المغرب بين الطهر .. والعهر..

المغرب بين الطهر .. والعهر..
بقلم: يوسف عشي
مما لا يختلف فيه اثنان بواقع المغرب بعد سنة 1956 أن فرنسا لم تغادر.. ولربما عبر مشهد من شريط "عطش" لأحد أذناب الفرنكوفونية بالسينما المغربية، عبر عن خروج محزن للمغابرة عفوا للمغاربة، الذي تأسوا وذرفوا الدموع وهم يودعون الفرنسيين بالزهور، وكأنهم كانوا حاميين مدافعين عن البلد، أو كأنهم آباءهم أو أحبابهم الذين سيفتقدونهم بأسى وحزن عميق..
فرنسا لم تغادر، ليس لأن المغاربة لم يستطيعوا إخراجها.. بل لأن من سيستلم زمام الأمور لم يكن في المستوى المطلوب، ذلك أن الإدارة المغربية شهدت عجزا خطيرا لا على مستوى الخبرات ، ولا على مستوى الموارد البشرية، ولا على مستوى الرؤى المستقبلية المبنية على تخطيط مسبق أو خارطة طريق كما يحلوا للجميع الآن أن يطلقه على الرؤية أو التصور أو البرنامج أو المخطط الذي يأتي به كل من يطرح نفسه كمسؤول عن مرحلة انتقالية تاريخية. فظلت فرنسا دائما هي المرجع.
وتوالت السنوات والبلد لا تعزف سوى اللحن الفرنفكوفوني، وكأنه ليست لهذا البلد سيادة على نفسه، للدرجة التي سيتم معها إفشال عدد من الرؤى الواعدة والبرامج المتسقة مع الهوية العربية الأمازيغية الإسلامية للبلد، للدرجة التي تعالت معها أصوات المنتقدين لبرامج تعريب التعليم وللدرجة التي سيتم فيها ترسيخ تصور في غاية الخطورة والرعب، يقضي بأن العربية ليست لغة للعلوم وأن كل من أراد أن يضفي على نفسه صفة العلمية سار لزاما عليه أن يلوي فاه بلكنة أحفاد موليير..
وتتالى التواجد الفرنسي الخبيث بالمغرب ليس في مظهره البراق والمتلألئ.. بل في صورته الشبيهة بالسوسة التي تنخر في العظم، وبدل الحديث عن الكوارث والجرائم التاريخية التي سجلها الاستعمار الفرنسي في هذا البلد. يجري الحديث عن ما يحلو للفرنكوفونيين وأتباعهم إن لم نقل أذنابهم تسميته ب"التاريخ المشترك".. وعوض الحديث عن الانفصال عن عنوان المعاناة والاستنزاف والإجرام والإرهاب الذي ارتكبه الفرنسيون بنهبهم لثروات البلد وقتلهم لمواطنيه وقهرهم لهم للدرجة التي يصف فيها الفنان المغربي المعروف عمر السيد للزميل القدير رشيد نيني في برنامجه السابق بالقناة الثانية "نوستالجيا" في معرض الحديث عن الطفولة، يصف كيفية بحث قوات الاستعمار عن الفرنسيين الذين واجهوا خطر الغرق في البحر إلى جانب مغاربة لم تكترث لهم ليضل فناننا متشبثا بصخرة مصارعا للأمواج وخطر الموت. فما يعنيهم هم "النصارى" الفرنسيون وليذهب المغاربة أصحاب البلد إلى الجحيم. عوض هذا كله يتم الحديث عن الصداقة والأخوة والمنزلة المتميزة للمغرب لدى فرنسا.
يتواصل التواجد الفرنسي بالمغرب لنشهد فرنسة مباشرة وغير مباشرة للتعليم. فعلى استحياء وهشاشة المحاولة التعريبية، سارت البرامج التعليمة على خطى مخلفات البرامج الفرنسية الفاشلة بالفشل الذي يعرفه قطاع التعليم بفرنسا ذاتها إلى اليوم، وخلفت العاهات البيداغوجية تلوى الأخرى. وكأنه ليس فينا رجل رشيد بهذا الميدان.. وللدرجة التي سينطق صوت سفيه ويدعو لقبر العربية، وتعويضها بالدارجة مادام يعلم علم اليقين أن السياسيات التعليمية الفاشلة بالمغرب لم تخلف تلاميذ نجباء في لغة موليير التي تشهد تراجعا مرعبا في مستوى التلقي متأثرة بما يسمه الشباب ب"العرنسية" أو لغة "الميسانجر". فإذ لم يكن للفرنسية نصيب في الانتشار فلا أقل من إضعاف العربية ودحرها.. بل والتكالب عليها، وشخصيا لم أستسغ حتى جلوس رجل الفكر المغربي الدكتور عبد الله العروي على طاولة واحدة مع أحد المروجين لهذه الأطروحات التي أقل ما يمكن أن توصف به أنها  سطحية التناول و خسيسة الأهداف ولا تعبر إلا عن حثالة الفكر إن صح التعبير.
فرنسا لم تغادر، بل زاد وطؤ نفوذها بالمغرب على اعتبار أنها أول شريك اقتصادي للمغرب في أوربا.. وهذا الوصف فيه من المغالطة ما يدفع بالعديد إلى تصور دور إيجابي لهذه الدولة التي ترفض رسميا الاعتذار عن بشائع جرائمها في مستعمراتها السابقة والتي لا تزال تحتفظ برغبة قوية في مواصلة السيطرة عليها. للدرجة التي لا تستسيغ فيها محاولة بعضها للإستقواء وتنمية الذات دون مباركتها أو دون توجيهاتها الرامية دائما إلى ترك الفارق بينها كدولة قوية رائدة عالميا وتابعين متملقين يترقبون الفتات الذي ترميه إليهم.. بل عليهم أن يبقوا تحت وطأت نفوذها راضين بتركها تمتص دمائهم..
وللتدليل على هذا الطرح، وأيضا لكي لا نبدو للبعض متحاملين على هذا البلد الأوربي "الشقيق" كما يحلو للعديد من الأزنام وصفه، سنسوق بعض الأمثلة على شكل أسئلة نترك للقارئ العزيز حرية التأمل فيها:
ماذا قدمت فرنسا لقضية المغرب الأولى؟ طوال ال39 سنة التي مرت على استرجاع المغرب لأقاليمه الجنوبية ميدانيا وشعبيا؟ مقارنة مع ما قدمته الجزائر لجبهة البوليساريو؟ ألم تصل القضية للأمم المتحدة رغم كونها في أول ونهاية الأمر شأن داخلي؟ ماذا قدمت فرنسا العضو الدائم في مجلس الأمن للمغرب غير ذر الرماد في العيون؟
ماذا قدمت فرنسا للصناعة المغربية؟ هل ساهمت في ضخ استثماراتها في قطاعات صناعية قوية بالمغرب؟ كالصناعات الثقيلة؟ هل شجعت أو دعمت فرنسا مثلا صناعة السيارات بالمغرب أم وجهت البلد الحليف اقتصاديا لكون سوقا للسيارات الفرنسية؟
ماذا قدمت فرنسا للتعليم المغربي؟ لم تشكل سياساتها التعليمية نبراس الساهرين على التعليم بالمغرب؟ أليس الناظر إلى وضعية التعليم بالمغرب حاليا يأسى ويرثي لحاله؟
ماذا قدمت فرنسا لأبناء المغرب الذين يلقون بأنفسهم في البحر طمعا في بلوغ "الفردوس" الأوربي، ألا تطبق على من يرجو تأشيرة المرور إليها شروط الخزيرات؟
-  ماذا قدمت فرنسا للرياضة المغربية ، التي ضلت البرامج المطبقة في ميدانها بالمغرب مفرنسة المظهر والتوجه؟
ماذا وماذا وماذا...
شخصيا أحب أن أجيب على سؤال وحيد وهو:
- ماذا قدمت فرنسا للمغرب في الميدان الأخلاقي؟
الجواب بدون استطراد وذكر للمناقب الكارثية للتفرنس بالمغرب الذي تظهر تجلياته واضحة بجلاء على قطاع ليس باليسير بالمغرب وأكتفي بالإشارة لمن يريد تفاصيل أكثر أن يشاهد فقط شريط سينمائي مغربي للأسف وعنونه  أيضا للأسف "ماروك". لكنني سأجيب بشكل مباشر: ما قدمته فرنسا أخلاقيا للمغرب هو بكل بساطة أول وصف تاريخي رسمي لبلد يظن أنه كامل السيادة من طرف بلد آخر بأنه "عاهرة"..
لقد عشتم أيها المغاربة إلى اليوم الذي شهدتم فيه وصف بلدكم بالعاهرة.. وعوض الاعتذار وتصحيح الزلة .. تواصل فرنسا لعبتها النرجسية التي تجعل المغرب حقيقة لا يتجاوز ما وصفه بها وزيرها.. بل تصطاد في المياه العكرة مستغلة محاولة يائسة للجزائر قبل أشهر لنعت المغرب بالبلد الذي ينتهك حقوق الإنسان.. موجهة الاتهام إلى رئيس المخابرات المغربية بممارسة التعذيب.. في الوقت الذي شهدنا فيه الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي يصافح الجنرال حسني بنسليمان الذي كان ضمن مستقبليه رغم أن فرنسا كانت قد أصدرت مذكرة اعتقال دولية بحقه.. فمن جهة يصافح الرجل الأول بفرنسا سالفا من يتابعه قضاؤه.. ومن جهة أخرى يسعى الرجل الأول بفرنسا حاليا إلى تشديد الخناق بكل خبث على المغرب من خلال اتهامه غير المباشر بالخرق والمساس بحقوق الإنسان. وكل هذا لا لشيء سوى لأنه تجاسر على منافسة فرنسا اقتصاديا في المناطق التي لا تزال تعتبرها بشكل أو بآخر مستعمراتها بإفريقيا.
ليس للجلاد عواطف.. وإذا كانت له فلن ينال الضحية منها سوى الرأفة بالسوط لا بالمجلود.. وقديما قال بارمنيدس " خاطبتني الآلهة قائلة: الوجود موجود واللاوجود غير موجود .. لا تخرج ذهنك عن هذا.." وواقع حال المغرب الآن يقول" خاطبتني فرنسا فقالت : الاستعمار موجود.. والمساواة أو الإخاء أو الحرية كل هذا للمغرب غير موجود.. لا تخرج سياساتك عن هذا"


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس