لحظة مواطنة..


بقلم :  يوسف عشي
لحظة مواطنة..
إن المرء ليشعر في بعض الأحيان بما لم يستطعه طوال مسار حياته، دون أين يجد له منفذا.. ولربما كان من اللازم توفر شروط وحيثيات لم يكن لينتظرها مرة، أو ربما احتاجت دوافعه النفسية للحافز المناسب أو المتوافق مع شحناته الانفعالية اللاشعورية كما تقول مدرسة التحليل النفسي، أو ربما كان للحدث المباشر دور الحافز الرئيس.. المهم أن ثمة ما يدفع المرء إلى الشعور والإحساس بنوع من الأحاسيس لم  يعهده من قبل، أو أنه يتصور أنه لن يشعره..
استدراكا، أود أن أستسمحكم اليوم، في مقال ربما يعبر عن  تفكير وشعور بمسألة شخصية.. إلا أنني لم أجد في نفسي غضاضة في أن أشارككم إياها، وأعتذر لكل من سيجد في الأمر مجرد مناجاة وتأمل شخصي، فلربما اقتضى منا حس المواطنة أن نتشارك.. ربما حتى الإحساس.
كلنا نتحدث عن المواطنة، وكلنا ندعي أننا نمتلكها، إن لم يكن نفاقا فلربما بأحسن تقدير مزايدة، أو ارتباطا بتداعيات هوياتية. لكن أيا منا لا يجرؤ على البوح بافتقاده للمعنى، معنى المواطنة.. ولبرما كان الأمر عكسيا، فالبحث عن الوطن داخلنا ربما يحتاج لمجهود جبار ولبنية إدراكية ومخيلة وقدرة على التمثل لطال ما دعا إليها الفلاسفة والمفكرون.. بل إن ديكارت نفسه تمنى أن يمتلكها إضافة إلى سعة الذاكرة معتبرا أنه حينذاك سيصل إلى اللحظة التي تمكنه من تحليل الأمور على النحو المؤدي إلى اليقين قاطعا تماما مع الشك.. والحقيقة أننا في قرارة أنفسنا كلنا ذاك الرجل.. أو ذاك الإنسان.
بعد استقلال المغرب ، وبعد الجهود الرهيبة لقوى المقاومة الوطنية.. كان الجميع يأمل في التحرر ليس فقط من الاحتلال الفرنسي الغاشم، بل التحرر من تلك الفكرة المقيتة التي تسيطر على الجسد العربي والتي رصدتها الأبحاث الأنثروبولجية، والسوسيولوجيا الكلونيالية التي سبقت المعمر إلى المغرب لتمهد له الطريق. وخصوصا  دعاة النظرية البنيوية والوظيفية، وربما نخص هنا النظرية الانقسامية التي بنت نمطها المثالي (بالتعبير الفيبري)، عل أساس توازن التعارض القائم على الرفض المطلق للسلطة المركزية، وهذا يفسر الحديث عن ما سمي بالمغرب النافع كتجسيد لرد فعل السلطة المركزية. على اعتبار أن عدد كبير من القبائل بالمغرب كانت ترفض أي سلطة مركزية. والحديث عن الوطن هو بالضرورة حديث "حديث" ينتمى إلى نظريات السلطة المشبعة بمفهوم الحداثة.. وبالتالي: أن تكون مواطنا معناه، أنك تعترف مباشرة بانتمائك إلى جسد كلي يسمى "الوطن" وهذا الوطن يضم سلطة مركزية تقوم على أموره وتعاملك ك"مواطن".
قد يكون لهذا السرد ذو النسمة الأنثروبولوجية ربما، أهمية بالغة في الحديث عن مفهوم المواطنة، وهو ينبه إلى مسألة ربما هي أيضا تشكل أساس فهم مفهوم المواطنة، أو بالأحرى تفهم الدواعي التي تجعل الحديث عن " الشعور" أولا و"الإحساس" فعليا بالمواطنة.. مجرد كلام عابر.. ولربما كان هذا هو المانع.. أو الحاجز الذي يعترض طريق كل سابر لغور نفسه مانعا إياه من الإقرار ب"وطنيته" داخليا.. حتى أن المرء ليخال الحديث عن المواطنة ضربا من النفاق المحبب لذوي السلطة "المخزن" وكأن قيمة الوطن والوطنية لا تبارح الفضاء الرسمي للمجتمع السياسي.. توقظها كلمات الإذاعة والتلفزة الوطنية التي لا تسمع فيها كلمة مواطن أو مواطنين إلا بالاقتران بخطاب صاحب المرتبة الأعلى في السلطة في هذا البلد السعيد،"أيها المواطنون صاحب الجلالة يخاطبكم.." وكأن خطاب مقدم الأخبار أو الحالة الجوية أو أي برنامج موجه للأشخاص وليس ل"المواطين"..
قد يكون لمعنى المواطنة لدى المواطن العادي علاقة بالسياسة، التي يخشى الحديث فيها، ويخشى حتى على من يتلفظ بها.. في إشارة إلى أن من يتحدث واصفا نفسه بالمواطن فهو بذلك يدخل في خضم السياسة التي يعتبر الخوض فيها نوعا من اللعب بالنار مادام "المخزن" هو الجهة الأقوى سياسيا، والجهة القابضة بناصية الأمور، والتي يخول لها احتكار العنف داخل الدولة "الوطن"..
وقد تكون هناك توصيفات ومبررات أو حتى أسباب عديدة لتواري وندرة ذلك الشعور{المواطنة} كتقاعس بعض أو جل المسؤولين وخذلانهم للمواطنين، وعدم قيامهم بمسؤولياتهم كما تحددها الأخلاق العامة والقواعد الشرعية بدلالاتها المجتمعية والدينية والقانونية..، وأيضا تعامل بعض الموظفين بالمصالح المتعددة للإدارات المتنوعة التي تجسد الدولة، بنوع من الزبونية والارتشاء والمداهنة.. و كذلك النفوذ الذي يميز البعض على الكل.. أو كل ما من شأنه أن يحدد الدولة كمعبر عن الوطن، وبالتالي يتم إسقاط التمثل السلبي عن الدولة على مفهوم الوطن بكل جهل وغباء ليؤدي إلى هدم أساس الإحساس بالمواطنة.
وأيا كانت المسببات والمبررات، فالشاهد في الأمر أننا بتنا حين الحديث عن الوطن أو المواطنة ، أو الوطنية نستشعر أننا نتحدث عن شيء رسمي.. وثقافتنا الشعبية زاخرة بالرسميات، و حين الوصول إلى اللحظات الحميمية يعترف الكل، بل ينادي ويفخر أنه لا يحب الرسمية.. ويحبذ أن تسير الأمور بنوع من التلقائية.. هنا نبدأ باستشعار أن بين الشعور والإحساس بالوطنية هاجس الخصوصية والعمومية، فالشعور تؤطره المعارف.. ولهذا يكون فهمه واستدخاله رهين بالبعض ممن تيسرت له فرص التعلم والمعرفة.. بينما يبقى المواطن العامي بعيد عن الشعور بالمواطنة، وأي شعور قد يصفه بالمواطنة أو الوطنية إنما هو تعبير لا عن الوطنية وإنما عن الانتماء..
وعلى كل حال.. حينما بدأنا الكلام عن الشعور والإحساس بما لم يتيسر للمرء في السابق إحساسه فإنني شخصيا أقصد الشعور بالمواطنة، ذلك الشعور الغائب، الذي يحتل مكانه الشعور بالانتماء، ذاك الهاجس الذي دفع بنا السعي إلى منح أنفسنا وجيراننا وأهل المدينة وغيرهم ممن نعيش وإياهم في كنف هذا الوطن، من خلال متابعة الشأن المحلي والوطني  ذاك الشعور الجمعي بالانتماء الذي يفوق أي انتماء، والارتقاء بالتالي إلى المواطنة.. وذلك تيسر على المستوى الشخصي في لحظة لم يكن مخططا لها بقدر ما كانت الحاجة إلى التواجد في فضائها من قبيل القيام بالواجب..
كان الحدث تغطية صحفية لحدث تدشين المقر الجديد لولاية الأمن بجهة الشاوية ورديغة.. لم يكن السبب في أول إثارة حقيقية لمشاعر المواطنة في دواخل النفس، رؤية أيادي رجال الأمن ترتفع بالتحية الرسمية لذوي المسؤوليات الكبرى.. ولم يكن السبب كذلك في المشي جنبا إلى جنب مع ذوي أعلى المناصب بالجهة والمدينة.. ولكن كان السبب "مزمارا" أو لنقل "جوقا" و"ثوبا". في لحظة تجعل المرء يفهم لم كانت الجيوش الرومانية والفارسية..  توظف الموسيقيين في خرجاتها وغزواتها ومعاركها الحربية.ويفهم لم كانت الطبول تستعمل في الحشد..
لقد كان السبب أو لنقل الحافز الذي جعل الدوافع النفسية لدى محدثكم في هذه السطور - كما يحب اتباع مدرسة التحليل النفسي أن يفسروا السلوك الإنساني-  "دوافع نفسية يوقظها حافز" "الموسيقى"، وتحديدا اللحن الوطني الذي جعلني ربما لأول مرة أفهم لم تستعمل تلك الآلات الموسيقية المعينة في عزف النشيد الوطني في جميع البلدان.. ولربما كانت هذه اللحظة أول لحظة التحام للحن مع المعنى في الذهن والمكان الذي يوحي مباشرة تبعا للتحليل السابق إلى الدولة وبالتالي الوطن.. وربما كان للتواجد الكثيف لرجال الأمن أيضا تأثير.. لكن المهم هو أن ثمة شيء رهيب سيجعلني أذكر هذه اللحظة ما حييت..
 وعموما، كي لا أدخلكم أكثر في تفاهاتي الداخلية، خلاصة الأمر أن الأسئلة العديدة التي كانت تتنازع نفسي كلما فكرت في موضوع المواطنة، وجدت جوابا. ولا أخفيكم الحرج النفسي وليس المعرفي الذي كنت أشعر به كلما طرح علي سؤال المواطنة.. وكم الاستياء الذي اشعر به بيني وبين نفسي حينما أجيب على السؤال "معرفيا" مبديا حماسا أشعر في قرارة نفسي أنه غير حقيقي.. إلا أنني أدركت في تلك اللحظة الرائعة معناه.. في مشهد مهيب.. ووسط حشد عظيم..
حيث لا يجمع بيننا خوف من متسلط جبار ظالم.. وحين لا يجمعنا أمر عسكري مباشر.. وحين لا تضمنا قضبان وسلاسل.. وحين لا ترمقنا عيون من ننعتهم برجال المخزن بنظرات الحدة والأمر الزاجر.. وحين نلتف جميعنا وليس بيننا من سوانا.. مهما كانت مراتبنا الاجتماعية.. ومهما كانت مواقعنا الإدارية.. ومهما كانت مسؤولياتنا الرسمية.. في يوم ربما لم نعطه حق القدر الذي يستحق.. يوم سبق أن أذللنا فيه من ساق لنا الهوان بالقهر.. وفي مكان قدر له أن يأوي من يفترض فيه إكبار هذا اليوم.. وإيلاء ذويه الأمن.. وفي لحظة يرتفع فيها العلم .. وترى الجميع وقوفا مهابة ليس لبشر.. ولا لأي أمرِ أُمر.. وإنما لرمز .. ثوب ولون فوق عمود.. ينتصب ويتداعى في أرجاء المكان.. ونغمات موسيقى تتداعى أصداؤها مثلما  ترفرف أطراف حمرة العلم المخضرة النجم.. حيث يصمت الجميع.. ولا يُرى ولا يُسمع سوى نشيد الوطن.. أدركت حينها.. معنى الوطن.. وشعرت حقيقة  في داخل نفسي بوجودي في ذاك المكان وذاك الزمن: أحسست أنني مواطن.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس