المدرسة الفلسفية المغربية و مستقبل التنوير.




بقلم:سعيد توبير



بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة، نريد أن نساهم بهذا المقال المتواضع حول هذه الفعالية الإنسانية التاريخية، التي تنتعش أو تنكمش حسب نسب كل من الحرية و الانفتاح الديمقراطيين. ولذلك تعتبر الفلسفة هي المجال المناسب، الذي يسمح ببلورة المشاريع الفكرية الهائلة، التي غالبا ما تكون منارة تنير طريق الحياة أمام الأمم، وأمام الإنسان كإنسان في نهاية المطاف، أليس الإنسان هو موضوعها الأكبر؟ إن تأمل تاريخ الفلسفة يقودنا إلى الوقوف عند منعطفات التحولات الهائلة و النوعية في الفكر والسلوك الإنسانين. فالفلسفة الإغريقية، لم تكن تعني أثينا فقط، بل إنها شكلت مرجعا وبصمت كل الفكر والسلوك البشرى إلى اليوم. مثلما أن المشروع الفكري الفلسفي العربي والإسلامي، قد امتلك قوته من أن فلاسفة عرب و مسلمين نحتوا مشاريع فكرية كانت ولا تزال تشكل مرجعا للفكر الإنساني كله ( مشروع الإمام الغزالي الإشراقي، في مقابل مشروع قاضي القضاة ابن رشد العقلاني)، فيما تعتبر الفلسفة الألمانية المرجع الأكبر للفلسفة الغربية اليوم، سواء مع حدوس كانط أو عقلانية هيغل أو شك نيتشه أو هدمية هايدغر أو لاوعي فرويد. إن دراسة الفلسفة تقوم على النظر العقلي، تساعد الإنسان على إدراك ماهيته ووجوده في المجتمع بصفة خاصة والكون بصفة عامة، إنه الإدراك الذي يساعده على معرفة الحياة من حوله وسر وجوده فيها مما يساعده على تطوير حياته. إن أهمية الفلسفة تكمن في توفير أدوات تحليل الوجود والواقع، والوعي التمييزي بين الإيجابي والسلبي الذي نحتاجه أكثر كلما تعقدت إشكالات الحياة أكثر. و الواقع هو أن الإنسان عامة لا يهتم بالفلسفة في حياته، و ذلك بسبب طابعها المقلق للسائد عادة والرافض لكل ثبات يمكن الاستكانة إليه للمحافظة على ما هو كائن. إن الفلسفة، خاصة بالنسبة إلى مجتمعنا، حاجة ضرورية الآن وقد كانت ضرورية دوما، وتبدو الحاجة إلى الفلسفة الآن، لأنها تتوخى الحرية وتؤسس للحوار كسلوك ديمقراطي وتحارب الانغلاق والدوغمائية ولا تحارب إلا ما هو ضد الإنسان. إن الفلسفة تؤسس الاختلاف في الفضاء العام وتدافع عن النسبية مقابل الفكر المطلق، كما أن تعزيز المشروع الديمقراطي في حياتنا السياسية على سبيل المثال يتطلب الاستفادة من مكاسب ومنجزات تاريخ الفلسفة وتاريخ الفلسفة السياسية، كما أن إنعاش الحوار العقلاني والتاريخي في فضاءات الفكر والعمل في مجتمعنا يستدعي بدوره ترسيخ آليات وقواعد النظر الفلسفي وآليات وقواعد الفكر المنهجي، كما بلورته وما فتئت تبلوره وتطوره مكاسب الدرس الفلسفي المعاصر، وكل نسيان أو إغفال لوظيفة الفكر الفلسفي في التاريخ سيساهم في تكريس الدوغمائيات والأفكار المطلقة والقطعية. ونظرا لأننا نعاني في فكرنا المعاصر من ثقل التاريخ وأعباء العقائد كما استقرت وتحجرت في ثقافتنا وتقاليدنا وحياتنا العامة على وجه العموم، فإن الاستعانة بالفكر الفلسفي بمناهجه وبآلياته في النظر والتعقل والتحليل تتيح لنا بناء الوسائل والآليات النظرية المساعدة على تحطيم وتكسير قيود الموروث الكابحة لحرية الفكر والإبداع، بحيث نلامس على أن الفلسفة تبحث لكل الأشياء عن معانيها، حتى تلك التي تبدو من دون أي معنى في المنطق العام. هكذا يعتبر الفيلسوف عضوا مؤثرا في مجتمعه، يتأثر بأحداثه ويؤثر فيها، ونظراً لعمق نظرته العقلية التحليلية للأمور من حوله، فإنه يساهم في حل مشكلات مجتمعه، بحيث يكون عاملاً فعالاً في التعامل معها خاصة ونحن بصدد عصر تعقدت فيه مختلف جوانب الحياة الاجتماعية، السياسية و الثقافية، مما يستوجب ممارسة الفلسفة لوظيفتها النقدية، وهو جهد يبذل للتوفيق بين جوانب المشكلات أو التعقيدات الاجتماعية وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، مع البحث في أصولها و جذورها وارتباطها بحقائق الواقع من حولها، أي معرفتها معرفة كاملة. فلا يقتصر دور الفلسفة على مجرد النقد وكشف المشكلات، بل إن هذا النقد يقترن دائما بالبناء واقتراح بدائل وحلول مقنعة فبعد أن تقوم الفلسفة بتحليل و تفكيك هاته الأخيرة، تعمل للتو على تقديم الحلول الممكنة لهذه المشكلات والإنسان اليوم يعانى من مشكلات متنوعة، مشكلات تتعلق بالحرية والديمقراطية... كما تبحث الفلسفة عما ينبغي أن يكون عليه تنظيم المجتمع لتتحقق فيه أهداف عليا مثل الحرية والسلم والعدالة، لنخلص إلى أن الاهتمام بالفلسفة لا يمكن أن يتحقق إلا بجعلها شأنا عاما وحقلا مفتوحا للجميع، وبغرس الاهتمام بها لدى كل الأجيال.

  وفي هذا السياق التاريخي لا يمكن لنا "جيل مغرب ما بعد الحرب الباردة" إلا أن نثمن ونفتخر ب "المدرسة الفلسفية المغربية" في ضوء التحولات الثقافية و السياسية التي تعيشها المجتمعات العربية عامة و المغربي خاصة. بحيث سمحت هاته المدرسة الناشئة على مر خمسين سنة بالمغرب ببروز أعلام فلسفية مغربية في العالم العربي و الإسلامي و الغرب نفسه، شكلت مرجعا لا محيد عنه في فهم واقع الفكر العربي، بفضل ما بنته من معرفة ومن آليات تحليل معرفية. ذلك ان مشاريع كل من الدكاترة محمد عابد الجابري رحمه الله، ومشروع محمد عزيز الحبابي، ومشروع عبد الله العروي، ومشروع طه عبد الرحمان، ومشروع عبد الكبير الخطيبي، ودراسات الدكتور محمد المصباحي وفريق من الباحثين الآخرين... خاصة الذين اجتهدوا في مجال فلسفة العلوم، من قبيل الدكتور سالم يفوت رحمه الله وعبد السلام بن عبد العالي، جيل كامل من المغاربة ساهم في إنتاج أجوبة تاريخية حاولت بلورة مشاريع فكرية تنير طريق الحياة أمام المجتمعات الحديثة العهد بالاستقلال. وذلك من خلال إعادة تشكيل وعيهم، بما يسمح بالتصالح مع حقيقتهم التاريخية، ومع الواقعي في الرؤية لواقعهم، وهذا ما جعل منهم «مفكرين بارزين»، المرجعية التي تغري بالتمثل على مستوى آلية التحليل و التركيب لإشكاليات تحديث العقل العربي. وأما فيما يتصل بتدريس الفلسفة في المغرب يرى الباحث المغربي الدكتور سالم يفوت رحمه الله بأن وضع تدريسها في المغرب متميز بالمقارنة بأغلب البلدان العربية، خاصة أن الفلسفة في المغرب لم تعش محنة، وهناك تشجيع لها في البرامج التعليمية الوطنية المأخوذة عن البرامج الفرنسية التي تشجع الفلسفة. فالآن هناك شعب للفلسفة في الجامعة المغربية، ويسمح لكل الجامعات الآن بفتح هذه الشعب، فالأمر متروك لها.  الفلسفة موجودة في التعليم الثانوي أيضا، ووضع الفلسفة عندنا وعند دول عربية قليلة كتونس والجزائر ومصر ولبنان وسوريا لا يشبه وضعها نهائيا في بقية الدول الأخرى. فهي إما غير موجودة لأنها مرفوضة، أو تعطى لها تسمية أخرى هي التفسير كما في ليبيا. وما تحتاج إليه هو توسيع الاهتمام بها أكثر، لأنه في الدول الغربية مثلا نجد كتبا تبسيطية للفلسفة عن طريق رسوم موجهة إلى الأطفال، وذلك بغاية تقريب الطفل من بعض قضاياها وغرس سؤالها في حياته ليرتكز عليه لبناء شخصيته منذ صغره. هناك الآن من ينادي بتعميم درس الفلسفة في كل المستويات التعليمية، ولو تحقق ذلك سيكون مفيدا، وما نحتاج إليه أكثر هو أن يتعمم الانشغال بالفلسفة وبآلياتها، لأنه مفيد للناس والمجتمع أن يتجذر الانشغال بالسؤال والفكر النقدي لدينا جميعا. ويؤكد التاريخ وصيرورة الوعي البشري أن الفلسفة كان لها الدور الكبير في تغيير الكثير من الأوجه في حياة الإنسانية على الرغم من أن ذلك، أدى ثمنه غاليا المفكرون والفلاسفة، بدءا بسقراط وكل الرافضين الذين انشغلوا بتأسيس ملامح المدنية والعدالة والإنسانية في وجود الناس، إيجابية من بينها انتقاد ما كان يشير إليه أفلاطون بالصعوبات الطبيعية للخروج من الكهف الطبيعي، أي صعوبة التخلص من الأراء السياسية و الأحكام المسبقة و الإدراكات الحسية البسيطة الناقصة التي رمزت إليها أسطورة الكهف الأفلاطونية بالقيود و السلاسل.



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس