بقلم: عبد الفتاح جنيني
تقديم:
إن
العالم يتغير بسرعة، ربما أكثر مما نتصور، فالدينامية هي قدر هذا العالم الحتمي، فمند سار نهر هيراقليدس والأشياء تتغير في أعيننا، لكن هذا النهر اصبح جارفا لا
احد يستطيع أن يدرك مداه ولا حتى حدوده،
فنحن نعيش في عالم تكاد معالمه ومفاهيمه تتشكل من جديد، لدرجة أن لا أحد يستطيع
أن يدعي القدرة على الإمساك به. لكن الثابت أنه عالم السمة المميزة له هي العنف
بكل تمظهراته المتعددة –الحروب، المجاعة، العنصرية، الإقصاء...ــ ذلك ان الواقع
البشري ليس مبني على التعدد والتنوع فقط وانما ايضا على التمايز كما ذهب إلى ذلك
هيجل، هذا التمايز الذي هو نتاج هيمنة القوي على الضعيف ، هيمنة تخلق ما يسميه
جون لويس بالمجتمع المفترس، حيث يصبح العنف الإنساني موجها ضد الإنسان نفسه، ذلك
أن لا الحيوانات المتوحشة ولا المكروبات ترعب الإنسان، إذ لا شيء أكثر إرعابا له
من نوع ذكي لاحم قاس يكون بمستطاعه فهم وإفساد العقل الإنساني ويهدف بالتحديد إلى
تدمير الإنسان. فالعنف بهذا المعنى سواء
اعتبرناه غريزيا وضروريا من الناحية البيولوجية كما تذهب إلى ذلك الأبحاث التي
أقيمت على الحيوان لتعمم على الإنسان باعتباره حيوانا ناطقا وذلك لفهم ظواهر العداء والتنافسية لديه مثلا،
أو اعتبرناه عنفا تؤثته شروط ثقافية واجتماعية ، أو مدحناه وجعلناه ملاذا للمقهورين
أو خلاصا للجماعة كما هو الشأن مع جورح سوريل، أو نظرنا إليه كباعث على الحياة
كما هو الشأن مع فرانز فانون، أو حتى عندما نقوم بنبذه تحت مسميات أخلاقية أو
غيرها، رغم كل ذلك فإن العنف في نهاية المطاف حاضر دوما لدرجة أن هناك من يرى أنه
أساس الاجتماع البشري، وبهذا الصدد يقول سوفسكي في كتابه حول العنف : "إن
المجتمع لا يقوم على أساس الحاجة إلى الاجتماع ولا على أساس ضرورات الشغل ...إن
تجربة العنف هي التي تجمع الناس .. فالمجتمع آلية للدفاع المشترك التي تضع نهاية
لحالة الحرية المطلقة"، ويقول في مكان آخر "إن المجتمع ليس شيئا آخر
غير ممارسة العنف بانتظام". من هنا تنبثق إحدى المفارقات الكبرى للعنف، فهو
نقيض للحياة وشرطها الضروري في الوقت نفسه، فهو أداة للقهر والموت لكنه في الوقت ذاته وسيلة لحماية الحياة ورد
العدوان، إذن : كيف نفكر في العنف ؟ وكيف يحضر في الفلسفة كإشكال فلسفي؟ وما طبيعته
التي تعكس حقيقته ؟ وهل العنف ضرورة تاريخية أم أن مثل هذا القول لا يعدو أن يكون
وهما وأأسطورة كما تذهب إلى ذلك حنا أرندت ؟
لنسجل
في البداية أن هناك صعوبة في تحديد دلالة العنف وتعريفه فلالاند يربطه باستخدام
غير مشروع للقوة أو كل ما يفرض على الكائن بحيث يكون متناقضا مع طبيعته، وفي
المعجم الفلسفي لجميل صليبا نجد أن العنف مضاد للرفق ومرادف للشدة والقوة، بينما
إيف ميشو يؤكد على شساعة مجاله يقول : "نقول أن هناك عنفا عندما يحطم أحد أو
عدد من الفاعلين شخصا آخر، مباشرة أو بصورة غير مباشرة، دفعة واحدة أو بالتدريج، أو يمسهم في كيانهم الجسمي أو النفسي، في ممتلكاتهم أو في انتماءاتهم الثقافية
أو الرمزية المختلفة..."، لكن خطورة العنف هنا لا تكمن فقط في شساعة مجاله
وإنما أيضا في تعدد أبعاده، فالعنف ليس مجرد جرح أو قتل إذ يمكن أن يكون لطيفا يخترق
كيان الإنسان في سيكولوجيته كما يحصل في حالات التعذيب النفسي أو النفي أو الحرمان
من بعض الحقوق، وهو ما يسميه بيير بورديو بالعنف الرمزي الذي يمكن أن يكون له في
نظره آثارا و نتائج أكثر تأثيرا مما يمكن
أن يحققه العنف المادي-العنف السياسي مثلا-، يقول" إن العنف الرمزي هو ذلك الشكل من العنف الذي يمارس على فاعل
اجتماعي ما بموافقته وتواطئه " وهنا يظهرالعنف وجها آخر من أبعاده في أعمق
تجلياته إذ قد يتسرب إلى النفوس دون وعي أو بموافقة وتواطؤ الممارس عليه... عموما
إذا كان العنف يرتبط بمعاني الأذى والقسوة والتحطيم فإن صعوبة تحديده تكمن في
صعوبة تمييزه عن بعض المفاهيم القريبة منه كالقوة والسلطة والتسلط والقدرة... وهي
مفاهيم تقول بصددها حنا أرندت " من المحزن، كما يبدو، أن المستوى الراهن
للعلوم السياسية عندنا، لا يسمح لعلم المصطلحات أن يميز بين كلمات أساسية مثل
"سلطة" "قدرة " قوة " و"سيطرة" وأخيرا
"عنف"، وهي جميعها تحيلنا إلى ظواهر تتمايز وتختلف بعضها عن البعض،
ومن الصعب عليها أن توجد إن لم يكن هذا التمايز قائما ". لكن رغم هذه
الصعوبة في تحديد دلالة مفهوم العنف فإن دراسته في علاقة مع مفاهيم أخرى كالسلطة
والقانون والتاريخ... قد تكون سبيلا إلى فهم أعمق له. فكيف يخترق العنف تاريخ
الإنسانية ؟ وما هو دوره ؟ وأية علاقة للعنف بالسلطة ؟ وهل تستطيع القوانين دائما
تبريره؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما سنتعرض له في المقالات القادمة انشاء الله.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية