تحليل
و مناقشة قول:
"الجحيم
هو أن تعيش وحدك في الجنة"
بقلم:
سلمى بلفيزة
قذف
بالإنسان في هذا الكون، فوجد نفسه – دون اختيار منه أو قرار عنه- يعيش مع آخرين و
ينسج معهم علاقات تسلم بأن الاجتماع جزء من طبيعة الإنسان. و تقبل الإنسان فكرة
اقتسام الطبيعة مع الغير و مواجهته في بعض الأحيان، دون أن يخضع وجود هذا الغير
للتأمل و التمحيصّ. و استمر الشخص في التعايش مع بني جلدته فوق أنحاء المعمورة إلى
أن حملت التطورات الفكرية العميقة معها للإنسان شكوكا حول الغير و جعلت الشخص يعيد
النظر في الغير. و قد بدأ ذلك مع الفيلسوف الألماني هيجل الذي دشن فلسفة الغير و
أشغل بها الخطاب الفلسفي فناقش إشكالاتها ردا على سابقه الفيلسوف الفرنسي ديكارت
صاحب مركزية الذات و فلسفة الأنا. و قد كانت إشكالية وجود الغير من تلك التي حجزت
لها مقعدا أولا في فلسفة الغير . و آثر الفلاسفة تناول ضرورة وجود الغير قبل تناول
كل من معرفته و العلاقة معه. فتصوروا أنفسهم في هذا العالم لوحدهم و أخذوا يجردون
محاسن و مقابح الوضعية. و من ثمة خلصوا إلى مدى حاجة الذات للغير. فهل وجود الغير
ضروري أم لا؟
"الجحيم
هو أن تعيش وحدك في الجنة"، فللوهلة الأولى يبدي القارئ كما من الذهول، لأنه
ما أن يقرأ العبارة حتى يتصور نفسه في الجنة محاطا بما طاب و حسن، ووحيدا يتمتع
بكل ذلك دون من يشاطره أو يزاحمه متعته، لكن بعد قليل من التفحص و التدبر، سيقول:
ماذا بعد؟ و يكون عقله عاجزا عن تصور مرارة الخلود ممزوجا بالوحدة. و القولة تظل
ميتة، و فارغة من كل معنى، لا تدب فيها الحياة إلا عندما نتلقفها بالتحليل ثم
المناقشة. إن صاحب القول يؤكد من خلال قولته أن الجنة تصبح جحيما ما أن يتركني
الغير. فإذا كانت الجنة بحسب معرفتنا تضم كل ما قد يحتاجه الإنسان، و كل ما يفرحه،
فرغم ذلك لا نغنم منها في غياب الغير، فالجلي إذن أن وجود الغير أولوية و ضرورة
تسبق كل ما عداها. و بهذا المعنى فصاحب القولة يحاول الدفاع عن أطروحة مفادها أن
" وجود الغير ضروري لوجودي"، لأن الغير هو ما يمنح لباقي الملذات قيمة.
إذ في غيابه تفقد الأشياء – و حتى الأنفس منها – قيمتها، لأن اللذات تحقق إما
بالغير أو للغير و قليل منها يحقق للذات. فلنأخذ هنا مثال أي شخص، يكون في داخل
منزله بملابس عادية و مظهر نمطي، إن لم نقل قبيحا، حتى ينوي تخطي عتبة منزله
فيصطفي من الملابس و المنمقات ما يجعله مستعدا للوقوع تحت نظرة الغير و المرور
أمامه. و لو كان هذا الشخص متأكدا أنه سيجد الشارع فارغا عند خروجه، لفعل ذلك دون
اكتراث، كذلك ستصبح ملابسه الفخمة و أغراضه النفيسة معدمة من كل قيمة ما دمنا
متأكدين من أنه لا يلبسها لإرضاء ذاته كما يقول البعض. و يمكن أن نقيس على هذا كل
الملذات كما فعلنا بالنسبة للملابس. و تعزيزا لذلك، يكون استحضار قصة أحد الأفلام
سديدا، إذ تروي قصة شاب استيقظ على البسيطة فارغة من الإنس، بعد أن أتت مركبة
فضائية صحبت معها الكل سواه. في بدء الأمر أبدى الشاب سعادته إثر ذلك فأتيحت له
فرصة اختراق المحلات فأخذ الملابس، و فرصة الاستمتاع بما اشتهى من أكل و شرب، و لم
يع نفسه إلا بعد مرور أيام قليلة أقدم بعدها على الانتحار عندما وجد نفسه وحيدا
عاجزا على مشاركة غيره فرحته و متعته.
و
يساهم هيجل بجزء كبير في مساندة هاته القولة من خلال ما جاء به في "جدلية
العبد و السيد" التي شكلت أرضية بنى عليها موقفه حول وجود الغير، فبحسب هيجل،
فأساس وجود الإنسان هو الرغبة التي تقودنا إما للإحساس أو الوعي بالذات. فأما
الثانية التي تهمنا، فيتطلب تحقيقها بالضرورة وجود الغير، لأن تلك الرغبة تستهدف
رغبة الغير التي تأمل بدورها انتزاع الاعتراف منه بالانتصار عليه. ففي غياب الغير
إذن ما من رغبة للرغبة فيها و ما من منافس للانتصار عليه، و من ثمة يتعذر تحقيق
الوعي بالذات. فالغير بالنسبة لهيجل هو من يمكن ذاتا من الوعي بذاتها، و في عدم
حضوره، أي عند عدم تحقق الوعي بالذات، قد يواجه الإنسان صعوبات عسيرة، و خير مثال
عليها ما لاحظه "إتيان مالصون" عند "الأطفال المتوحشين" الذين
يعجزون عن التعرف على ذواتهم في المرآة و عن إبداء شعور بالافتخار أو الخجل نتيجة
قصور في علاقاتهم مع الغير و الاحتكاك به في فترة متقدمة من عمرهم. إنهم يعانون
مشاكل الوعي بالذات، و السبب الرئيسي في ذلك هو مدى حضور الغير في حياتهم. كذلك
يمكن أن نستقي ضرورة وجود الغير في حياتنا من خلال تجربة الفلاسفة عينهم، فرغم
حاجتهم الماسة إلى الانعزال و التوحد و الانسحاب من هذا العالم و عن الناس للتأمل
و البحث عن الحقيقة، إلا أن التاريخ لم يسجل نجاح أي منهم بصفة تامة في العيش
وحيدا. و عندما أتحدث عن الوحدة أعني المعنى الخالص و المطلق للكلمة. و استحضر هنا
تجربة أحدهم، حاول العيش في جزيرة نائية بصحبة كلبه بعد أن فقد أسهما تقيم بأموال
طائلة في إحدى الشركات الأمريكية، لم يحتمل الرجل تمام السنة حتى لملم أغراضه و
عاد أدراجه. و لم يبخل بأن يجاهرهم بما حملت له تلك السنة من عجائب و غرائب أذهلت
مستمعيه، فعلى حد قوله لجأ إلى كلبه لإشباع إحدى رغباته الطبيعية و إرضاء نفسه
الشهوية... و هذا يقطع إذن أن وجود الغير لا غنى عنه.
و
في السياق ذاته يقول سارتر ما يفيد أن التوصل لأية حقيقة بخصوص الذات يستدعي
المرور عبر وساطة الغير، إنه لا غنى عنه لوجودي كما لا غنى عنه للوعي بذاتي، و من
هنا فسارتر يقر بضرورة وجود الغير. و قد يتساءل أحدهم عن سبب صدور مثل هذا الكلام
عن سارتر الذي تلفظ في مناسبة أخرى بقولته الشهيرة: " الجحيم هم
الآخرون"، سنقول بأن سارتر يعتبر وجود الغير ضروري رغم ما قد يحمله من سلبيات
يمثل لها بتجربة النظرة في علاقتها مع الخجل. إذ ما أن تقع نظرة الغير علي حتى
تحرجني و تكبل حريتي و عفويتي. لكن كل هذا سينقلب إلى ما هو إيجابي حين سيدفعني
إلى إعادة النظر في ذاتي و تصحيح سلوكاتي. و لا عجب أن يصدر هذا عن سارتر الذي يعتبر
الغير هو "الأنا الذي ليس أنا"، فهو يشير هنا إلى أن الغير يحمل بعضا من
صفاتي، و بالمقابل يتصف بصفات أخرى، إنه يساعدني بلا شك في الوقوف عند مواطن
الغموض لدي، و يشكل وسيطا بيني و بين ذاتي.
و
بالرجوع إلى تجربتنا اليومية نتأكد من أنه لا يكون بمقدورنا الشهادة لأنفسنا
بالوسامة أو القبح، الجبن أو الشجاعة، الشر أو الطيبة في غياب نظرة الغير و
شهادته. إن الغير بتعبير أدق هو مرآة نرى من خلالها ذواتنا و نتعرف عليها بشكل
أوضح. و بالارتكاز دائما إلى حياتنا اليومية نتساءل: ما حاجتنا إلى انتصار لا يحضر
فيه الغير؟ و عن نجاح لا يقدره الآخرون؟ أكيد أننا في حاجة إلى الغير الذي يشهد
انتصارنا و إلى الآخرين الذين يعبرون عن الإعجاب بنا، فالغير إذن يرفع ثقتي بنفسي
من خلال تصفيقاته و ابتساماته و كلماته...
غير
أن ديكارت ينسحب من دائرة هؤلاء ليجعل من الغير كائنا زائدا، حضوره مثل الغياب،
حيث يبني فلسفته على منهج الشك. و يمكن أن نستنتج من فلسفته أن الغير قابل للشك ما
دمنا نستشعره حسيا، و في هذا الإطار نستحضر إحدى الوضعيات حيث يفترض أنه يطل من
شباك منزله فيشاهد قبعات و معاطف، حينئذ لن يكون متأكدا من أنهم أشخاص بل يشك في
ذلك بافتراض أنهم آلات تحركها نوابض و من ثمة فالغير يظل موضوعا قابلا للشك و
محتملا، و ليس ضروريا... كما يفهم من فلسفة ديكارت أن الوعي بالذات يتحقق من خلال
التجربة التأملية الخاصة و في منأى عن الغير، فهو تمكن من إثبات "الأنا
أفكر" من خلال عزلته معتمدا على العقل فقط، و مستغن عن أية يد غير تمد له.
نخلص
إذن مع فلسفة الذات إلى أن وجود الغير ليس وجودا ضروريا بل هو وجود مفترض و
احتمالي ما دام قابلا للشك، و ما دام لا حاجة إليه لتحقيق الوعي بالذات.
أما
بالنسبة لي، فرغم ما يقع بالذهن من سلبيات عند استحضار مفهوم الغير، إلا أن وجوده
يظل ضروريا بالنسبة إلي. لكن الابتعاد إلى حدود قول : "الجحيم هو أن تعيش
وحدك في الجنة" يكون خاطئا بالنسبة لي، ما دامت الجنة التي أومن بها أنا كذات
تجعلني في غنى عن كل شيء، و ما دامت تتعدى بقيمتها كل ما سواها بما في ذلك وجود
الغير. فبقوله هذا، يكون صاحب القول إذن قد تخطى حدود المعقول و تناول موضوع وجود
الغير ببعض من المبالغة. فقد يكون تلفظ بهذا أو كتبه خلال لحظة عزلة ووحدة تامتين
حجبتا عن عينه ما تحمله لفظة الجنة من معاني عميقة، أو أنه أصلا لا يؤمن بالجنة
كما قد يفترض...
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية