˝السينما ترف فكري لكن بالتزام إجتماعي وإنساني ˝
حاوره : ذ.عبد الفتاح جنيني
يعتبر المخرج
المغربي حسن بنجلون من أبرز المخرجين السينمائيين المغاربة الذين استطاعوا أن
يراكموا تجربة سينمائية تتميز بالتطور والتفاعل مع قضايا المجتمع المغربي الراهنة
، وهو من مواليد 12أبريل سنة 1952 بمدينة سطات ، حاصل على دبلوم في الإخراج من
المعهد الحر للسينما الفرنسية بباريس سنة 1983 ، أحدث عددا من شركات الإنتاج السينمائي كان آخرها بنتكارلا
فيلم ، بذأ حياته الفنية بأفلام الفيديو ، لكنه سرعان ما إنتقل إلى الأفلام
الروائية المطولة ، كان أولها " عرس الآخرين " سنة 1990 ، لتستمر
المسيرة مع أفلام أخرى سنحاول من خلال هذا الحوار أن نستحضر بعضا منها ، مسائلين تجربته الفنية التي تعكس انشغالات
فكرية عميقة تحمل الكثير من الإبداع وتعبر عن حس فلسفي في معالجة قضايا ذات أبعاد
وجودية وعلائقية .
المخرج المغربي حسن بنجلون أثناء محاورته
- أستاذ ، يلاحظ من خلال الأفلام المتنوعة التي قمتم بإخراجها أن
هناك اهتماما ملحوظا بإشكالية الغير كذات مهمشة ومعنفة ومنسية ، ويستشف هذا الأمر
من خلال مجموعة أعمالكم بدءا بأول شريط سينمائي
˝عرس الآخرين˝ وصولا بآخرها ˝المنسيون˝ ... ، هل هذا الإهتمام بإشكالية
الغير محاولة لنفض الغبار عن هذه المواضيع التي يشكل جزء منها مسكوتا عنه أو منسيا ، أم أنها محاولة لنقد
الذات - الذات هنا بصيغة الجمع- انطلاقا من محاكمتها أمام الغير ؟
* أعتقد أنه لا يمكنني أن أعيش بدون الآخر ، ولا
أرى نفسي إلا في الآخر، ولا أسعد أو
أمرح إلا من خلاله ، إذن الآخر مهم لدرجة
يصبح مكونا من مكونات ذاتي ، لهذا أهتم بما يفعل وما يحدث له ، كما أنني أحاول أن
أمشي بموازاة مع هموم المجتمع المغربي وانشغالاته
، وفي هذا الإطار اهتممت بمشكلة المرأة وسنوات الرصاص والطبقية وغيرها من
المشاكل . واهتمامي بالآخر يأتي كإلتزام اجتماعي ، فمثلا أنا أرى أن مشكلة الهجرة لا تعنيني تداعياتها بشكل
مباشر لكن في نفس الوقت أجدني منخرطا في إشكالاتها بحكم ما عشته في الطفولة من
هجرة يهود مغاربة كانوا يجاوروننا
ويقاسموننا الحي ، بل إن الهجرة مسني تأثيرها قبل وجودي ، ذلك أن والدي هاجرا من
مدينة فاس باتجاه مدينة سطات ، ولك أن تتصور ما يمكن أن يحدثه كل هذا من تأثير في
نفسية الطفل ، من هذا المنطلق فهجرة الشباب السرية عبر قوارب الموت وما يرتبط بهذه
الظاهرة من إستغلال جنسي للفتيات وظلم - من طرف الآخر – يهمني جدا .
- لنخصص الكلام أكثر - لوسمحتم - ،وفي سياق الحديث عن الهجرة تميزت
معالجتكم السينمائية في شريط ˝فين ماشي يا موشي˝ بتوظيف تقنية الإستعادة من خلال
التذكر والحكي بالرجوع إلى أحدات تاريخية – منسية – من تاريخ المغرب المعاصر تهم
اليهود المغاربة الذين هاجروا أو هجروا إلى إسرائيل بعيد إستقلال المغرب ، لماذا
هذا الحفر في تاريخ المغرب ؟ هل هو محاولة ودعوة لإعادة كتابته أم لنقده وخلخلته ؟
*
الأمران معا ، - يصمت قليلا ثم يأخد نفسا عميقا ويواصل - أظن أن الشريط ليس
فيه فلاش باك ، باستثناء لقطتين بموجبهما
يستعيد موشي بعض اللحظات المؤثرة مع إبنته ، لكن المهم هو أننا حاولنا إعادة طرح
موضوع أعتبر من المواضيع المسكوت عنها سواء في السينما أو باقي الأنماط الفكرية
الأخرى ، فأهمية الشريط إذن تكمن في إثارته لأكبر هجرة عرفها تاريخ المغرب ، هجرة
أكثر من مائة وستة وخمسين ألف يهودي مغربي إلى إسرائيل ، وفضح تواطؤ الحكومة
المغربية انذاك التي سهلت عملية تهجيرهم . وقد بينت في الجواب السابق كيف مستني
الهجرة وشكلت شرخا في ذاكرتي ، ذلك أنه
كان يقطن بمدينة سطات حوالي خمسة ألاف
يهودي من إجمالي الساكنة الذي لم يكن يتعدى خمسا وعشرين ألف ، وفي لحظة ما وفي
غفلة من الزمن لم يعودوا موجودين ، ففقدت في غيابهم الصديق والجوار وأشياء وأخرى .
- فيما يخص قضية المرأة خصصتم أكثر من شريط سينمائي لمعالجتها ،
نذكر على سبيل المثال ˝شفاه الصمت˝ ˝محاكمة إمرأة ˝، وقد صرحتم في أحد الحوارات
السابقة لإحدى الجرائد الوطنية أن السينما تسبق المجتمع
في معالجة قضية المرأة ، هل لكم أن تبينوا أين يكمن هذا السبق ؟ وما الذي يمكن أن
تضفيه المعالجة السينمائية للنقاش الدائر حول حقوق المرأة العربية عموما والمغربية
خصوصا ؟
* أظن
أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتطور إذا كان نصفه الآخر معاقا ومحروما من حقوقه ، ولا
يمكن أيضا أن يتقدم إذا لم تكن كل طاقاته
مفعلة ، لهذا فأنا جد مقتنع أن لا أحد يستطيع أن يعيش دون إمرأة قد تكون بمثابة الأم أو الأخت أو
الصديقة ...لكن أمام هذه ˝الحكرة ˝في المعاملات الإجتماعية والقانونية كان لابد لي من موقف ، وقد عكسته عبر مجموعة من
الأعمال السينمائية سواء التي قمت بإخراجها كتلك التي أشرت إليها أو التي ساهمت في
إنتاجها مثل شريط ˝قصة وردة˝ للمخرج عبد المجيد الرشيش ، بل أكثر من هذا يمكن
القول أن الأمر دخل في إطار حملة ثقافية ساهم فيها مخرجون آخرون كسعد الشرايبي
وحكيم نوري ، وامتدت في مجالات فكرية أخرى
مثلا مع سمية جسوس وفاطمة المرنيسي ...وقد كنت جزءا من هذه المسيرة أو الإنتفاضة
التي تجسدت أيضا عبر إرادة سياسية حيث
أتذكر أن أول خطاب كان للملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش كان منصبا حول هذا
الموضوع ، وقد توجت كل هذه المجهودات
بإخراج مدونة الأسرة إلى الوجود .
- تعتبر الصورة لغة العصر وسرا من أسرار الواقع بتداعياته
الإجتماعية والسياسية والثقافية ، كيف يمكن أن نجعل من الصورة السينمائية وسيلة
لخلخلة وتكسير الطابوهات داخل المجتمع وآلية من آليات تحديثه ؟
* إن
إستهلاك الصورة أصبح يأتي مباشرة بعد إستهلاك الخبز ، وهناك إحصاءات تؤكد أن
الإنسان الفرد يستهلك ما يقارب سبع ساعات من الصورة في اليوم الواحد ، سواء عبر
التلفزيون أو السينما أو غيرها من
المجالات التي توظف الصورة في خطابها، ونظرا لأهمية الصورة فقد أصبحت الدولة
تستشعر مؤخرا قيمتها وتحاول إستثمار فوائدها في تدجين الأفراد، ومن هنا يظهر الوجه
الآخر للصورة حيث يمكن للدولة أن تستغل الصورة لفرض ايديولوجيتها لفرض هيمنتها على
المستهلك، لهذا فهي لازالت "مشاغبة" في منح تصاريح لإخراج قنوات حرة ،
لأنها تنظر إلى الأمر بعين المتوجس والحذر ، لكن أمام تزايد الإنفتاح الإعلامي
بوجود قنوات فضائية فأعتقد أن هناك حرية في المشاهدة ، وهذا هو الذي غير العقليات
والحياة الآنية في المغرب .
- أثرتم في فيلمكم الأخير ˝المنسيون أو منسيو التاريخ˝ إشكالية
الهجرة في علاقتها بمافيا إستغلال هذه الظاهرة ، ومسألة الهجرة متعددة الأبعاد ،
يتداخل فيها الإجتماعي بالسياسي والثقافي ، ما الرسالة الفكرية التي يتضمنها
الشريط ؟
*
الرسالة التي يتضمنها الشريط تكمن في
محاولة فضح ذلك التزوير والتدليس الذي يكتنف معطيات فوائد الهجرة ، فباعتباري
مسؤولا ثقافيا أمتلك فرصة للتعبير لا يمكنني أن أصمت عن هذا التزوير ، لأن المواطن
عموما يرى في الهجرة ذلك الحلم الجميل ، لكن الحقيقة أن هناك مأساة ولا أحد يلتزم
بقولها ، فحاولت إعطاء الأسباب الحقيقية للهجرة – ولو بشكل بسيط – مبينا كيف يعيش
المهاجرون فيما بينهم ، وكيف يتضامنون
فيما بينهم لمواجهة مافيا الإستغلال التي قد توظفهم في شبكات الدعارة أو تستغل عدم
توفرهم على تصاريح الإقامة لكي تحرمهم من
حقوقهم في العمل ...إن الرسالة باختصار موجهة إلى كل من يحلم بالهجرة ، إذ يتوجب
عليه أن يفكر ألف مرة قبل أن يتخد قرار الهجرة ، وعلى الرغم من اهمية الرسالة فقد
تم تمريرها بشكل لطيف .
ذ. حسن بنجلون يتقدم" بلاطو" التصوير
- لكن هناك من وصف الشريط بأنه يحمل جرأة في عرض بعض المشاهد
الدرامية ؟
* صحيح ،
لكن مقارنة مع ألم ومرارة الموضوع فما
عرضته لا يعتد به ولا يمثل إلا الشيء اليسير مما يمكن الإشارة إليه ، فالظاهرة
أكبر من أن نختزلها في شريط سينمائي .
-إرتبط الحديث عن السينما المغربية لسنوات طويلة بخطاب الأزمة ، هل
الكم الحاصل في إنتاج السينما المغربية – حوالي 30 شريط في السنة – يعكس تطورا في
عملية الإبداع السنمائي كتابة وإخراجا وتقنية أم مازالت هناك إكراهات تعترض نموها
وتحد من تطورها ؟
* أعتقد أن الرقم لا يتجاوز خمسة عشر شريط سينمائي مطول ، لكن إذا
كنت تقصد الأشرطة القصيرة أيضا فأتفق مع الرقم الذي أشرت إليه.
- نعم هذا ما قصدته .
* كيفما كان الأمر فقد بينت سابقا أن وراء الصورة توجد إرادة سياسية لإستثمار
فوائدها ، هذه الإرادة التي تعمل على تشجيع الإنتاج السينمائي ، وأعتقد أن سياسة
المركز السينمائي تسير في هذا الإتجاه . غير أنه ما يلاحظ أن هذا الدعم لا يفرز
دائما أفلاما جيدة ، لهذا يجب أن نكون حذرين تجاه هذا الكم الحاصل في الإنتاج
السينمائي ، إذ على الرغم من ضعف الحصيلة السينمائية كما في سنوات الستينات
والسبعينات وضعف الوسائل التقنية والإمكانات المادية فقد كانت هناك أفلام جيدة وقعت ببصمة مخرجين
يحبون السينما ويقدرون رسالتها .
- هناك من يرى أن التجربة السينمائية لحسن بنجلون مغرقة في واقعيتها ، مما يجعل معالجتها
السينمائية مباشرة ، ألا ترى أن هذا الأمر بقدر ما يمكن أن يشكل نقطة ايجابية يحمل
بين طياته مظاهر سلبية ، بتعبير آخر ألا ترى
أن الإلتصاق بالواقع يكون على حساب الجانب الإبداعي والرمزي والجمالي ؟
* أظن أن
العمل في السينما هو نوع من الترف الفكري ، وأنا أعتبر نفسي محظوظا لقدرتي على
ممارسة ذلك ، لكنه من جهة ثانية رفه محكوم أو مشروط بالتزام إجتماعي وإنساني ،
لهذا لا يسمح لي بأن أن أستغل هذا الإمتياز في
أعمال لا يحس بها المتلقي ولا تستجيب لبعض حاجاته ، وفي مقدمتها التعبير عن
همومه وانشغالاته ، لكن من جهة ثالثة في هذا الإنخراط إبداع ورموز وجماليات ، ذلك
أن كل معالجة سينمائية للواقع لا يمكن أن تتم بدون ذلك الإبداع الذي يسهل عملية
وصول الرسالة التي يتضمنها العمل السينمائي ، من هذا المنطلق لا زلت أرى ضرورة أن
تكون أفلامنا مفيدة خاصة ونحن في مرحلة تحديث المجتمع ، ولا يمكن أن أتصور نفسي
أنجز أفلاما حالمة لا تستجيب لمتطلبات المتلقي ، ربما يستطيع آخرون إنجاز ذلك ...
- ما الذي يحدد خصوصية السينما المغربية ؟ وما منزلتها من الإبداع
الفني مقارنة بالسينما العربية والإفريقية ؟
* إن ما
يحدد خصوصية السينما المغربية هو تنوعها ، فالأفلام المغربية متنوعة ، إذ رغم استعمالها
للغة طبيعية واحدة ، فإن مواضيعها مختلفة وتقنياتها متعددة حتى لا يمكن القول أنها
صادرة عن مدرسة واحدة أو اتجاه سينمائي ما ، إنها ببساطة متنوعة، وفي هذا التنوع
تجد غناها .
أشكرك أستاذ على ما تفضلت به من إجابات، متمنيا لكم المزيد من
التألق على درب الإبداع الفني الهادف ..
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية