سالم يفوت، الأستاذ الطبيب و قصة "مقدمة الطبعة الثانية" من كتاب "نقد العقل الخالص" لكانط.


شهادة طالب


بقلم: سعيد توبير


ان من أغرب المفارقات و اعقدها على الفهم، هو كيف ان المشيئة الإلهية تأخذ أستاذا من عيار المعدن النفيس، الأستاذ اللطيف المجد، والذي غالبا ما كان يمثل لمفارقة "أزمة الأسس في الرياضيات" في نظرية المجموعات، من خلال صورة إقليم ورزازات الذي يجمع ما بين صحراء الرمال الذهبية وثلوج أعالي جبالها. إنها مأساة إن يتركنا ذلك الرجل الطيب بعزة نفسه و شموخها، و الحنون على طلبته من جهة تجرعه لمعاناة البحت العلمي و الاجتهاد في صمت و احترام، و إحساسه المرهف كأستاذ طبيب، عارف بحاجيات كل طالب و كاشف لهمه الفكري أو الفلسفي، ناهيك عن بنيته الرياضية و صوته المجلجل داخل الفصل، أن يرحل عنا في صمت رهيب. أليست مفارقة ان يرحل المثقف البارع، في تطبيق مكتسبات العلم الحديث في تناول قضايا التراث العلمي و المعرفي العربي الإسلامي.  ليترك أشباه أساتذة الفلسفة، الذين لم يتوانوا عن قطع رؤوس الطلبة و الباحثين، الذين تتلمذوا على يد الراحل كتحف بشرية نفيسة في معابد وكنائس البحوث و الاطاريح. و لذلك تيقنا بعدما خبرنا تجربة الإقصاء و الإيذاء في هاته الشعبة العظيمة بالرباط، ان اكبر المتربصين بالفلسفة و انتشارها في المغرب هم أساتذة من نفس الشعبة. أي أولئك الذين لم يكن لهم مشروع علمي أو قدرات جامعية و أكاديمية تسمح لهم بالتميز و الإشعاع العلمي و الجامعي، اللهم التهليل ببعض مفاهيم الشكية الريبية أو الحداثية أو قضايا القومجية العربية او الانتشار المهول للجذبة الباشلارية، دونما أي عمق علمي رصين أو فلسفي مكين. و لذلك نعتبر ان رحيل الأستاذ سالم يفوت هو بمثابة الشرارة التي سوف تقدح ضرورة إجراء تحليل نفسي دقيق لتاريخ الشعبة من طرف الأجيال الصاعدة. و نذكر بالخصوص طالبه المتميز "محمد الشيخ" الذي أنجز معه بحت الإجازة في "المثقف و السلطة" و عبد ربه الذي انجز تحت إشرافه بحت الإجازة في موضوع "نظرية المعرفة عند كانط" و تقييم أداء أساتذتها، لاسيما الذين عاتوا في الأرض فسادا و عبثا بعقول ابناء الشعب المغربي تماشيا مع ما جاء على لسان "بارسيفال" في دراما فاجنر المشهورة ( ان اليد التي تسبب الجرح هي التي تداويه). و ما بعض الأحداث التي عاشها بعض طلبة الشعبة لاسباب نفسية أو إيديولوجية أو مزاجية زمن نهاية الثمانينات و ومجوع سنوات التسعينات لدليل على جرائم بعضهم في حق بعض الطاقات التي اكتشفها سالم يافوت، كأستاذ طبيب و التي سوف نكشفها في المستقبل القريب. انه الأستاذ الطبيب  رحمه الله،  يعرف أوجاع طلبته و معاناتهم ليقترح عليهم الكتب الشافية، و لن أزايد على الرجل من جهة عصاميته في انشاء صرحه العلمي و الفلسفي دونما الارتهان الى مجهودات الطلبة، و عرق جبينهم البحثي، الذي كان يقتات منه أشباه أساتذة الفلسفة، وعليه يكون المغرب قد افتقد بذلك باحثا أكاديميا عتيدا في مجال البحث الفلسفي في المغرب.
و الحال، إن سالم يفوت لم يمت بل ترك طلبة نجباء، و باحثين شجعان، يتوفرون بالقوة على بذرة العطاء و الاستمرار في إشاعة الفكر الفلسفي بالمغرب، و اتمام رسالة الانفتاح على مكتسبات العلم الحديث المنهجية و الابيستيمولوجية. إذ لا يمكن لطلبته أن يتنكروا لتكوينه لهم و فتحه لآفاق بحوثهم و اهتماماتهم بقضايا تهم تاريخ العلم الغربي و العربي الإسلامي على السواء و الترجمة و البحث في التراث بشكل جيد. ذلك أن الرجال العظام يعرفون بخصومهم العلميين، و ليس بالاستقواء على طلبتهم المساكين و المحتاجين علميا و منهجيا. لقد انتقد الرجل كلود ليفي سترواس من خلال نزعته العلمية الاختبارية في الانثربولوجية البنيوية بطريقة علمية و منهجية لا غبار عليها، كما انه لم يرحم غاستون باشلار في فلسفة النفي، و مشروعه القائل بالبحت عن فلسفة مطابقة للعلم من خلال نقده للمسكوت عنه من جهة التستر على الايديولوجي و السياسي في نظرية العلم. ليعبر سالم يفوت من خلال مؤلفه" العقلانية المعاصرة مابين النقد و الحقيقة" عن ما مفاده" لقد وعدنا بفلسفة مطابقة للعلم و لكنه جاءنا بفلسفة لا هذا و لا ذاك، مستغلا للجدل الهيجلي دون ان يصرح به، كما لم يفته نقده الدقيق لتصور أوجست كونط لمراحل التطور العلمي( اللاهوتي، الميتافزيقي و العلمي) لانه في نظره لم يحلل عناصر الانتقال من مرحلة إلى أخرى كما انه لم يدقق او يفصل في بعض المسائل او القضايا التي تعلل الانتقال او التطور.  كما لم يفته الانفتاح على التصور الانكلوساكسوني لنظرية العلم من خلال تدريسه لكتاب "بنية الانقلابات العلمية" لطوماس كوهن، و التي استفدنا من خلاله بالتخصيص علاقة الثورة العلمية بالثورة السياسية.
يعود أصل الاهتمام بكانط، إلى ذلك اللقاء الجامعي و التاريخي بدروس الاستاذ سالم يفوت، "تاريخ و ابيستمولوجية الرياضيات" و ذلك في إطار السنة الثانية من تخصص الفلسفة العامة، بحر سنة1996 بكلية الاداب و العلوم الانسانية بالرباط. و أثناء التوقف عند استثمار كانط المعرفة الرياضية كأساس ابيستمولوجي يسند نسقه الفلسفي، وذلك من خلال دفاعه المستميت عن صورتي المكان و الزمان كشرطيين ماقبليين لامكانية قيام المعرفة. إذ بواسطتهما نستطيع البرهنة على ماقبلية الاحكام الماقبلية. و أثناء نهاية الحصة سألت استاذنا الذي كان يفتح قوسا للاسئلة نهاية الحصة و الشهود لا زالوا احياءا من الطلبة : فبعدما سلم معنا بتجاوز المركزية الاوربية سألته لماذا تفتقر فلسفتنا العربية الاسلامية، التي بلغت شأوا بعيدا في تصورات العمق الانطلوجي و التيولوجي من أن تتناول شروط المعرفة العقلية و النفسية في ابعادها السايكلوجية البسيطة. أي النظر في شروط الوعي الترنسندتالي ذو الصفات البسيطة و الكونية ؟ لقد كان الاستاذ الطبيب واقفا، ليجلس مجيبا : لقد اشتغلت على أعمال ابن حزم و لم أجد عنده مثل هاته الأشياء، بعدها جمع حقيبته الحمراء التقليدية بطريقة منزعجة، ليتجه خارج الفصل وكل قسمات و جهه  تدل على عدم الرضى و التوثر. و الواقع أني كنت أجهل طبيعة أعماله باستثناء "فلسفة العلم المعاصرة و مفهومها للواقع " لم اكن اعرف ان الجابري فرض عليه الاشتغال في الدكتوراه على ابن حزم في الفلسفة المغربية بعدما كان يريد الاشتغال حسب صديقه الرائع الاستاذ عبد السلام بن عبد العالي على رياضيات جان كافاييس. بعد هذه الحادثة شعرت بنوع من الحماسة، لا للعودة إلى النص التراثي و إنما إلى مواجهة النص الفلسفي والعلمي الكانطي المؤسس للحداثة الغربية. و في سياق محاولة فهم سبب توثر الأستاذ سالم يفوت، قررت أن يكون الجواب هو الشروع الجدي في استكشاف فلسفة كانط، في الوقت الذي كان فيه طلبة شعبة الفلسفة، يقبلون بشكل فظيع على الفكر الاسلامي و البحت فيه باللغة العربية، دون تجشم عناء الترجمة وشبح اللغات الاجنبية.
لقد شاءت الصدفة و الضرورة، ان نصادف  كتاب كانط "نقد العقل الخالص"  من منشورات الصحافة الجامعية الفرنسية لسنة 1968 في مكتبة الحي الجامعي السوسي الاول بالرباط . بعد اخراجه من المكتبة و محاولة قراءته لمدة أسبوع، لم أعرف من أين أبدأ أو أنتهي، أضف الى ذلك اللغة الفرنسية و غرابة المصطلح الكانطي، و مثانة الكتاب من جهة الفصول و كثرة الاقسام. فما كان مني إلا أن حملته معي في حصة الدكتور سالم يفوت، إذ أخرجت كتاب "نقد العقل الخالص" طارحا إياه فوق مكتبه،  فابتسم الرجل ليقول: ما ذا هناك ؟ فأجبته : لقد حاولت يا أستاذي أن أستفيد من هذا الكتاب، الذي له علاقة وطيدة بموضوع المقرر الدراسي، لكن لا أعرف كيف يمكن أن تتحقق الاستفادة ؟ و أنا لا أفهم أي شيء أثناء القراءة، و لا أستطيع تذكر أي شيء بعد القراءة ؟ فقال لي : إن كانط صعب و مهم جدا في الفلسفة، و عليه ستقرأ مقدمة الطبعة الثانية لسنة 1778 ل "نقد العقل الخالص". في الحصة التالية قدمت له نسخة، ليحملها أمام الطلبة داخل الفصل داعيا إيانا، إلى قراءتها و حفظها عن ظهر قلب و محاولة ترجمتها بعد ذلك  و العودة إليها فيما بعد، لأنها تيسر فهم فلسفة هيجل و المثالية الالمانية بشكل عام. ومنذ تلك اللحظة توجهنا، بما سماه كانط سير العلم الواثق أو الطريق الملكي، إلى هاته المقدمة الرائعة التي تحمل بين ثناياها "أوبرا" فصل المقال فيما بين العلم و الميتافيريقا من الاتصال،  أي كل ما يهم أشكال و مضامين فكرة الهندسة المعمارية التي تحكم  "نقد العقل الخاص" . ففي هاته المقدمة البديعة و المنقطعة النظير نجد أن كانط لا يدخر جهدا للنيل من الميتافيزيقا التقليدية، و اسما إياها بضعف مفاهيمها و تجاوزها لحدود التجربة، و تهافت ممثيليها، ليفتح فيما بعد طريقا جديدا للميتافيزيقا. منذ ذلك الحين ازداد تشبتنا بهاته الفلسفة النقدية، و التي تحتاج إلى تكريس كل العمر للنبش في سراديبها و مثاهاتها . ذلك أن ثلاتية نقدية تحتاج بالفعل إلى إرادة تاريخية لأمة تريد أن تمتلك([1]) إمبراطورية الفلسفة . وفي نفس السنة سمحت لنا مادة  "سوسيولوجية العالم العربي" التي كان يلقي دروسها الدكتور محمد عياد أن نلتقي بدرس العروي فيما يخص " المضمون القومي للثقافة " و الذي من خلاله تم ربط الفلسفة بالتاريخ و الثقافة. فما كان يسمى " بالمثالية الألمانية " و التي كانت توجهها خطابات فيخته إلى الأمة الآلمانية، و التي أقل ما نقول عنها أنها أنوار ألمانية خالصة تنتقد الثقافة الفرنسية أثناء تحولها من شعارات إنسانية جوفاء إلى آلة تدميرية تكرس انتهاك سيادة الأمم و الغزو الثقافي . و الواقع أن المغربي الناشىء لا يمكن له أن يتفلسف دون انهمام  فلسفي و وطني أو قومي . بحيث أن الاستعمار الفرنسي لم ينته بشكل نهائي في مغربنا المعاصر _ بل لا زال حاضرا في اللغة و الأدب و الإدارة و في السلوك التواصلي و التراتبية الاجتماعية و الثقافية . وعليه شكلت وضعية ألمانيا القرن التاسع عشر   الثقافية و الفلسفية شرط التجاوز و مواجهة الآخر المختلف ، الذي لا يرغب في الحوار  و إنما في الهيمنة و الإإخضاع . إنها تجربة الوعي القومي المأزوم الذي تجشم عبء حل مشكلاته : المعرفية ، الثقافية و السياسية بالدروس الفلسفية . لقد شكلت([2]) سنة 1807 محطة رئيسة في تاريخ الأمة الألمانية عندما طلب وزير التربية _فون زيدليست _ من هيجل ،فيخته ، شلينغ و هامبدولت بلورة تصورات فلسفية و علمية حول الجامعة. لنعتبر فيما بعد أن مؤسس الحداثة هو إيمانويل كانط،  و هو الذي يستحق الاهتمام الأكبر باعتباره الشلال الفلسفي الخصب، الذي قال بصصده سالم يفوت على لسان جوتفرين مارتن  شلال يغذيه رافدان : ( العلم الحديث و الانطلوجيا التقليدية".
أما في السنة الرابعة فقد قررت أن أنجز بحت الاجازة مع الدكتور سالم يافوت في موضوع " كانط : نظرية المعرفة" التي تهم أولا سؤال : ماذا أعرف ؟ الذي يتناول الدراسة و التحليل خريطة تأسيس نظرية المعرفة لانقاد العقل من هجومات الشكية التجربية {هيوم } . و الواقع أن صعوبات جمة قد اعترصتنا لا سيما غياب ترجمات عربية جيدة لنقد العقل الخالص . كما أن الأستاذ المشرف كان يهون علي بالدعوة إلى الصبر مع الترجمة الفرنسية. هكذا انتهت السنة الدراسية بإنجاز بحت أولي حول موقفه من السؤال الأول : ماذا أعرف ؟ و الواقع هو أن التيه الفلسفي لم يحتد من جهة الانهمام  بدروب الغابة الكانطية إلا مع  الالتقاء بمقال مكثف و مختزل " مقدمات لكل ميتافيزيقا مستقبلية" التي تريد أن تقدم نفسها على شاكلة العلم1783 ( منشورات لابلياد )، و التي يقول بصدده كانط : إن هدف الكتاب هو عرض خاص بالنسبة للاساتذة فقط و ليس للتلاميذ، و أن السؤال الرئيس هو كالتالي : كيف يمكن للميتافيزيقا أن تصير علما ؟ إن الميتافيزيقا التي تدعي نفسها  "علما " . إنها لا تتقدم بينما العلوم الاخرى قد حققت تقدما و نموا هائلين. وعليه فإن هدف كانط لم يكن الهدم الشامل للميتافيزيقا و إنما تحديد الشروط التي تسمح بإمكانية أن تصير علما. فمادام العقل الانساني لا يستطيع أن يتخلى عن حق بناء علم ما. و عليه فإن الأمر يهم التهييء _لولادة جديدة _ للميتافيزيقا . هكذا لم تعد نظرية المعرفة قادرة على الإيفاء بنقد العقل الخالص. حاولنا مرة بعد الاجازة البحت عن منحة لإتمام الدراسة في ألمانيا في إطار منح المكتب الألماني للتبادل الثقافي و التربوي DAD . لكن الحظ العاثر لم يسعفنا في تحقيق هاته الأمنية للتخصص في فلسفة كانط، سجلت نفسي في و حدة " تاريخ الابستملوجيا  و الفلسفة " بعد اجتياز اختبارات الدخول التي قبلت فيها، لم استطع المواكبة بشكل جيد في غياب منحة جامعية، ناهيك عن مشكل السكن في الرباط و التي لم تسعفني بشكل جيد في إتمام دراستي من جهة. و مع ذلك كنا نحارب الزمن و نقهر الظروف إلا هناك أشياء غريبة تجري في دهاليز الشعبة لإقبار أي مشروع باحث متميز. ومعلوم أن الدكتور سالم يفوت قد كان سباقا في اكتشاف المواهب الفلسفية و صقلها بالشكل الجيد، بيد أن هناك أساتذة في نفس الوحدة كانوا يكرهون بشكل متحيز كل باحت متحمس، يهتم بفلسفة كانط. لا أعرف لماذا كان يستاء البعض من فلسفة كانط ؟ وأقصد سايكلوجية ممثل التجربية الانجليزية و المنطق التجربي او صاحب موضة الحداثة، بالرغم من اننا ناقشنا "امكانية تأسيس الميتافيزيقا" في حضور الاستاذ عبد العالي في وحدة " الحداثة و حقوق الانسان"، ليكون  النصيب هو قتل فلسفة كانط في قلوبنا، لانهم لم يتحملوا وجود نقديته في صدورنا وقتل طموح و مجهودات الدكتور سالم يفوت في تكوين الأجيال الصاعدة. فلماذا يقهر باحت في كانط بالرغم من أن الدراسات حوله ضئيلة جدا في مراجع و بحوت الشعبة؟ و بتعبير آخر هل اقدروا الشباب المغربي على التفلسف؟ و ماذا قدموا للمغرب كقيمة فلسفية مضافة؟ فليرتح أستاذنا  الطبيب في قبره ما دام هناك من الطلبة و الباحثين، غير الناكرين للجميل، يحملون مشعل التنوير و الثقافة العقلانية في جامعة مغربية تحتاج إلى المزيد من الحرية و الانفتاح و المسؤولية التاريخية.



[1] VOIR :  In R. Klibansky et J. Boulab-Ayoub (Dir.), La pensée philosophique d’expression française au Canada. Le rayonnement du Québec, Québec: Presses de l’Université Laval, 1998, 207-229.
Les débuts de la philosophie allemande au Canada français:
Contexte et raisons
[2] [2] VOIR LUC FERRY_    : _    hilosophies de l’université _l Idealisme allemand et la quéstion de l’université- paris ;payot. 1979

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس