أماكنها . إنها مهندسة مبانى الروح
وهى أيضا محطمتها ، والفلسفة قد تعمل فى بطء ، فقد ترقد الأفكار فى سباتها عدة
قرون ثم على حين غرة يجد الجنس البشرى أنها أصبحت جزءا أصيلا فى كيانات النظم
الاجتماعية . والفلسفة أولا وأخيرا جهد يهدف إلى الحصول على فهم منسق منطقى
للأشياء الملاحظة.([17])
كما يؤكد المفكر المصرى (عثمان أمين) أن الفلاسفة هم الذين يحركون
الحضارة بأفكارهم ، فإذا كانت الأفكار الكبيرة المبتكرة تفعل فعلها بصورة بطيئة
فإنها تكون هائلة شأنها فى ذلك شأن الذبابة التى تلدغ فتستشير الوعى ، أو شأن
منارة تشير إلى مكان أفضل . فالفلسفة صانعة التاريخ ، والتاريخ الإنسانى بأثره هو
تاريخ فلسفات وأيديولوجيات ، فالأيديولوجية القديمة عند اليونان والرومان قد قسمت
الناس إلى سادة وعبيد ، ولهذا ظل الرق شائعا زمنا طويلا ، وظلت نظريات الشعوبية
والعنصرية صامدة مدى قرون ، فلما جاء السيد المسيح نادى بالمساواة بين الناس فنشأت
فلسفة تدعو إلى المحبة والوئام والسلام، ثم جاء الإسلام مصرحا بالدعوة إلى العدالة
والزمالة والأخوة الإنسانية فكانت هذه الدعوة عمادا لفلسفة جديدة تبشر
بالديمقراطية الحقيقية والاعتزاز بكرامة الإنسان .([18])
وفى الاتجاه نفسه يؤكد "جون ديوى" أن الحضارة ليست إلا
وليدة الفلسفة وأن الفلسفة بدورها من نتاج الحضارة وليس ثمة فارق حاسم بين الفلسفة
ودورها فى تاريخ الحضارة ، فإذا عرفت مهمة الحضارة وحددت خصائصها التى تميزها
أدركت تعريف الفلسفة نفسها . فوظيفة الفلسفة أن تنشأ نماذج يجرى على نمطها التفكير
ويسير بمقتضاها السلوك ، وبها تتقدم الحضارة، وبغير الفلسفة لا تكون حضارة . بل
استخدم "ديوى" فى إيضاح وظيفة الفلسفة التعبير الذى قاله من قبل
"كارل ماركس" أن مذاهب الفلسفة منذ الماضى السحيق قد اقتصرت على
تفسير طبيعة العالم بطرق شتى (عقليا وتجريبيا) ولكن مهمة الفلسفة ينبغى أن
تكون العمل على تغييره ، وبتغيير العالم يغير الناس أنفسهم ويستحدثون قوانين جديدة
تهيمن على مجرى التاريخ .([19])
ولما كانت الفلسفة هى مجمل الآراء والتصورات الإنسانية القائمة على ممارسة
التأمل فى هذا العالم والبحث فى كافة القضايا المتعلقة بالوجود والمعرفة والمجتمع
ومشكلة الحقيقة وأشكالها المختلفة كان من الطبيعى أن ترتبط بجوانب حياتنا
بمستوياتها وأشكالها الحضارية المتغيرة . فهى تلعب دورا مؤثرا فى حياة الإنسان
ودورا حضاريا كبيرا فى حياة الشعوب والمجتمعات عبر العصور والأزمان وفى جميع
المجالات فمثلا فى مجال السياسة لعبت مؤلفات "جون لوك" دورا هاما
فى تطوير الديمقراطية الأمريكية ، كما قدمت نظريات "كارل ماركس"
شكلا جديدا للحكومة . وأيضا أفكار "فولتير ودالمبير ورسو وديدرو" هى
التى عجلت بظهور الثورة الفرنسية .
والفيلسوف الألمانى "هيجل" هو الذى فتح الطريق لتظهر
حركات مختلفة مثل الفاشية والحركة الهتلرية والشيوعية . وهو بهذا يعد إحدى القوى
التى قامت بتغيير وجه العالم فى القرن العشرين الميلادى . ([20]) كما
كانت الثورة الروسية تطبيقا لأفكار ماركس ودراسة فلسفة "ديكارت"
يمكن أن تمدنا برؤية واضحة عن حضارة القرن السابع عشر التى غلب عليها الطابع
الهندسى والرياضى .. فلا شك إذن فى أن للفلسفة وظيفة اجتماعية قامت بها منذ نشأتها
حتى اليوم فما من ثورة اجتماعية أو دينية أو سياسية أو غيرها إلا وكان ورائها
فلسفة ولو لم يقصد إلى الثورة أصحاب هذه الفلسفة ، بل ولو لم يكن القائمون بالثورة
من المشتغلين بالفلسفة ومذاهبها .([21])
ولاغرو بعد هذا أن رأى عثمان أمين أن مكانة الفلاسفة فى التاريخ
أعظم بكثير من مكانة الملوك والسياسيين والفاتحين ، فالإسكندر المقدونى ،
ذلك البطل الفاتح الذى مات بعد أن قلب الدول وغزى الأمصار وضم الشعوب ، لم تعرف له
الدنيا نظريا فى العصر القديم ، ولكن ماذا بقى اليوم من أعماله ومحاولاته ، أما أرسطو
مربى الإسكندر فقد ظل معلم الإنسانية أكثر من ألفى سنة . وما زلنا نجد إلى
يومنا هذا من الشعراء والخطباء من يلتمسون عنده قواعد فنهم كما نجد من السياسيين
والأخلاقيين من يطلبون عنده أصول الحكم ومبادئ الأخلاق .([22])
وأى سياسى فى التاريخ الحديث يمكن أن يقارن بالوزير الفرنسى "إيشلو"
ذلك السياسى الموهوب الذى استطاع أن يقيم نفسه فى أوربا حاكما بأمره ، يتصرف فى
السلم والحرب كما يشاء ، واستطاع أن يقضى على نظام الأرستقراطية الفرنسية ، وأن
يغلب المذهب البروتستانتى وأن يدل ملوك النمسا ، وأن يرعى نهضة العلوم والآداب .
لكن مع هذا لا يستطيع أن ننسب إليه أنه مهد للمستقبل مقدار ما مهد له ذلك الفرنسى
الآخر "ديكارت" الذى استطاع – إبان حملة حربية من حملات الشتاء
فى حجرة دافئة ، وفى عزلة عن لجب المدن والمعسكرات – أن يكتب صفحات خالدة أعلن
فيها أن ماهية النفس هى الفكر ، وأنه لا ينبغى للمرء أن يقبل شئ قط على أنه حق ما
لم يتبين له ببداهة العقل أنه كذلك ، وأن العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس ..
لقد أصبح المقال فى المنهج "دستورا للفكر الجرئ وأضحى ديكارت أبا للثورة
الإنسانية الكبرى".([23])
إن الفيلسوف الذى تسخر منه العامة لأنه يعيش فى عالم أفكاره ، هو فى
الحقيقة قوة مهولة وفكره ذو تأثير لا يقل عن تأثير الديناميت . وهذا الفكر يسرى فى
مجراه ، ويلمس عقلا بعد الآخر، ليصل فى النهاية إلى الجماهير ثم تأتى اللحظة التى
ينتصر فيها على كل العقبات وليوجه مسار حركة الإنسانية أو يحفر قبرا لحطامها . فمن
يحب أن يعرف طريق المستقبل ينبغى أن يصغى ، ليس إلى الساسة ، بل إلى الفلاسفة ، إن
ما يعلنه الفيلسوف اليوم هو ما سيصير عقيدة الغد .([24])
فالفلسفة تقوم بالعديد من المهام التى تثرى خبراتنا اليومية فهى :
أولا : تساعدنا على صياغة سلوكنا ،
فنحن نطوق إلى معرفة كيف نميز بين الحق والباطل ، والصواب والخطأ ، والحسن والقبح
، الأعمال الأخلاقية والأعمال غير الأخلاقية ، وبين ما يجب عمله ومالا يجب عمله .
وفى معظم لحظات حياتنا الخاصة نتساءل فى دهشة : كيف يمكن أن نعيش حياتنا على أفضل
وجه ، وكل ذلك يرتبط بمهمة علم الأخلاق Ethics .
ثانيا : الإنسان لا يمكنه أن يعيش فى عزلة داخل المجتمع ، فنحن لا يمكننا أن نتجنب
التعامل باستمرار مع الآخرين ، ولذلك فإن طبيعة حياتنا تتأثر بسلوكهم . كما أننا
فى حاجة إلى معرفة تلك القوانين العامة التى تنظم التعاون القائم بين أفراد
المجتمع ، والقواعد العامة التى ترسم الشكل الملائم للحكومة . وعملية صياغة هذه
المبادئ ، ووضع تلك القوانين ، وتشكيل الحكومات هى مهمة الفلسفة السياسية Political Philosophy
ثالثا : كثيرا ما نمد تفكيرنا إلى ما
وراء هذا العالم فنطرح كثيرا من التساؤلات عن الآخر ، وعن مصير الإنسان ومركزه فى
هذا لكون ، والبحث فى مسائل وقضايا مصيرنا مهمة الأديان Religion .
رابعا : أحيانا نستطيع إثبات صدق
إدراكنا ومعارفنا ، وأحيانا لا نستطيع ذلك ، وما يمكننا من فهم أسلوب عمل عقولنا
وأنماط تفكيرنا ، وطريقة تحصيل المعرفة هى نظرية المعرفة Theory
of knowledge أو الابستمولوجيا . ([25])
تؤثر الفلسفة إذن فى رؤية الإنسان لمشكلاته الخاصة ، وفى رؤيته للقضايا
العامة المرتبطة بهذا الكون الذى يعيش فيه ، وفى أساليب تفكيره ومعظم جوانب حياته
المعيشية سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم اقتصادية أم ثقافية ، كما أن الفلسفة
تعمل على تغيير الأوضاع القائمة فهى تثور دائما على كل ما هو سطحى ومبتذل عن طريق
تجاوزه والتعالى عليه وتحديده وتقويمه ، إنها لا تقف عند حد معرفة الواقع فحسب ،
بل تحاول كذلك أن تغيره ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ، كما أنها تمكن الإنسان من
استجلاء قوانين هذا الكون ومد سلطانه على الطبيعة واستخدام مواردها لصالحه ،
وبالتالى جعل حياة الإنسان أكثر رونقا وجمالا على ظهر الأرض . وتقدم لنا الفلسفة
أيضا إمكانات عديدة توسع من آفاق فكرنا وتزيد من معرفتنا وتنعش إحساسنا بالعجب
والدهشة وذلك بإظهارها الأمور المألوفة بمظهر غير مألوف .
وإلى جانب فائدة الفلسفة فى الكشف عن إمكانات غير مألوفة فإن لها قيمة –
وربما كانت هذه هى قيمتها الرئيسية – مستمدة من عظمة الموضوعات التى تتأمل فيها ،
من الحرية فى الأغراض الضيقة والشخصية الناجمة عن هذا التأمل . إن حياة الرجل
المقود بالغرائز حياة حبيسة داخل دائرة من الاهتمامات الخاصة وقد تشمل الأسرة
والأصدقاء ، لكن العالم الخارجى لا يلتفت إليه إلا من حيث أنه يمكن أن يساعد أو
يعوق ما يدخل فى نطاق الرغبات الغريزية وفى مثل هذه الحياة لا سلام ، بل كفاح مستمر
بين إلحاح الرغبة وعجز الإرادة ولابد أن ننجو من هذا السجن ومن هذا الكفاح إذا
شئنا لحياتنا أن تكون عظيمة وحرة على نحو أو آخر ، وإحدى وسائل النجاة تكون
بالتأمل الفلسفى .([26])
فالفلسفة تقدم لنا التأمل والتفكر وثمرات قرائح السابقين والتحرر الشجاع من
سيطرة المادة ، إنها تستوحى منابع طاقتنا الروحية ، وتستهدى كوامن ضميرنا الخلقى
وتضع حريتنا أمام مسئوليتها الخطيرة فى أفعال الاختيار . بالفلسفة يتحد الإنسان
بمنبع كيانه ووجوده وروحه ويتحرر من كل ما عداه فلا يقع تحت سيطرة الخوف من
الآخرين أو العالم أو الموت أو النزعة الشيطانية لدى الإنسان التى تفسد بالكذب
والخداع وتمويه الحقائق وبالدكتاتورية السياسية وبالمال وبالجاه وبالسلطان .([27]) كما
أن الفلسفة تجعل الإنسان يكتسب دقة فى التفكير ورقة فى الشعور ، وسموا فى التعقل
والعاطفة ، فهى دليل العقل وأساس المثل والقيم الروحية .
وإذا
كان خصوم الفلسفة كثيرا ما يستندون فى رفضهم لها على أنها أشبه بوجهات نظر مختلفة
لا تضيف إلى ما يسبقها جديدا بقدر ما تقدم رأيا بديلا لرأى آخر ، فكل مذهب فلسفى
يحاول أن يفند المذاهب السابقة عليه ، ويدعى لنفسه أنه وحده الصحيح ويملك الحقيقة
المطلقة بمفرده ، فهناك دائما اختلاف وعدم اتفاق فى الفلسفة .
نقول إذا كان بعض خصوم الفلسفة قد نظروا إليها من هذه الزاوية زاوية
الاختلاف البادى فيها ، فحقا لا يوجد اتفاق أبدا فى الفلسفة ، لكن عدم الاتفاق
وكثرة الخلافات هى من طبيعة التفكير الفلسفى ذاته ، فكل مذهب فلسفى يحاول أن يبين
مواطن الضعف فى المذاهب الأخرى ، ويقدم لنا رؤية مختلفة خاصة به ، وقد يتأثر فى
كثير من الأحيان بآراء السابقين عليه ، وإذا كانت آراء الفلاسفة تختلف مع بعضها
البعض فهذا لا يقلل أبدا من قيمة الفلسفة ، بل هو يرتبط بالحرية الفكرية التى يجب
أن يتمتع بها الفلاسفة . فالفكر الفلسفى الأصيل بطبيعته فكر حر متفتح ، فهو يرتبط
بوعى الإنسان نفسه ، إن اختلاف المذاهب ليس عيبا فى الفلسفة بل هو يرتبط بماهية
الفلسفة ذاتها .
ومن يود لو لأنه كان هناك اتفاق على شئ فى الفلسفة حرصا منه على اليقين
فيها فإنه يفكر بعقلية العالم لا الفيلسوف معتقدا أن الحقيقة واحدة بعينها فلا
ينبغى أن يوجد فيها اختلاف . والأمر كذلك حقا لو كنا بصدد الفلسفة الواحدة الدائمة
التى تحدث عنها "ليبنتز" وآخرون كثيرون اليوم ، وقال إنها لم
تتحقق فى وقت من الأوقات ، وإن كانت الفلسفات العديدة كلها تعبيرات مختلفة عنها
فهى أشبه ما يكون بالرؤى الصادقة والباطلة التى تتكامل فيما بينها ويصحح بعضها
بعضا والتى يراها عن مدينة بعينها سائحون مختلفون آتون من أنحاء مختلفة من
المعمورة وفى عصور متفاوتة. ولكن هذه الفلسفة الواحدة الدائمة التى يطوف حولها
الفلاسفة جميعا ولم يظفر بها واحد منهم بعد ، رغم أنها موجودة فى ماهية الفلسفات
على اختلافها لا يمكن أن تأخذ بالطبع صورة بناء عقلى يصلح للجميع ويفصح عن الحقيقة
الواحدة التى تلزم بالاتفاق بين الناس على طريقة العلم . فلم يبقى والحالة هذه إلا
الاختلاف بين الفلسفات وإلا القول بأن هذا الاختلاف خير كله للفلسفة لأنه يتفق
وطبيعتها أو واقعها باعتبارها اقترابا واحداقا بكل جانب من جوانب الحقيقة القصوى
التى تنأى عن الإنسان لكونها مفارقة .([28])
ولذلك نجد الفيلسوف الأسبانى "أورتيجا إيجاست" يقدم لنا
تفسيرا لضرورة التعدد فى المذاهب الفلسفية . فالاتجاه الصحيح عنده هو القول بوجهات
نظر عديدة بقدر الذين ينظرون إلى الكون، وكل ينظر إليه من زاويته الخاصة . وكما لا
يمكن اختراع الواقع كذلك لا يمكن اختراع وجهة النظر . ووجهات النظر كلها صادقة لأن
كلا منها يمثل المنظور الذى منه ينظر الإنسان إلى الكون . إنها لا تستبعد بعضها
بعضا ، بل بالعكس ، هى متكاملة ، أى يكمل بعضها بعضا ، وليست منها واحدة تستغرق أو
تستنفذ الواقع كله ، بل لا يمكن أن تنوب إحداها عن غيرها أو تحل محلها.([29])
ومن هنا أطلق "أورتيجا" على نظريته فى المعرفة اسم "نظرية
المنظور النسبى" أو "المنظورية" perspectivism ومؤدى هذه النظرية أن العالم يمكن أن يدرك فقط من
خلال وجهة النظر الفردية ، وليس ثمة وجهة نظر غير وجهة النظر الفردية ، وبالتالى
لا يمكن تجاوز وجهة النظر الفردية أو التعالى عليها ، وكينونة العالم Being of the world ليست عقلية ولا مادية ولا أى شئ محدد ، وإنما هى
منظور . وكل منظور يتصف بالوحدة والتفرد أى لا يمكن أن ينوب عنه غيره ، كما أن كل
المنظورات أو وجهات النظر متكاملة أى يكمل بعضها بعضا . إذن وجهات النظر كلها
صادقة ، والمنظور الوحيد الزائف Falce هو
الذى يدعى أنه هو وحده الصادق ولقد ربط "أورتيجا" بين نظرية
المنظور وفكرته عن الحياة على اعتبار أن الحياة تؤلف نسيجا من الذات والأشياء
ويتضح لنا ذلك من عبارته : "كل حياة إنما هى وجهة نظر عن الكون" وأيضا
فى عبارة أخرى"أن الحياة ليست روحا soul ولا
جوهرا وإنما هى منظور" .([30])
ولما كانت وجهات النظر متعددة فهناك فلسفات متعددة كلها صواب ، وعن طريق
وجهات النظر هذه يمكن بلوغ الحقيقة ، فقوام الحقيقة هى سلسلة من وجهات النظر
المترابطة مع بعضها ... ومجمل القول أن نظرية المنظور عن أورتيجا هى محاولة
للقضاء على الخلافات بين المذاهب الفلسفية المتنوعة ، فالتعدد فى هذه المذاهب يرجع
بالدرجة الأولى إلى وجود وجهات للنظر عديدة بقدر الذين ينظرون إلى الكون ، وكل
اتجاه فلسفى ينظر إليه من زاويته الخاصة .
كما أن محاولة طبع الفلسفة بالطابع العلمى هى محاولة ليست فى مركز يسمح لها
بتقدير إمكانيات الإنسان العقلية ، فهى تعالج كل شئ من حيث هو موضوع ، ولا تعفى من
ذلك الذات الإنسانية نفسها ، إنها تقضى على إنسانية الإنسان ، وعلى روح الإبداع
الخلاقة فيه ، لذلك يرى "برديائف" أن الفلسفة كانت وسوف تظل
نفسها ولا شئ آخر غيرها ، وهى لا يمكن أن تكون علما أو دينا ومن ثم فإنها لا
يمكنها أن تعتمد على نتائج وتحققات العالم أو تجعل نفسها مرتبطة باكتشافاته ، وكل
إدعاء تدعيه الفيزياء الرياضية بقدرتها على أن تصبح أنطولوجية كاشفة الأشياء هو فى
حقيقته إدعاء كاذب زائف أقرب إلى الدجل منه إلى الحقيقة .([31])
إن من يتجنون اليوم على الفلسفة باسم العلم ، زاعمين أن وراء تجربة الحس
ومقاييس الكم لا يوجد إلا الخيال والوهم هم أشباه علماء أو علماء زور بتعبير "الفارابى"
فما عهدنا فى كبار العلماء فى كل عصر إلا تقديرا للفلسفة رفيعا غير محدود :
"جينز" و "إدنجتون " و "بوانكاريه"
و "لوى دوبروي" و "ألكسيس كارليل"من معاصرينا ،
و "ديكارت " و "ليبنتز" و "نيوتن"
قبلهم بقرنين أو ثلاثة هم جميعا رجال أخذوا من حضارة أوربا وثقافة الغرب بأوفى
نصيب ، وأسهموا فى تقدم العلم بأصدق الجهود ، وظفروا فى مضمار الفكر الفلسفى
بالقدح المعلى .([32])
وإذا كان "أفلاطون " قد نادى قديما بأن الفلسفة يجب أن
تكون حارسة المدينة و"ديكارت" قد نادى حديثا بأن الفلسفة هى
وحدها التى تميزنا عن الأقوام المتوحشين ، وأن ثقافة الأمة وحضارتها إنما تقاس
بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها ، فإننا نؤكد اليوم أهمية الفلسفة فى خلق مواقف
جديدة للفرد من أجل تنمية قدراته لمواجهة الواقع الحتمى الذى يحتويه . فلما كانت
حياة الإنسان المعاصر تكاد تشملها الآلية فى كل نواحيها فإن هذا الإنسان يعيش فى
مستنقع من الاغتراب . وهنا تكون الفلسفة مطلبا هاما للإنسان المعاصر حتى يمكنه أن
يتغلب على مشكلات الحياة الراهنة .. فالتفكير الفلسفى يعنى ممارسة عقلية أكثر عمقا
بفضل ما يلتزم به من اتجاهات نقدية . والفلسفة هى الالتزام بالنظرة التى تتعدى
الحدود وتتجاوز الملموس وتبحث فى الأعماق إذ يحلق الإنسان فى آفاق تنسيه الاغتراب
وتشعره بحريته ولو للحظات ، ولذلك فإن القدرة على التفلسف تعنى قدرة الذات على
التحرر ، كما تظهر الفلسفة على أنها كشف لجزيرة الحرية فى بحر الاغتراب .
وباستطاعة هذه القدرة الفلسفية أن تضفى معقولية جديدة على الأشياء ، فتخرج بها من
مجرد عناصر تستجيب لآلية الطبيعة كما تخرج بالأنا من حلبة الحتمية وصراع الأضداد.
فالتفلسف ليس شيئا آخر سوى الوعى بالاغتراب ومحاولة تصفيته ووضع خطة للعمل الخلاق
تحل محل التتابع الآلى . وهذا معناه خلق مواقف جديدة وتنمية ما لدى الفرد من قدرات
حرة على أرض الواقع الحتمى.([33])
إن الفلسفة باقية ما بقى للإنسان تاريخ ، وأنها لا يمكن أن تنقطع عن الوجود
ما عاش الناس ، فلقد نهض الفلاسفة فى الشرق والغرب أمام بطش القوة ، وسلطان المادة
، ورفعوا لواء القيم الروحية ، وأدوا للعقل ما ينبغى له من احترام ، وأيدوا حقوق
الضمير الأخلاقى ومطالبه . ولم يثنهم النفى والقتل والتنكيل عن المضى فى طريقهم ،
ولا عاقهم عن مواصلة بحوثهم وأداء رسالتهم فكانوا حقا شهداء على البطولة الرفيعة ،
وممثلين لوثبة الروح وثبة قوية دافعة نحو الحقيقة ، ونحو الحرية ونحو الكرامة.([34])
ونلخص من هذا العرض الموجز حول علاقة الفلسفة بالمجتمع إلى أن الإنسان لا
يستطيع أن يتخلى عن الفلسفة ، ولا يمكن الاستعاضة عن الفلسفة بأى بديل آخر ، ولا يحل
محل الفلسفة إلا الفلسفة . فالهجوم على الفلسفة هو فى حد ذاته فلسفة ، وبهذا تصبح
الفلسفة هى قدرك سواء أردت أو لم ترد ، حقا إن مثل هذا القدر لا يعنى بالضرورة أنك
قد أصبحت فيلسوفا بالمعنى الدقيق الضيق لهذه الكلمة . إلا أنه من ناحية أخرى يعنى
أن لك من الوعى ما يدفعك للتساؤل حول أحقية الفلسفة ومشروعيتها وليس هذا التساؤل
إلا الخطوة الأولى من خطوات الموقف الفلسفى الصحيح .([35])
كما نلخص إلى أن الدور الذى قامت به الفلسفة فى مسيرة
الحضارة الإنسانية لا ينبغى الاستهانة به أو التقليل من شأنه فالفلسفة فوق كونها
تعبيرا عن روح العصر ومرآة صادقة لكل سلبياته وإيجابياته وتناقضاته ، إلا أنها من
ناحية أخرى قوة محركة ودافعة لمسيرة العصر ذاته. فالفيلسوف – سواء اتفقنا معه أو
اختلفنا – هو أقدر من يعبر عن روح الحضارة . وصدق "هيجل" عندما
قال أن أصدق وعى يمكن أن تكونه عن مرحلة تاريخية معينة هو وعى فلاسفة تلك المرحلة
، إلا أن وعى الفيلسوف بعصره ليس مجرد وعى مستسلم خاضع خضوعا كليا لعصره ، غير
قادر على تجاوزه أو التعالى عليه ، بل هو وعى ثورى يحتوى عصره داخله ، ويفرزه شيئا
جديدا يستشرف به أفقا من الإمكانيات الخلاقة التى لم تتحقق بعد .([36])
وعليه فإن من يشكون فى جدوى الفلسفة ويسخرون منها لا
يسيئون إلى أنفسهم ، وإلى أمتهم فحسب ، بل يسيئون إلى الإنسانية كلها ، فالفلسفة
هى التى تصنع الأفكار ، وبالأفكار تصنع الحضارات وتنهض الأمم . وإذا كان الفلاسفة
كغيرهم من البشر معرضون للفناء والموت فإن فكرهم الفلسفى خالد لا يموت .
الهوامش
[2]- أ.م. بوشنسكى : الفلسفة المعاصرة فى أوربا ،
ترجمة د. عزت قرنى ، عالم المعرفة ، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ،
الكويت ص 11
راجع أيضا : د. على عبد المعطى : سورين
كير كيجارد ، الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية 1993 ص 100 .
راجع أيضا : د. إبراهيم طلبة سلكها : الإنسان
والحضارة فى فلسفة أورتيجا ، رسالة دكتوراه غير منشورة ، جامعة طنطا كلية الآداب
ص74 .
[10]- د.
محمد مجدى الجزيرى : الفلسفة بين الأسطورة والتكنولوجيا، مطبعة العاصمة بالقاهرة
1985 ص 221 .
[11]- د.
زكى نجيب محمود : موقف من الميتافيزيقيا، دار الشروق المقدمة (ف)
[12] - البيرت أشفيتسر:فلسفة
الحضارة،ترجمة د.عبد الرحمن بدوى،مراجعة د. زكى نجيب محمود،المؤسسة المصرية العامة
للتأليف والترجمة والطباعة والنشرص ص13-16
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية