المصير المحتوم



المصير المحتوم
بقلم: بنسالم الوكيلي

تقديم : من عادتي أحاول أن أتقرب إلى كل الغرباء، دون أن أبادلهم أية تحية، أي شعور أو إحساس.
كل شيء ممكن وبغير قصد، خارج عن طقوس العلاقات التي تنبني على المادية والسببية. والحسين، بطل قصتنا هذه، ليس كأي شخص عادي، مولود جديد، ورقة بيضاء، أبيت أن أحرر
عليها مذكرات حياتي، مصيري ومصير كل غريب مثلي على اليابسة.
المصير المحتوم    
هناك وفي ركن من أركان غابة باب " الرميلة "، تغيب شمس دافئة في المساء وحارة في الظهيرة، دائرية كأنها قرص ذهبي تمر إلى جانبه طيور سوداء لم تأت إلى المدينة إلا لسنوات قليلة.
هنا وهناك غابات زيتون وصنوبر في الأعلى، تتوسط هذه الطبيعة مدينة صغيرة تقطنها ساكنة أغلبيتها من الطبقة الفقيرة، وترمز هذه المدينة إلى أجيال قديمة لعل مآثرها التاريخية والعمرانية خير شاهد على أصالتها.
بهذه المدينة الإدريسية، داخل دروبها وأزقتها ترى الناس يتهامسون ويتبادلون النظرات بعضهم البعض، ربما لأنهم لا يجدون ما يفعلون لقلة مرافق التشغيل ولصغر المدينة.
وتزداد مظاهر البؤس والحرمان التي تبدو للزائر وهو يمر في سيارته أو ماشيا على الأقدام، يجوب بعض المقاهي التي تكسو الشارع الوحيد والتي ترى داخلها عشرات الشبان يرتشفون كؤوس الشاي، ترى أطفالا صغارا يدعون البيع والشراء وهم يحملون علب السجائر في اليد اليسرى، وصحونا مملوءة بالبيض المسلوق في اليد اليمنى، يهتفون بصوت رقيق :
" كارو...بيض سخون..." ويتعالى صياحهم ويكثر الضجيج، فيضطر نادل المقهى لطردهم مرات بعنف وأخرى بكلام الشارع.  ترى ما مصير هؤلاء؟
طبعا مصيرهم كمصير جل الشباب الذي يتجمع في دروب المدينة الضيقة ذات البناء التقليدي الشبيه بدروب فاس المدينة القديمة، يتجمعون هنا وهناك في المقاهي وخارجها، ويبقى الواقع أصعب فترى نظراتهم يرمزها التحدي وعلامات الهجرة إلى المدينة.هناك أتعرف على شاب ربما لم يكن من الممكن أن أتعرف عليه لولا بساطة هؤلاء الناس وظرافتهم التي تجعل المرء يتعرف على حالتهم الاجتماعية وظرفيتهم المعيشية، إنه الحسين بطل قصتنا هذه، شاب من شباب مدينة مولاي إدريس، يعيش داخل أسرة فقيرة وسط ( أب وأم وأخت )، واحد من أولئك الذين جالوا بين مقاهي المدينة وهو في سن صغيرة لا يناهز السابعة من العمر، أسمر اللون، نحيل الجسم، طويل القامة، جميل الخلقة، كان يتجمع مع أبناء الدرب ليتبادلوا الحكايات والقصص الرائعة، يحب اللعب وتكوين عصابات مثل ما يحدث في الأفلام الأمريكية، وكان مولعا
" بمقهى الشباب " ليرى أفلام الكاراتيه وأفلام رعاة البقر. وها هو اليوم بين عشية وضحاها يغوص في مقلاة هذا الزمن وظرفيته القاسية داخل هذه المدينة، لا يعرف سوى القهوة السوداء و( السجائر الزرقاء ). لقد بذل مجهودات كبيرة لأجل الحصول على البكالوريا لكن الظروف تزداد تعقيدا بعد أن توفي أبوه، فازداد إحساسه بالمسؤولية وعدم الارتياح. وفي هذه الظرفية يحاول النسيان ليفرج عن نفسه، فتزداد رغبته في العلاقات العاطفية، لتصبح " منى " الطرف المنازع داخل نفسية الحسين وتظهر له أنها إنسانة تحس بالمسؤولية وتغار عليه وتحبه مهما وصلت الفوارق الاجتماعية. منى ، فتاة جميلة ذات عينين زرقاوين وقد ثابت ومتوازن، كانت تتباهى باللباس الأنيق، وتعمل كل يوم وكل ساعة على تسريحة شعرها الذهبي لتجعل من نفسها عروسة رائعة، كان شعرها الذهبي يجعل من الحسين أسيرا لقلبها فيتناسى أيام محنته، وتزداد رغبته الجنسية وإطلاق العنان لرغبته يدفع به إلى فقدانها.
لم يمر على ذلك يومان حتى يعرف أن منى كانت لها علاقة مع واحد من أبناء المنطقة الذي يقطن بالديار الفرنسية، وأن اللباس الجميل والأنيق كان مصدره ذاك الشخص ذو السيارة الأنيقة الحمراء اللون. وتزداد القصة عقدة عندما يكتشف أن أمه وأخته تتعاطيان إلى الدعارة ليكتسبا قوت يومهما، وهنا تتأرجح شخصية الحسين مما يعرفه عن أمه وأخته وما صدر عن حبيبته المصطنعة منى، وتتشابك الأحداث والظروف ويصبح في وضعية صعبة، لتأتي صورة الأب الذي كان محافظا وحاجا يرد كل أنواع الشبهات لذاكرته، أباه الذي كان رجال الحي يحدثونه عنه وعن شعبيته المرموقة وحبه للأطفال الصغار. كان " بالحاج " أبا صالحا، لطيف الحديث مرحا، يحسن الدعابة مع شيوخ الحي وكذا مع شبابه وأطفاله مما يجعل أطفال الدرب يتجمعون حوله وينادونه بأصواتهم البريئة ( بلا بيبي..بلا دجاج..ابغبنا بالحاج). رحم الله بالحاج وأسكنه فسيح جنانه، ليهتف صديق الحسين بصوت منخفض عندما جلسا إلى المائدة المستديرة وهما يرتشفا قهوة سوداء، وتذرف مقلتا الحسين بدمعتين تجعله يلثم أنفاسه بشدة ويحس آنذاك بيد خفيفة تربت على كتفه بلطف. إنه الصديق الممتاز ( عبد الله )، هادئ الأعصاب ينظر نظرات أسى وتحسر لما يعيشه صديقه الحسين من ظرفية صعبة،كان عبد الله بالنسبة للحسين الأخ المثالي والصديق المخلص، لم يسبق له أن دخل المدرسة لكنه اكتفى بما تعلمه من دار القران ومجالسته للمثقفين، كان يخاطبه ويقول له : " إنها أمك ! لماذا تفكر في الرحيل إلى الشمال؟" مهما فعلت فهي أمك، أعرف أنها قاسية في حقك، لكن ماذا نفعل يا صديقي !؟ إنهن بعض النساء، يملن في أي اتجاها مع الرياح.
وتتزايد كلمات الوعظ والإرشاد من طرف الصديق المخلص، ربما يقول هذا ليجعل منه رجلا يعتمد على نفسه أو ربما ليطفئ نار الغضب التي تتأرجح بوحشية داخل نفسية الحسين، شاب ترعرع داخل محيط اجتماعي يتوفر على بنية هشة، جال في دروب صغيرة ضيقة وقديمة ينتشل بعض القارورات من أكياس القمامة التي تملؤها أركان الدروب، وأحيانا يلتجئ إلى الأصدقاء ليتسلقوا بعض الشاحنات المحملة بالخضر والمتجهة إلى سوق " خيبر " الأسبوعي. هكذا كانت مرحلة الصبا بالنسبة للحسين. وقد همس بنظرة شفافة بعدما أحس بصديقه عبد الله يداعب حجرة صغيرة بأطراف قدمه وهو ينظر إليه بنوع من الدهشة  ليهتز حاجبه الأيمن وتتكون تجاعيد على جبهته : «بالله ماذا دهاك يا حسين؟ أتكلم معك وأنت شارد الذهن.. تجعلني أصب الماء على الرمل ! « وينتقض الحسين مدعيا أنه سمع كل شيء، لكنه ربما سافر أميالا عدة في صحراء لا تبدو لها حدود.. «لقد سمعتك يا عبد الله إنني أقدرك، لكن أنت ترى لم يصبح لي أي واحد في هده المدينة، لقد خانني الجميع حتى عائلتي..لا بد لي من الذهاب إلى الشمال، الكل يتكلم عنه، ويقولون بأن هناك قد تجد عملا».
ويهتف الحسين وهو يزداد رغبة في الهجرة، وعلامات الشؤم تظهر على وجهه وعلامات التحدي والرغبة في تعويض كل ما حرم منه. ويزداد الحسين صراحة عندما يقول لصديقه عبد الله بنوع من الغيظ : « اسمع يا عبد الله، ربما غدا أو بعد غد ولن يكون اللقاء ربما لسنتين أو أكثر، المهم لا أريدك أن تحدث أمي وأختي عن مكان تواجدي، وسأبعث لك رسالة عندما أكمل شهرا». لكن عبد الله يحاول أن يتجاهل ما يقول له صديقه الحسين، ويدور دورة حوله في اتجاه درب منى ليسأله :
« ماذا إذن عن منى ؟ ! ستتركها؟» فيجن جنون الحسين ويهتف صائحا: « ألم أقل لك إنك تمازحني أكثر، أنت تذكرني إذن بشيء أشبه من الطوفان، منى !!! إنها سحابة سوداء مرت في حياتي وكادت تحطمها وتجعل منها عاصفة».
كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساء عندما تحدث الأصدقاء وتبادلا تحيات المساء، ربما إلى لقاء آخر. ويدور الحسين متجها صوب المقهى التي يجلس فيها، وعلامات الاستياء تكسو ملامحه وهو يفكر في الهجرة القريبة، هكذا يستمر في مناشدة ضميره  ورجلاه تتخبطان فوق أرصفة الشارع ليجتاز المقهى بخطوات قليلة، و ما كاد يجتازها بخطوات متثاقلة حتى يسمع أصوات تتعالى وهي تهتف باسمه: « حسين..يا حسين».. يدير الحسين رأسه لتلوح له أيادي عبر زجاج المقهى المفتوح، ويتجه نحو بعض أبناء الحي: « لقد ناديناك لمرات عديدة..تبدو شارد الذهن يا حسين».. ويضحك الحسين ضحكة يحاول من خلالها أن يغطي على مكنون صدره متجاهلا سؤال أحد أصدقائه. لقد أحس أنه يحاول استفسار ما به، أو ربما كان يعرف أن (الحسين ) مستاء لما سمعه مؤخرا عن أمه وأخته، كان عبد الله الصديق الوحيد الذي يصارحه ويحترمه. فبدأت ضحكات الأصدقاء تتعالى وهم يرتشفون كؤوس قهوة وشاي ويتبادلون الغمز، والحسين يعرف ويحس مسبقا في أي وضعية هو. لم يطل الحديث كثيرا حتى يهتز واقفا على قدميه قائلا: « ربما علي أن أغادر، ورائي مشوار».
  مر المساء، وكان طويلا جدا بالنسبة للحسين. لم يتذوق فيه طعم النوم ليأتي الصباح ويستعد لجمع أغراضه و ملابسه في كيس يستعمل عادة لجمع الحبوب. كانت الساعة تدق الرابعة في ذلك الصباح الصيفي، ليجد الحسين نفسه في المحطة. لم يدر كيف وصل، وتأتي الحافلة ليسمع واحدا من مساعدي أربابها يصيح بصوت خشن " طنجة...طنجة" ويقف متجها لتبدأ الرحلة، رحلة يصفها عادة الحسين برحلة النسيان، تاركا وراءه كل ما يجعله أسيرا لتلك المدينة المملة بالنسبة إليه. لم تكد الحافلة تتحرك حتى تتهافت مئات الأفكار على رأسه لتثقل كاهله، وتجعله يتذكر كل ما مر في مرحلته الأخيرة. يتذكر وجه أمه وكذا أخته، فيعض على شفته السفلى من كثرة الغيظ. و في هذه اللحظة بالضبط يتذكر الحسين أباه الرجل المقدار النصوح عندما كان يخاطبه ويناديه كلما احتاج إليه. كان "بالحاج"، الرجل المثالي الذي يعرف ما عليه من مسؤولية تجاه العائلة، كان رجلا محافظا، وكانت تتصور للحسين جميع المعاملات التي يتصرف بها مع الجيل الجديد، كان عبثا يناشدهم ويوافقهم الرأي.بالحاج، كان رفيق الجيل، كلها صور كانت في مذكرة الحسين وتزداد  تصورا عندما يسمع هدير محرك الحافلة يدور بعنف، فيلتفت الحسين يمينا ويسارا ولم ير إلا شابا وامرأة تحمل صبيا، وشيخا يجلس وراء السائق وهو يغمغم قائلا: «على بركة الله» فتبدأ رحلة الحسين نحو المستقبل الغامض، وهو يعرف جيدا أنه لن يلتجئ إلى أحد سوى إلى «المصير المحتوم» وأن الرحلة لن تكون طويلة، فلا بد أن يقاسي وأن يعمل بجدية لأجل التغلب على الزمن والتخلص من كل أنواع العذاب الذي يعيشه،كما كان يفكر دائما في نسيان الآلة الضخمة التي تدوس صدره، تلك الآلة التي تبتلع كل شيء  حتى الرخيص الذي لا يساوي شيئا، آلة شبهها بأمه التي ترامت إلى فضاء الدعارة، بل إنها لم تكتف بنفسها لتجر ابنتها المسكينة التي لا تعرف سوى أشغال البيت القاسية بعدما تركت المدرسة في سن مبكرة، وترامت تعمل خادمة في البيوت. لم تكن " يامنة " تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها حين توفي أبوها، وتركها هي الأخرى تغوص في المقلاة، عاشت أنواعا كثيرة من السخرية والشتم والسب عندما كانت تعمل بإحدى البيوت، ولا زالت تتذكر المرأة التي كانت تعمل عندها، قالت لها في إحدى المرات: «اسمعي يا لعينة.. من تحسبين نفسك؟ أنت لا تساوين شيئا.. ما أنت إلا لقيطة!». لم تكن يامنة كذلك، لقد كانت لا تعرف شيئا سوى العمل والشغل في هذا البيت اللعين، ربما كانت المرأة تغار لأنها أجمل منها، بيضاء الوجه، قصيرة القد، شعرها الأسود يبلغ إلى خصرها، نظراتها توحي بنوع من الاحترام والخجل، و ربما لباسها يعبر عن ذلك. لم يكن لباس يامنة عصريا إلى حد اللباس الأشبه بالموضة، بقدر ما كان لباسا متواضعا يعبر عن الحشمة ولا أقل إلى الفقر، علاقتها بالعالم الخارجي شبه مقطوعة لا تعرف شيئا عن الدروب والأزقة إلا عندما تذهب إلى الدكاكين القريبة. وها هي اليوم تطلق العنان لنفسها بعد أن رمت بها أمها المتطرفة إلى بيت "الزاهية"، مقر العاهرات المحترفات منهن والأرامل، منهن من رمت بهن الأقدار ليعشن ويلات هذه الظروف، ومنهن يامنة البنت البريئة. تمضي الأيام وت تعرف يامنة على أحد الشبان الذين يقصدون المكان لأجل تلبية رغبتهم الجنسية لتطول العلاقة بينهما، ويتزوجها هذا الأخير بعد مدة طالت سنة بكاملها، لتنجب له طفلا وطفلة يعيشان تحت سقف واحد.. لطالما حلمت به.. يا لسخرية القدر! أحيانا ندعي أننا نستطيع أن نوجه أنفسنا نحو الصواب، لكن ربما هو خطأ فادح يرتكب، قد يكون الخطأ خطأ السائق، وقد تكون هذه الشمس التي بدأت تتوهج ليهتز الحسين من مقعده بعد أن دوى صوت فرامل وهي تحتك على الطريق.. «ماذا هناك؟» يقف الحسين محاولا أن يرى ماذا كان أمام الحافلة ليرى عجلا صغيرا انحرف إلى الطريق منعزلا عن أمه وملقى إلى الجانب. كانت صدمة الحافلة قوية فألقته مرتميا على الطريق، بينما الحسين قد تحرق في تفكير عميق لولا الحادثة التي أثارت انتباهه وجعلته يهتز ليعرف الواقعة التي تجاوزتها الحافلة بعدما سوي الخلاف بين صاحب العجل الصغير والسائق. و يغوص الحسين في تفكير عميق من جديد، والحافلة تجتاز جبالا عالية تكسوها غابات خضراء كلها مرتفعات وطرق ملتوية، مرات يمينا ومرات شمالا، وأحيانا يحس الحسين بتخوف شديد وخاصة عندما تلتقي الحافلة بحافلة أخرى وتظهر الطريق ضيقة جدا، فتأتي حافلة أخرى أو حاملة غاز لتزيده هلعا، كما كان يسرق النظرات إلى الوادي العميق الذي يبدو في السفح، ليرى شاحنات محطمة كسا معظمها الصدى،سيارات صغيرة تبدو متهشمة، كان الطريق وعرا، لكن السائق كان بارعا وهو يدير المقود بنوع من الحذر والاحتياط وبنوع من البراعة. غابات الصنوبر هنا وهناك، وبعض الزهور الصفراء التي تبدو من بعيد كأنها أشجار فواكه صفراء اللون، وهناك في طرف آخر منازل بنيت منحدرة الشكل "بالزنك" وبعيدا جدا تظهر قمة شاهقة مليئة بالثلوج، كان منظرا جميلا لولا نفسية الحسين التي كانت توحي بالغربة والوحدة التي يعيشها بين الفينة والأخرى. وهكذا مرت ساعات طويلة وهو يغمض جفنه أحيانا ويفيق على صوت فرامل أحيانا أخرى عندما تقف الحافلة إلى أحد الواقفين والوافدين على الشمال (المسافرين).
لم تمض سوى ساعات قليلة حتى تدخل الحافلة مدينة جميلة عالية بأسوارها ،تبدو من بعيد مبانيها العالية، سكانها الذين يرمقون بنظرات الغريب، كلامهم المختلف جدا، مرافقها وملاهيها توحي بالازدهار والحركية، ترى مقاهي جميلة وواسعة، فتيات حسناوات بلباس فاخر، سيارات فخمة، ترى الجميع مشغولا، كل إلى عمله، كأن ليس لديهم الوقت ليكلمونك. صيحات تتعالى خارج باب المحطة على ألسنة مساعدي أرباب الحافلات، جال الحسين يمينا وشمالا وهو يحمل كيسا يحوي أغراضه، متسمرا كأنه نزل في مدينة يقطنها أناس لا يتكلمون العربية، بدأ يجول بعينيه المكان، وبعد هنيهة تتركز عيناه على مقهى صغير ذو كراسي عادية ، توحي للزائر أنها مكان لاجتماع الشيوخ.
وقف الحسين قليلا إلى جانب المقهى يرمق بعينيه الوافدين، فاتضح له أنها واسعة من الداخل لكنها فعلا ذات أثاث تقليدي، وديكورات قديمة.أضيق الحسين من شدة الشرود وانحنى داخلا إلى تلك المقهى، فالتجأ إلى كرسي في طرف المقهى وهو يضع بجانبه الكيس الذي يوحي على أنه زائر جديد إلى طنجة.
وبعد لحظات،  يدير الحسين وجهه ليرتكز على وجه شاب واقف أمامه، كان النادل، نادل المقهى، جميل الوجه، ظريف، لكنه غريب الأطوار، أسنانه كانت كلها سوداء مسوسة، ففهم الحسين أنها الحشيش أو كما يقولون إنها "الزطلة". سأله النادل باحترام: «ماذا تطلب؟» ليرد الحسين: «كأس شاي أرجوك!» لم تمض سوى ثوان قليلة حتى يكون الطلب مقضيا، فسأله النادل: « ربما الأخ جديد في طنجة؟» فيرد الحسين : «نعم أنا هنا أبحث عن عمل..إني هنا لساعات قليلة»، فيجلس النادل إلى جانبه، ليتبادلا حديثا قصيرا ينتهي إلى التعرف بينهما. كانت اللكنة التي يتلفظها الحسين قد أثارت اهتمام النادل ليسأله عن بلدته وهنا يكشف له النادل على أنه ابن منطقته، وهو يأتي إلى جدته عدة مرات ليقضي معها أيام بقرية "جعادنة" ، قرية لا تبعد عن زرهون المدينة إلا بثلاث كيلومترات. وتزداد صلة المعرفة بينهما، واستفسر له بأن صاحب المقهى رجل ثري وسوف يطلب منه إيجاد فرصة عمل للحسين  ويستحسن أن تكون في المقهى إلى جانبه. وفعلا، يمر أسبوع على ذلك، ليحصل الحسين على فرصة عمل لغسل الصحون والكؤوس، وتوفير مكان للنوم في طرف من المقهى. وتمر شهور على هذا الحال و العلاقة تتحسن بين النادل والحسين ويتعرف الحسين على الزبناء و الوافدين على هذه المقهى، إذ لم يكونوا شيوخا، بل كانوا شبابا، منهم أبناء الجالية المغربية ومنهم تجار المخدرات، كانوا آنذاك يعاملون الحسين معاملة حسنة لأنه كثيرا ما كان يقضي لهم بعض الأغراض، إذ كانوا يرسلونه لقضاء حاجة من دكان مثلا أو ما شابه ذلك، ويرمون له بعشر دراهم أو أكثر. كان يحاول تحسين علاقته، ويمر على ذلك الحال عام بكامله، ويصبح الحسين معروفا لدى صاحب المقهى بالثقة والاحترام، ويطلب منه مساعدة النادل عصام عندما يتوافد الزبناء على المقهى إلى أن يأتي اليوم الذي يجالس فيه الحسين واحد من تجار المخدرات الذي عرف الحسين بالثقة لأنه كثيرا ما امتحنه بطريقة لا يعرفها ، ولأن الحسين لم يكن يعرف أشياء كثيرة، فمنذ أن كان تاجر المخدرات "الباز" يجلس في المقهى ويتعامل معه، كان يعطيه علبة سجائر فارغة متوسطة الحجم ليودعها له عنده حينما يقترب رجال الشرطة من المقهى، وكانت العلبة مملوءة ببلاكيتات الحشيش.كان الحسين يتستر كثيرا على الباز، هذا الأخير الذي كان يمطره أحيانا بأوراق بنكية قد تصل إلى خمس ورقات من فئة مائة درهم. و تزداد ثقته بالحسين ليعرض عليه مرة البيع والشراء دون علم أحد،خاصة صاحب المقهى، وتتهيأ الظروف عندما يصيب عصام مرض خطير في الرئتين ليلزم الفراش فيصبح الحسين نادل المقهى وتاجر المخدرات غير المعروف للجميع سوى الزبناء المدمنين على المخدرات. ويحس الحسين بجيبه يمتلئ ببطء ويعرف أن المال يحل الأزمة، فتبدأ رغبته في جمع أكبر قدر ممكن من المال، لأن المقهى لن تكون مصدر لقمة العيش مدى الحياة. ويأتي اليوم الذي يعرف فيه الحسين أن الباز هو تاجر مخدرات معروف، وهو يهرب حتى إلى الخارج شحنات المخدرات.. تمضي سنتين على هذا الحال حتى يوشك الحسين أن يكون شريك الباز في تجارته، وتأتي المرحلة التي يحلم فيها الحسين الهروب إلى الخارج أي " لحريك "، كان طريقا سهلا جدا، خاصة وأن الحسين أصبح اليد اليمنى للباز الذي يملك ثلاث قوارب لتهريب المخدرات إلى الديار الفرنسية والإيطالية. وفي إحدى الليالي، يتحدث الحسين إلى الباز عندما كان يجلسان إلى جانب البحر يرتشفان كؤوس الويسكي ولفائف الحشيش عن مساعدته إلى الهجرة السرية، فحياة المقهى لا تطاق وصاحبها كذلك. لكن في الواقع لم يكن صاحب المقهى، بل إن الحسين عرف ما لم يكن يعرفه من قبل، وزادت في نفسه الرغبة في جمع المال.لم يكن الباز من معارضي الفكرة، بل كان يعرف أن عليه إرسال واحد من عصابته إلى روما التي يزورها كلما أراد، لا تحجبه حواجز الجمارك ولا أي أحد لأن شركاؤه إيطاليون وفرنسيون، واليوم عليه دعم عصابته بالحسين، الصديق الذي أصبح يعرفه.
وذات ليلة، كان القمر يتوسط السماء والجو صحوا، والبحر هادئ الأمواج،يتهيأ الحسين إلى ركوب البحر عبر قارب الموت، وكانت هذه الأخيرة مشحونة بصناديق الحشيش والمخدرات، مرت رحلته في جو من الخوف وتذكر أنها رحلة أصعب من الأولى في الحافلة برا، أما اليوم فهي عبر المحيط. لكن الحسين هذه المرة غرق في نومه العميق ولم يبال خطر الرحلة إلا عند وصوله سواحل إيطاليا في ظرف أربع ساعات، ليجد هناك أناسا يلبسون أزياء عصرية، بعضهم يحمل مسدسات ورشاشات ثقيلة، أذراعهم موشومة.كانوا يرحبون بالحسين ويقولون له لقد اتصل الباز من المغرب، وقد أوصى بك (جاءت على لسان أحد أفراد العصابة باللغة الإيطالية).لم يفهم الحسين ما قال له الإيطالي، إلا أنه يتفهم بعد أن شرح له الأمر. تهافتت مئات الصور على مخيلة الحسين، لم يعرف كيف مرت الساعات وكيف مر الليل بهذه السرعة، لقد فكر كثيرا ما عليه فعله، خاصة وأنه في بلاد الغربة، لا صديق له ولا عائلة، لا شيء سوى أناسا غرباء يحيطون به من كل الجهات.... هكذا مرت سنوات ببلاد الهجرة والليالي القاسية، سنوات رأى فيها الحسين أنواع العذاب، لم يتذوق طعم الحياة، لكنه انغمس في جمع الثروة هناك، إذ كان لا يهمه شيء سوى جمع المال الذي كان شاغله الأول، رغبة في العودة إلى أرض الوطن لإقامة مشروع بين أحضانه. مرت أربع سنوات، ويأتي اليوم الذي يصبح فيه الحسين الرجل الشهم، ذا ثروة لا بأس بها، معروفا لذا الجميع من أجانب ومغاربة، خاصة في الأراضي الإيطالية الجنوب. وتزيد رغبته في العودة، لكن هذه العودة كانت جد موفقة لأن الحسين عمل على إصلاح وضعيته في إيطاليا لا كمهاجر سري بل كمواطن مقيم ، بعد حصوله في هذه الفترة على جميع الوثائق القانونية، كل ذلك تيسر طبعا بواسطة صديق إيطالي. وأثناء العودة، جمع الحسين كل ما يلزمه في حقيبته الدبلوماسية وتوجه إلى المطار... كل هذه الأحداث لم يعرف الحسين كيف مرت بسرعة، ولم يصدق نفسه عندما كانت الطائرة تحلق فوق مدينة ساحلية بمبانيها العالية وأزقتها الجميلة، ليسمع صوت الطائرة وهي تحط على مطار طنجة. طنجة وزرهون، مدينتان جميلتان يقطنهما الطيبون. قد يشاء القدر أن يجمعني هنا أو هناك كي أبحث عن اسمي. اسمي! جزء لا يتجزأ من سلام. اسمي! عشق لكل غريب بعنفوان؟؟؟.  موجودا في كل مكان. منقوش على الحجر. على الجدران اسمي! عند من يهزه الشوق والحنين.  ليتفقد اسمي! ضمن دائرة المجانين.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس