بقلم:محمد ناصر الدين لحمادي
لا ريب في أن للفن دورا عظيما في بناء شخصية الإنسان
وتوجيهها وجهة صحيحة، ليتصف بصفات تجعله أهلا للاستخلاف وعمارة الأرض ونشر
الخير... وهذا الكون أمامنا فيه من تجليات الإبداع والجمال ما يدل على عظمة بديع
السماوات والأرض، الذي أحسن كل شيء خلقه وسواه في أبهى صورة.
والإنسان مندوب لتأمل ذلك
الجمال الكوني الباهر الدال على جمال الله في كل ما يحيط بنا. إنه جمال يبهر النفس
ويحرك فيها كوامن الإبداع الفني، فتنطلق مبدعة فنانة. فكيف لمن كانت إقامته في روض
هتون، ظلال أشجاره وارفة، وألوان زهوره ساحرة، وألحان طيوره عذبة، ثم لا ينبري
شاعرا يلهج بما أثاره في نفسه من انفعال في أرق شعر وأروع قصيد؟. وقد خلدت لنا
دواوين الأدب قصائد كالشهد لشعراء كثر يصفون الربيع ويفتتنون بحدائقه ذات البهجة،
منهم: ابن زنباع الطنجي وأبي الربيع سليمان الموحدي وصفي الدين الحلي... والشعر
الجميل والقصيد البارع، يتطلب إنشاده وغناءه بأجمل الأصوات، فيطرب السامع لذلك
الغناء والسماع أيما طرب، وإن تجويد القرآن الكريم وتحبيره وما يتركه في النفس من
عظيم الأثر، وغناء أشعار المديح النبوي وما تهيج فينا من شوق للنبي الحبيب لمظهر
من مظاهر الفن الراقي.
وليكون الفن لبنة من لبنات بناء مجتمع راق متحضر،
ومقوما من مقومات شخصيتنا العربية المسلمة، لا بد له أن يسير وفق الإرادة الربانية
التي يخضع لها الكون كله... فالرعد والسماوات والأرض وكل شيء يعظم الله ويسبح
بحمده، ويغار ويغضب أن تنتهك حرماته: "لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات
يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا، أن دعوا للرحمن ولدا". فليس
للفن أن يتمرد على الأمر الإلاهي ويحاده وينتحل لنفسه مذاهب من هنا وهناك، بل يمشي
في ركب المنهج الرباني للإنسانية. ومن ثم كان الفنان المنحرف عن الجادة، العابث اللاهث
خلف السراب، المتنكب عن طريق ربه، سببا في جزء من هذا التيه الذي نحن فيه، وإنه
ليس تيها في الأرض كما كتب على بعض الأمم، بل هو تيه في الفكر والتصور، تنتج عنه
أشكال مختلفة من الانحراف.
لقد تعددت مظاهر الفن في هذه الأيام وكثرت، وصار الفن
تجارة رابحة لا تبور، تصدى لها عديد من الطامحين في الثراء لا يحصون كثرة، وهذا
"الفن" الكثير الرائج لا يبني إنسانا ولا يخدم أوطانا وللأسف، لأنه حاد
عن المنهج القويم للفن، وسلك سبل تهييج الشباب واللعب بشهواتهم، وقصر أفكارهم على
الخلاعة والتهتك، وتحبيب ذلك إلى نفوسهم، وتثبيطهم عن كل ما ينفعهم من أمور الدين
والدنيا. وإن ما يعرض على قنوات كثيرة من مجون في الرقص والغناء والتمثيل، ووقاحة
في المسرح والشعر والرواية، لكفيل بمحاربة كل قيم الخير والفضيلة والعفة وإحلال
أضدادها في مجتمعنا.
وإذا تأملنا مثلا نتائج دراسة (نشرت بمجلة البيان، ع
304) عن الأعمال السينمائية "العربية" التي عرضت في رمضان الأبرك لعام
1433هـ، فإننا نجد تلك الأعمال "الفنية" معولا لهدم القيم الدينية
والخلقية والاجتماعية، ففي مائتي مسلسل نقف على الأعداد الصادمة الآتية:
- مشاهد شرب الخمور أو تعاطي التدخين أو
المخدرات: خمسمائة مشهد.
- مشاهد تعري النساء بشكل مهيج للغرائز: ألف
وخمسمائة وستة وثلاثون مشهدا.
- مشاهد الألفاظ الجنسية والعناق والقبل
والمراودة عن النفس: سبعمائة واثنان وخمسون مشهدا.
- مشاهد تستخف بالدين وشرائعه: مائة واثنان من
المشاهد.
- مشاهد هادمة للصلة بين الأب وبنيه: ثلاثة وستون
مشهدا.
إضافة إلى المشاهد التي لا تترك أثرا حسنا في متلقيها، كالقتل والسرقة والاحتيال
والألفاظ الساقطة... وكل ذلك مناف للذوق السليم والخلق القويم في سائر أيام الله،
فكيف في رمضان شهر الطهر والخير وليلة القدر؟؟.
إن
تنقية الفن من هذه الشوائب لمن آكد الواجبات، وإن ذلك يمر بالضرورة عبر صبغ الفن
بصبغة خلقية تقومه وتنظفه، حتى لا يكون خطرا على المتلقي، خاصة أبناءنا الذين نحرص
أشد ما يكون الحرص أن ينشؤوا في بيئة نظيفة لا يلوثها فن يصادم أخلاقنا وقيمنا
الرفيعة. وبدل فن منحرف نريد فنا نظيفا رفيعا، يغرس الأخلاق، ويبني الإنسان، ويكون
لأهله القائمين عليه إسهاما في تأسيس الحضارة والنهضة من الكبوة.
ومن الاقتراحات
الحسنة للارتقاء بالفن وأكثرها تميزا، ما وقفت عليه عند الدكتور عبد الكبير العلوي
المدغري (مجلة الإحياء، الرقم المتسلسل13) حيث دعا في مجال التمثيل إلى استلهام
المواقف العظيمة والبطولات التي يحفل بها تاريخنا وصوغها أفلاما ومسلسلات
ومسرحيات، لتمتلئ نفوس شبابنا اعتزازا بتاريخهم ودينهم وشخصيته. أما الغناء، فيجب
أن نكتب له الكلمات النقية التي تمتع وتفيد، وتربي على الخير وحب الوطن والتغني
بالأمجاد والحب العفيف، والحرص على خلوه من الفحش والابتذال والغزل الفاضح، لعلنا
إن فعلنا نخفف من هذا الغثاء الغنائي الساقط المائع، حتى يخفت رويدا رجاء أن
ينقرض. ورغم اعتراض بعض الفضلاء بقول كثير من العلماء بتحريم المعازف، فإن
طائفة منهم تقول بإباحتها، منهم الغزالي وابن حزم وابن العربي... وفي عصرنا: شيخنا
العلامة يوسف القرضاوي وغيره.
وختاما، فإن الفن حاجة بشرية، ليس
بوسع الإنسان أن يلغيه من حياته، ولا أن ينكر على من يميل إليه، ولكن بشرط أن يكون
الفن الباني للإنسان، المساعد على عمارة الأوطان، وليس الفن الغارق في وحل
الانحطاط الخلقي والقيمي... وإنها لرسالة نادى بها كثير من الغيارى، لعلها تجد
آذانا تصغي وقلوبا تعي.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية