التعليم
بالمغرب.. أي واقع؟ وأية آفاق ؟
بقلم : يوسف عشي
إن المتأمل في واقع المنظومة التعليمية
بالمغرب ليستغرب، وباندهاش شديد، قدر التباين الكبير الحاصل بين مستوى الخطاب
الرسمي الداعي إلى الجودة و"مدرسة النجاح" وبين الواقع المرير الذي
يستأسد في صفع المواطن كلما حاول التفكير بهمِّ هذا الميدان البالغ الأهمية.. ذو الدور
الشديد الحيوية في نهضة الأوطان.. وليسمح لي القارئ الكريم أن أنطلق من نموذج من
الواقع كي لا يكون كلامنا محض افتراء أو تحصيل حاصل..
في
قلب مدينة الدار البيضاء تستقر الثانوية التأهيلية "جابر بن حيان"،وهي
ثانوية تضم العديد من الشعب العلمية والتقنية وحتى الفنية.. ترتسم على معالمها في
المنظر الأمامي صورة رائعة – تعبر بحق عن واقع المنظومة التعليمية بالمغرب –تتجسد
في بناية بهندسة معمارية عصرية وفضاء أخضر يؤثث منظرا جميلا.. لكن وكما يقول المثل
العامي "ألمزوق من برا.."
فمن يلقي نظرة عن كثب يصدم بواقع مرير..
هؤلاء الذين يتم تسجيلهم من فلذات أكباد
المواطنين، والذين يرتجى منهم العالم والمهندس والفنان.. لا ينبغي أن نستغرب إذا
تحولوا إلى العاطل والمتسول و المهرج.. وذلك بكل بساطة لما يعانيه التلاميذ في هذه
المؤسسة "التعليمية".. من إهمال يطال أبسط التجهيزات.. حيث تخال نفسك
ب"لافيراي سباتة" وليس بمؤسسة تعليمية.. مقاعد مهترئة ومكسرة يستعمل
التلاميذ - حسب رواية بعضهم- الكتب والمحافظ فوق هيكلها الحديدي بدل الخشب..
وأقسام صفيحية.. نعم صفيحية، ربما الدولة تحارب أحياء الصفيح والقصدير..لكنها ربما
لا تهتم للحجرات الدراسية الصفيحية بقلب العاصمة الإقتصادية للمغرب..
صور صادمة لواقع مرير.. تدفع إلى
التساؤل بكل حيرة: إذا كان الجواب البغيض الذي نتلقاه بصدد تجهيز المدارس بالعالم
القروي يتحجج خاطئاً بالبعد الجغرافي وتشتت الساكنة على الدواوير المتفرقة.. فماذا
عن مؤسسة تحتضن قسما داخليا وتضم شعبا متخصصة؟؟ وتستقر في قلب
المغرب"النافع"؟؟؟ يبدو أنه لامجال للتساؤل.. فالجميع من قائمين على أمور التعليم بالمغرب، أو غيرهم
يعلمون أننا في زمن الآيفون والآيباد والسمارتفون والفيسبوك
والتويتر... لا يمكن لأي شيء أن يغطى أو يتم تجميل واجهاته فقط والعمل
بقاعدة "كم حاجة قضيناها بتركها"وربما حتى قاعدة "زوق تبيع.. وتهلا
في الفيترينة.."
ويبدو أن الحناجر ستصاب بالورم من شدة الحنق
والغصص التي يصعب ابتلاعها كلما نظر الإنسان إلى أحوال التعليم في هذا البلد
السعيد.. حتي يكتب أحد المدرسين بهذه المؤسسة على صفحته في الفيسبوك معلقا
على صورة كرسي مهترئ بالمؤسسة وضع فوقه كرسي آخر مهترئ ليشكلا معا كرسيا واحدا
ربما أمكن استعماله، بمرارة
تشوبها السخرية. فشر البلية ما يضحك.
ومرة أخرى نصرخ.. إلى متى؟ إلى متى هذا
الاستهتار بالميادين الأكثر حيوية بالوطن؟ كيف لفاقد الشيء أن يعطيه؟ كيف لمن يرى
الفساد يستشري على أعين الأشهاد ولا يرى له رادعا؟ أليس لهذه المؤسسات مسؤولين؟
أين هؤلاء المسؤولين؟ أين ضمائرهم إذا لم يكن هناك من يستخدم القانون لردعهم؟ هل
قدمت الدولة استقالتها؟ مالذي يجعلنا نصرخ كلما التفتنا إلى أي ميدان؟ ألا يمكن أن
نجد يوما ما، ميدانا ما، في هذا البلد السعيد، لا يصفعنا واقعه المريض؟ هل قدر هذا
البلد المعاناة؟
حين نتحدث عن التعليم فنحن نميزه عن باقي
القطاعات. وذلك لخطورة الوظيفة التي يقدمها والدور الذي يلعبه في بناء الوطن.. منذ
أيام أو لنقل أسبوع أو أكثر عرض وبث على البلد بأكمله، على إحدى القنوات الفضائية
المغربية الخاصة (ميدي1) حوار يقتل الأمل في الحلم..، نعم حتى الحلم.. حينما يعهد
بالحوار إلى أشخاص أقل ما يتصفون به الجهل.. كان البرنامج مخصصا لمناقشة - في أحد
أجزاء موضوعه- موضوع "التعليم الجامعي الخاص".. لنشهد حوارا عاميا بكل
ما في الكلمة من معنى.. وكأن الفضاء الإعلامي بهذا البلد أصبح من المستباحات.. لغة
دارجة ركيكة وتعابير "زنقوية" بالجملة حتى نشاهد ونسمع أحد
المحاورين يربت على كتف محاور آخر قائلا "إوا كيجيتك دبا أنا اتافقت
معاك".." راك ما بقيتيش فشي شكل" ويتمتم آخران قدما كنموذج لطلاب
التعليم الجامعي الخاص بكلمات لاهي عربية ولا هي دارجة ولا هي فرنسية.." نقاش
سطحي يتفِّه الموضوع الذي يمثل أحد أخطر الموضوعات التي اهتمت لمعالجتها جميع
البلدان المتقدمة بكل اهتمام واستحضار للدور البنائي الخطير.. فلكي تبني شعبا عليك
أن تبني مواطنيه.. ولا مجال غير الفضاء التعليمي يمكن أن يلعب هذا الدور..
لكن في ظل وضعية كارثية للبرامج التربوية،
وبنايات متهالكة في قلب الوسط الحضري، دون الحديث عن العالم القروي.. وفي ظل
الخصاص المهول في أعداد المدرسين..كيف بالله عليكم لمتأملٍ أن يتفاءل؟؟؟ حيث لا
يوجد في الواقع إلا ما يدعو إلى التشاؤم..
وكيف لا نتشاءم ونحن نرى أن كل من تولى
المسؤولية يسارع إلى إلساق تهمة الهوان التعليمي بمن حوله داخل الميدان، من وزير
يوجه الرأي العام نحو المدرسين متهما إياهم بالجشع والإشتغال في القطاعين العام
والخاص، وبيداغوجيا طرد صاحبها قبل أن يتم دراسة وإعداد بيداغوجيا جديدة تقوم
بالدور التعليمي بشكل أنجع وأنجح؟ ومؤسسات أغلبها تترك بدون صيانة حتى يتهالك
بنيانها، وتنوء بحمل أنهكها به ما يسمى ب"الخريطة المدرسية" التى لا هم
لها سوى تدبير كم التلاميذ دون أن تهتم بالكيف.. حتى بات التعليم الثانوي التأهيلي "ياحصرة!" يدرس
"أشباه الأميين"!!.. وتدبير ارتجالي لا يراعي ولا يستند لمن هم في
الميدان عبر مخططات لا نتائج لها اللهم تبذير المال العام بطريقة استنزافية؟؟
وهيئة للإدارة التربوية تدار بالتكليف دون أن نجد أصحاب الإختصاص تكوينا وإعدادا
ينهضون بها.. لتصبح مثار الارتجالات ومحاولات لتسيير الأمور بدون أبسط شروطها
الضرورية؟؟ وتلاميذ بات التفكير في طرق الغش والإستيلاء على الشهادات
دون استحقاق شغلهم الشاغل في ظل إدراكهم لعجزهم الكلي على التحضير والتحصيل
والمراجعة.. وقطاع خاص حوَّلَ التعليم إلى حرفة يجنى فيها المال مقابل نقط
المراقبة المستمرة المرتفعة دون وجه حق؟ وأساتذة يبيعون النقط كرها في
"الدروس الخصوصية" ويا لتها دورس بحق!! حتى بتنا نجد آباء يحرصون
على هجر المؤسسات العمومية في المستويات المؤذية إلى نيل الشهادات عبر الخضوع
للإختبارات الوطنية أو الجهوية الموحدة، وتسجيلهم بمؤسسات خاصة لا لضمان الجودة
التعليمية وإنما حرصا على ضمان نقط ومعدلات مرتفعة واجتياز" آمنٍ"
للإختبارات..
كيف لا نتشاءم؟ ونحن نكره أشد ما نكره
التشاؤم؟ قد يجيب البعض بأن الأمور ليست بهذه الصورة السوداوية.. نقول نعم لكن
السواد هنا ليس مناطه الواقع المعيش فقط.. بل المستقبل المستشرف.. ففي ظل استشراء
الفساد.. وموت الضمائر.. وعجز المخططات الارتجالية الأحادية والشكلية.. وانعدام حس
المسؤولية.. وتردي الواقع التربوي باعتراف رجال التعليم أنفسهم.. أي مستقبل
سنستشرفه؟.. إننا حينما نطرح هذه التساؤلات نؤكد أننا لا نسعى للتعجيز.. ولا نتهم
أحدا بعينه.. لكننا نسائل الجميع..
فالمسؤولون عن قطاع التعليم متهمون
..والمدرسون متهمون.. والمواطنون متهمون.. إلى أن يثبث كلٌ من جهته سلامة سريرته
ونجاعة مجهوده واجتهاده.. حينما يصبح للتعليم مسؤولين حقيقيين.. يبنون مخططاتهم
على نتائج دراسات ميدانية علمية متخصصة، تشمل القطاع بمختلف عناصره، والأطراف
المتدخلة فيه، بروح المواطنة الحقة، والمسؤولية المتبوعة بالمحاسبة.. وحينما يصبح
رجل التعليم ذو الكفاءة بالعدد والقدر الكافي، في الحجرات الدراسية الملائمة، بعدد
التلاميذ الملائم، والتجهيزات اللازمة، وبتأطير بيداغوجيا ذات أهداف ومعالم واضحة
دون استنساخ لتجارب فاشلة.. بل بيداغوجيا ترسم معالم المناهج الدراسية وفق ما
يستلزمه واقع الوطن باختلافات وتنوعات فسيفسائه البشرية وتعرجاته الجغرافية..
وأنماط القيم والثقافات المتعددة داخله.. وحينما يشد ولي الأمر أزر ابنه بالدعم
التربوي المكمل لوظيفة المدرسة والمقيِّم للمستوى، بالموازاة مع المرحلة التعليمية
التي يمر منها ابنه أو ابنته.. وبالعلاقة الإيجابية مع المدرسة حوارا وعملا
تشاركيا من خلال جمعيات الآباء وغيرها.. وحين يتحول التعليم إلى الهم الأول لمن
يسوسون أمر هذا البلد..
حينها.. وحينها فقط.. حاسبونا إذا ظللنا
متشائمين..
يوسف عشي، أستاذ التعليم التانوي التأهيلي youssefachi@gmail.com
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية