بقلم : محمد ناصرالدين لحمادي |
الأساتذة هذه الأيام في منزلة بين المنزلتين، فلا هم في دراسة منتظمة ولا
في عطلة كافية، وسيمر عامهم الدراسي مع تلامذتهم مرور السهم، كأن لم يلبثوا إلا
ساعة من النهار يتعارفون. وفي هذه الأجواء عنت لي خواطر، ودارت بخلدي أفكار.
أخذتني خواطري وأفكاري حيث تخلت فئة من الأساتذة عن رسالتها العظمى وأمانتها
الكبرى، فصار كثير منهم يأتي من القبائح والفظائع ما يستهجن من مثلهم، ومن في منصب
شريف كمنصبهم.
وإذا تأملنا جرائدنا في الشهور الماضية ألفيناها تعج بأخبار تقطع القلوب وتذهب
النفس حسرات، فجرائم السرقة والاغتصاب والانتحار والقتل صارت من الكثرة بحيث تكاد
لا تحصى عددا، وهي دليل صارخ على أزمة كبيرة تعصف بالمجتمع تزلزل بنيانه و تهد
أركانه ... و بحق، فقد أضحت لدينا، على بشاعتها، مألوفةّ!! وقد نتفهم اقتراف تلك
الفظائع من قبل السكارى والجانحين ومن ليس له من العلم حظ ومن المعرفة نصيب، فخليق
بالجاهل الغر أن يتجاسر على ما يتهيبه غيره، فقد انعدمت لديه الزواجر. لكن المصيبة
أن يجترح تلك الكبائر أساتذة عهد إليهم بتربية الأجيال، والبلوغ بفلذات الأكباد
مراتب الكمال... كيف يداوي طبيب الناس وهو مريض؟ّ! كنت أسأل نفسي هذا السؤال وأنا
أقرأ أخبارا هي أغرب من الخيال، فهذا يختلس من تلميذاته قبلا ولمسات، وذاك يضاجعهن
مضاجعة الزوجات، و تلك تجمع في ضيعتها سكارى وباغيات، وأخرى تتاجر بصور المستحمات،
وغير ذلك مما يصعب عده وحده، مع أن العدل يقتضي إنصاف أكثر الأساتذة الذين
يستبشعون هذه الزلات ويضربون أروع الأمثلة في العمل بجد وتفان...
كنا و نحن تلاميذ صغار نكبر أساتذتنا وننظر إليهم بكثير من الإجلال، لما نرى من
تضحيتهم وتفانيهم وإخلاصهم في تعليمنا، يحذونا في ذلك ما كنا نقرأ على جدران ساحات
مدارسنا من كلمات مشرقة في تبجيل أساتذتنا (كاد المعلم أن يكون رسولا، من علمني
حرفا صرت له عبدا...)، وبكل صدق فنحن مدينون لهم بفضل كبير وخير كثير؛ فكنا نجل
الأستاذ ونحبه أكثر مما نخافه ونرهبه. واليوم أسهم كثير من الأساتذة أنفسهم في
الحط من هيبتهم، فهم يغشون ولا يحضرون، وإذا حضروا لا يعملون، كثير منهم، يتشوفون
إلى الإضراب ويحرصون عليه، يتهافتون على طلاب الساعات الخصوصية، فإذا حضروا
للتدريس في المدارس العمومية كانوا كالين متعبين، فتلاميذ الفقراء لا بواكي لهم.
إنه حقا واقع فظيع، لأن هؤلاء الأساتذة هم الذين يربون ــ إلى جانب الأسر ـ
أبناء الوطن رجال الغد : الطبيب والصحفي والمهندس والقاضي والشرطي، الذين
سيحملون مشعل الحياة ويسهرون على استقرار المجتمع، ويخدمون الوطن و أهله، ويقدمون
المصلحة العامة على الخاصة. فأي سلوك قويم غرسوه في نفوس تلامذتهم ليكون
زادا لهم يعملون به في وظائفهم في غدهم؟ سيعدون الانتهازيين الذين يستأسدون على
العباد ويسارعون إلى شؤونهم الخاصة...
رحم الله زمانا كان الأستاذ فيه يحنو على تلاميذه كحنو الوالد على أولاده، يقطع من
عقله ليكمل عقولهم، ويمزق من نفسه ليرقع نفوسهم، يحبهم ويحبونه، وجدوا فيه المثال
والقدوة، والحلم والأناة، فإذا قضوا عامهم وفارقوه حنوا إليه وبكوا عليه.
كان الأساتذة منارات تربية وأرباب سلوك، كل واحد منهم جبل شامخ من الأخلاق،
رجل يصدق قوله بفعاله... وتغير الزمان، فأغرم أساتذتنا بقبائح الأقوال
وسفاسف الأفعال. لقد نأى الأساتذة عن مجالاتهم الحقيقية فبعدت عليهم الشقة،
هجروا مقرراتهم و أقبلوا على ضروب من المتاجرة في العقار والماشية والخضر...
أفيستطيع أستاذ أن يربي النشء ويزكي النفوس وهو مشتت الفكر متشعب النفس؟ إن
التلميذ لا يأخذ عن أستاذه دروسه النظرية فقط، بل حتى أخلاقه وشيمه، أفنظن خيرا
بالابن وقد نشأ على عين مرب ساقط المروءة صفر الأخلاق . إن رؤية الصبي قافلا إلى
بيته من عند المعلم كانت مدعاة إلى التفاؤل عند الأعاجم، على ما في بعض كتب الأدب.
ولعل لهذا التفاؤل أساسا منطقيا، لأن الأصل أن ينير الأستاذ عقل التلميذ، ويزيل
ظلمته، ويوسع مداركه. ربما يحق لنا أن نتشاءم بعودة تلامذتنا من مدارسهم وقد عادوا
كما ذهبوا، بل أسوأ أحيانا فيعودون أكثر شغبا وأعظم شيطنة، لأن الأساتذة قد تخلى
أكثرهم عن الرسالة التعليمية والتربوية، وأقبلوا على مشاريعهم وكؤوس الشاي
المنعنعة.
إن هذا الوضع غير السوي مؤسف ومؤلم لكل وطني بحق، يستدعي من كل الغيورين
وقفة صدق، لأنها قضية الجيل القادم والأجيال التي تليه، إننا نرى الألوف المؤلفة
من التلاميذ الأبرياء " ينجحون" فيعبرون المرحلة الإعدادية قادمين من
الابتدائي دون استحقاق، ثم يرسون على جناح السلامة بشاطئ الثانوي وأكثرهم لا
يستطيع تحرير رسالة إدارية بله أن يدبج رسالة أدبية ذات لغة جميلة وعبارة مشرقة،
رغم أن هذا المستوى المنحط لتلامذتنا ليس مرده فقط إلى إخلال الأساتذة بواجبهم
المهني، وإن كان لكثير منهم نصيب في الإسهام في هذه الحال المزرية، بل هي عوامل
كثيرة ليس هذا مجال بسطها.
ألا فليعلم الأساتذة أنهم قد طوقت أعناقهم بأمانة كبرى تنوء بحملها الجبال، إذ
الغش في ميدانهم أقبح جرما وأفظع أثرا منه في ميدان غيرهم، فهو عبث بالعقول
واغتصاب للطفولة وتضييع للأجيال وتخريج للأميين، إضافة إلى أنه خيانة للوطن الذي
ربوا بغذائه، وسقوا بمائه، واستنشقوا من هوائه. إنهم أدلاء على الخير والعلم
والنور، رائدهم في ذلك الصدق والإخلاص والصبر، يرفعون عن أبنائنا جهلهم
والأغلال التي كانت عليهم، وهي مسؤولية تشرف كل من أنيطت به، وإن الأستاذ الغشاش
الخائن لواجبه لا يصلح أبدا أن يكون دليلا لتلامذته، لأنه كالأعمى، و قد ضل من
كانت العميان تهديه كما في المثل، و حينها يكون بلاء على التلميذ ووبالا على
المتعلم.
إن للإنسانية أعداء ثلاثة، كما يذكر المرحوم محمود شلتوت، تهدد و جودها و تقضي
عليها : الجهل والفقر والمرض، والأساتذة يحاربون العدو الأول، وما أشده من عدو
فاتك! وللقضاء عليه دور حاسم في حياة الأمم ونهضتها،
وليس أخو علم كمن هو جاهل، إلا أن ذلك غير كاف إطلاقا في ميدان صناعة العقول
وتربية الإنسان، فالأخلاق أثقل في الميزان من العلم، وأعظم تأثيرا في رقي الأمم،
وإن كثيرا من المثقفين والموظفين ليس لهم في الأخلاق من خلاق، هم آخر من يؤمن
بالشعارات التي يرفعونها وأول من يضرب بها عرض الحائط... إن الأخلاق أولى أن يعتنى
بها من لدن أساتذتنا وأن تقوى لدى النشء، يقول المرحوم أحمد شوقي :
صلاح أمرك للأخلاق
مرجعه فقوم
النفس بالأخلاق تستقم
ولكن، كيف ننتظر ممن انعدمت
الأخلاق لديه أن يرعاها؟؟... تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية