هل المبدع مجنون؟



بقلم: حساين المامون


"لم تكن عبقرية فرويد سببها أن عشرين عملية أجريت له في فمه بسب سرطان الفم"
عباس محمود العقاد

               يمكن تعريف الإبداع بأنه أفكار جديدة ومفيدة ومتصلة بحل مشكلات معينة أو تجميع وإعادة تركيب الأنماط المعروفة من المعرفة في أشكال فريدة، ولا يقتصر الإبداع على الجانب التكنيكي لأنه لا يشمل تطوير السلع و العمليات المتعلقة بها وإعداد السوق فحسب بل يتعدى أيضا الآلات و المعدات وطرائق التصنيع و التحسينات في التنظيم نفسه ونتائج التدريب و الرضا عن العمل بما يؤدي إلى ازدياد الإنتاجية. فالإبداع ليس إلا رؤية الفرد لظاهرة ما بطريقة جديدة لذلك يمكن القول إن الإبداع يتطلب القدرة على الإحساس بوجود مشكلة تتطلب المعالجة ومن ثم القدرة على التفكير بشكل مختلف ومبدع ومن ثم إيجاد الحل المناسب. وقد ربط البعض الإبداع بحالة الجنون والاضطراب، فهل حقا أن الإبداع (العبقرية ) يدفع للجنون والاضطراب ؟ أو أن هناك شيئا ما في المرض النفسي و الاضطراب يدفع الى العبقرية، ويغني القدرة الإبداعية ؟ أو أن كليهما (الإبداع والمرض) نتاج لعامل آخر مشترك ؟
عندما نتأمل في طائفة من فرسان الكلمة وطائفة من الأدباء والمفكرين والفنانين أصيبت بالاضطراب النفسي تطول كثيرا، ومن أبرزهم "فرجينيا وولف" التي عانت من الاكتئاب الحاد الى أن قررت أن تنهي حياتها وبالانتحار، ومعاناة "كافكا" حتى وفاته. وكتب"كيتس" عن حالة مماثلة، أما جوته فقد أعلن في أخريات أيامه، بصورة مأساوية أن حياته "لم تكن إلا ألما وعبئا، وأنني أؤكد أنني خلال الخمسة والسبعين سنة من العمر التي عشتها حتى الآن لم اختبر الصحة الطيبة ولو لأربعة أسابيع متصلة، ويسجل لنا في كتاب شائق عن العظمة والعظماء الذين صنعوا التاريخ، نماذج تبين أن بعضهم وصلت بهم حالات الاضطراب لدرجة احتجازهم في مصحات عقلية للاستشفاء وذلك مثل "عزرا باوند" و"فان جوخ" و"هولدرين" (أمير الشعراء الألمان الذي قيل عنه أنه عاش ثمانين عاما في مستشفى للإمراض العقلية) وبعضهم أنهى حياته في تلك المصحات مثل"ماركيز دي صاد" و"فيرجيسون" و"شومان" وسيمتانا "و"فيرجينيا وولف" أما قصة نيتشه فيلسوف القوة وأحد كبار المفكرين الألمان فهي معروفة لكل نقاد الأدب و المفكرين، وبسبب نهايته المفجعة وإصابته بالجنون الكامل، فلم يكن هناك من يتخيل أنه هو الذي كتب، قبل إصابته بالجنون بسنوات، تحفته الفكرية "هكذا تكلم زرادشت". أما "همنجواي" فقصته معروفة ، إذ يقال أنه أنهى حياته بنفسه بطلق ناري، وقبل انتحاره  عانى الاكتئاب والإدمان الكحولي، إلى درجة تطلب أن يتلقى علاجا طبيا منتظما باستخدام الصدمات الكهربائية بعيادة "مايو كلينك" الأمريكية المشهورة. أما الموسيقي المعروف "رحمانينوف" فقد أهدى إحدى مقاطعه المشهورة "كونشيرتو البيانو الثاني" الى معالجه، الذي ألهمه هذه المقطوعة، وكل هذا لا يدع مجالا للشك في أن كل  هؤلاء قد عانوا بشدة من الاضطراب الروحي النفسي، متمثلا في الاكتئاب وغيره من اضطراب النفس والسلوك.
وعلى المستوى العربي نجد عددا من الكتاب والشعراء المرموقين  قد عانوا من الاضطراب وعبروا عن معاناتهم، ووصفوا اضطراباتهم وصفا لا يدع مجالا للشك في أنهم قد عانوا من أنواع حادة من القلق والاكتئاب واضطراب المزاج. فالكاتب المعاصر "أنيس منصور" يصف نفسه في مواقع كثيرة من كتبه بأنه عانى في شبابه الحزن والقلق والخجل الشديد، يقول "فليست عندي الشجاعة على المواجهة...ولا القدرة على خلق صداقات جديدة...لم أكن اجتماعيا...فقد اعتدت على عدد قليل من الأصدقاء، لا أزيد عليهم ولا أخرج عنهم " ويحكي أنه عندما كان تلميذا  صغيرا قرر الانتحار،  بل أنه كاد أن ينفذ ذلك بإلقاء نفسه في النيل، كما يقص هو ذلك في فقرة شديدة الدلالة بسبب ما قدمه من وصف دقيق لمشاعر اليأس والتشويش الفكري التي تصيب الناس في الحالات الشديدة في الاكتئاب "ّ لا أعرف كم من الوقت مضى حتى بلغت الكوبري، ولا كم من الوقت مضى حتى انتظرت أن يخلو الكوبري من المارة، حتى لا يراني أحد فأشعر أمامه بالخجل، أو حتى يعرفني فينقذني، هل كان الكوبري خاليا حقا؟ ولكن صوتا مألوفا ويدا امتدت إلى ذراعي، ووجها بدأت أعرف ملامحه بوضوح..كأنني أصحو درجة درجة، أو كأن الوجه يقترب خطوة خطوة : ماذا تعمل هنا ياحبيبي...وكيف حالها الان ؟ انها السيدة التي تعطي لوالدتي الحقن، وكانت في الطريق اليها. و كذبت عليها كثيرا  في عدد الزوار والأدوية وفي تحسن صحتها، ووجدتني في البيت أمام والدتي... و أمامها أدركت جريمتي : انني قررت أن ألقي همومي في النيل، ونفسي معها ...هل أقول ان أمي هي قد أنقدتني هذه المرة ؟ لا أقول ذلك، إنما هي أجلت القرار، فلم تنتهي صعوباتي النفسية، وكلها صعوبات فوق كتفي، في رأسي.... فلا الطعام ولا الشراب هما مشكلتي... وإن كنت لا أعرف بالضبط ما هي المشكلة... إنني مثل إنسان ألقي في الماء، وهو لا يعرف السباحة... أو إنسان القوه من الطائرة بدون مظلة... أكانت عنده مظلة فنزل أرضا لا يعرفها بلا خريطة في يده....أو كانت في يده خريطة أكبر من أن يستوعبها عقله...فقد كانت حروفها غير واضحة ".
ويمنحنا الأدب العربي مثالا آخر موثقا في الاضطراب تمثله شخصية "ماري زيادة" أو الانسة "مي"كما كانوا يسمونها في الأوساط الأدبية، عرف عن "مي" حب الأدب وإتقان اللغات الأجنبية، لكن انتهت حياتها في مستشفى الأمراض العقلية بلبنان لتقضي فيه عاما كاملا تصف حالتها قائلة :" إني أتعذب يا جوزيف ولا أدري السبب، فأنا أكثر من مريضة، وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحس به، إني لم أتألم في حياتي كما أتألم الآن. لم أقرأ من الكتب أن في طاقة الإنسان أن يتحمل ما أتحمل ...وددت لو علمت السبب على الأقل".
توحي الأمثلة السابقة عن الفنانين والمبدعين وما عانوه من اضطراب ويأس، بأن الإبداع والعبقرية مجالان تشيع فيهما حالات المرض النفسي والجنون. وهكذا أعلن "بيرتون" أن" كل الشعراء مجانين" واعتبر "لامارتين" العبقرية نوعا من المرض، أما "لمبرزو" الإيطالي فقد استمر في دفاعه عن هذا الرأي ففي كتابه "العبقرية والجنون" كتب صراحة عن العبقرية أنها دهان ومرض عقلي. ويرى أن الشخص العبقري مثل العفريت قادر على أن يفعل الاشياء الخارقة، وقد أشار أفلاطون قبله إلى ذلك صراحة في محاورة "فيدون" حيت يقول سقراط للشاعر" إن هناك شيطان يحركك...إنك لست بالصنعة الفنية تشدو أيها الشاعر  بل بقوة شيطان الشعر".
يتضح إذن أنه منذ قديم الأزمان كان الناس يعتقدون بأن هناك علاقة بين الإبداع  والجنون أو الاضطراب النفي. وكانوا دائماً يتحدثون عن المبدع  بشيء من التهيب والوجل. فهو شخص غريب الأطوار، معقد الشخصية يختلف عن جميع البشر. والواقع أننا عندما استعرضنا الأسماء السابقة وجدنا أن معظمهم، إن لم يكن كلهم، كانوا يتميزون بتركيبة نفسية خاصة وغير طبيعية فهل هذا جنون؟

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس