بأي وجه تتعامل بعض قبائل جبالة مع الموت؟





بقلم: العشري العربي



إن لكل إنسان نقطة بدايته التي تتحدد مبدئيا بزمن ولادته، لكن في ذات الوقت لكل انطلاقة مدشنة للحياة نهاية تتجسد في موت تشل فيه كل نقط الوجود والحضور في المكان والزمان.
فكل المجتمعات تعرف أن لأبنائها نهاية محسومة، وأن الموت هو رحيل تدريجي للولادة، فللولادة طقس عند جميع المجتمعات، طبعا للموت أيضا طقوسه التي تختلف تلاوينه من مجتمع لآخر بحسب تدينه السائد وخلفياته الاجتماعية والثقافية التاريخية. بل يكاد الطقس يختلف بحسب نوعية المستهدف من الموت:أهل هو رجل، امرأة، طفل، شاب، قتيل، شيخ هرم... الخ. فاستقراء بعض القبائل المغربية وتتبع حذافير طقوسها يوضح الاختلاف الذي نتحدث عنه. لذلك، سوف أصب تحليلي على قبيلة جبلية تدعى قبيلة "بني مزكلدة " التابعة لعمالة وزان، لأتقاسم معكم كيف تشيد جنازة الشباب لقدر الله ودع أحدهم.
بعد أن يقع الحادث يهرع الكل بسرعة وببكاء وبحسرة قاتمة خاصة في صف النساء إلى دار الفقيد، يصرخن بطعم عدم تصديق فكرة الرحيل، واندهاش من اغتيالات القدر، في ظل هذه الأثناء تتكفل زمرة بالذهاب إلى المسجد قصد تأكيد الخبر وإعلانه عبر مكبر صوت المسجد"البوق". على أن بعض النساء تقمن بالطهي (الملوي، الحرشة، الخبز، الشاي..) بشكل تضامني يعبر فيه عن التكافل الضارب بجذوره في التاريخ المحلي لهذه الجهة، فبعض النساء تدلك العجين والأخريات يمددنه، وأخريات ينصبونه للطهي، و بعد الطهي تتكلف فئة بترتيب وتجميع ما تم طهيه قبل أن ينقل إلى ساحة المسجد ليأكله الرجال بعد عمل جماعي لهم..
يتمثل عمل الرجال في إحضار بعضا من الفؤوس ولوازم حفر القبر، فيقومون بحفر القبر بإكرام وتفنن في صناعته، وهذه المهمة ليست لمن هب ودب، بل هي لأناس متمكنين من هذه الصناعة، فالأمر لا يرتبط بحفرة ساترة لجسد فقد صلاحيته، بل هو منزل يخضع لمقاييس ومعايير تستلزم براعة ومهارة لا يستهان بها، وكل ذلك بدون أي مقابل مادي صريح، بل هو من باب التعاون والتكافل المتكامل الذي أضحى يمثل واجبا قبليا بامتياز لا يمكن تفويته عبر الزمن. في الجانب الآخر مجموعات أخرى تتكلف بجلب الماء إلى "الروضة" وعملية جلب الماء هذه تسمى بالمفهوم السائد عند أهل القبيلة ب"السقي". في ذات الوقت تتكلف مجموعة أخرى بجلب لوحات من اللحد الذي يوضع فوق الحفرة مباشرة ليحجز حبيبات التراب من الانسياب على جثة الميت وهو في قبره.
بعيد الانتهاء من هذا، في جو مهيب تم استغلاله بتبادل الحديث عن"غدر الحياة الغرارة والزمان" و"قصر عمر الانسان" و"أن ليس الغريب غريب أهل  والأولاد... بل الغريب هو غريب اللحد والكفن.." تتم التوصيات على ضرورة الالتزام بالعمل الصالح والحرص على صفاء العلاقات الإنسانية مادامت "الخاوة حدودها الدنيا".يتم التوديع المؤجل لساحة القبر إلى المسجد، آآخذين 'المحمل' أو' المرفد' بلغة الساكنة إلى دار المكلوم الشاب في طقس محير ومهيب، لدرجة يصعب فيها التصديق بالقدر بالشكل الذي يصعب فيه نكران الحدث ،تلك هي الصورة الحقيقية للفظ الحيرة في هذا المقام.يصلون إلى المنزل يجدون "الفقيه"  انتهى من عمله المتمثل في "غسل الميت الشاب" على الطريقة الإسلامية، إنها المدخل الآمن للقاء الله في حالة طهر. خلية أخرى مشغولة بتجهيز "الكفن" وجعله لباسا مناسبا نهائي لصاحبه، بعدما قامت فئة أخرى بجلبه بسرعة من بيت أحد التجار القاطنين بأحد الدواوير المجاورة.
إن ما يثير الاندهاش ،وأساس ما يميز خصوصية الشاب العازب هو تطوع فتاة عازبة بمضغ " السواك" وحكه على شفتي الفقيد، والدلالة الرمزية وراء هذا الفعل هو الإقرار بعذرية الشاب ومفارقته الحياة قبل زواجه. في هذه اللحظة يشتعل المكان بزغاريد تتعالى أصداؤها وتلوح في الأفق البعيد، على إثر هذه الإيقاعات يتم الإسراع بالميت ليس عبر وسيلة نقل الموتى، لا وجود لهذه الواسطة في قاموس القبيلة، بل على أكتاف فاعلي الخير سيرا على الأقدام لمسافات مهمة وبخطوات متسارعة. يتم وضعه في قبره وردم التراب عليه مع قراءة ما تيسر من القرآن والدعاء له بالمغفرة والجنة.
يتوجه الرجال إلى المسجد ليأكلوا ما قامت النساء بتحضيره للرجال مسرعات، والهدف طبعا له بعدين إثنين:الأول صدقة لأهل الفقيد تجمع بعضا من الحسنات، بينما الثاني تعبئة بطون أصحابها بعدما أفرغت بسبب كثرة الحركة والقيام بالمجهودات العضلية، إنها أيضا مناسبة لإشباع بطون الفقراء والمحتاجين وهذا هو عمق التكافل والتساند الاجتماعي.
يخصص الليل لحفظة القرآن الذين يجتمعون في هذه المناسبات يحيون الليلة بالقرآن والأمداح النبوية، وتخصيص فترة للدعاء بمقابل رمزي قدره عشرة  دراهم لمن أراد "هز الفاتحة" لوالديه وعائلته. فقط وكإشارة فإن فعل التعزية يستلزم ضرورة جلب السكر كبديهية فارضة سلطتها في " الضمير الجمعي لأهل القبيلة " بمفهوم إميل دوركهايم.
نستنتج أن لقبائل جبالة " ضميرها الجمعي" الخاص بها الذي يؤطر طقوسها وتصرفاتها، ويعطيها معناها وقيمتها الأنطولوجية. فلحسن الحظ أن هذا الضمير مليء بأبعاد إنسانية وقيم باتت مفتقدة عند أمم كثيرة في وقت باتت الحاجة إليها ماسة: كالتعاون والتكافل الاجتماعي الذي ينشط في مثل هذه الأحداث لتصبح القبيلة جسد منتظما واحدا متكاملا، إنها قيم تترعرع في مجتمعات لم تفسدها إغراءات الحضارة التي تنفي البعد الاجتماعي للعلاقات في ظل التغني بمبدأ الذاتية..إن للإنسان تاريخ والتاريخ ليس كله عقيم متجاوز، بل فيه دروس وعبر وقيم يجب تكريسها ونشرها بكل اعتزاز وثقة، هذا حال قبائل جبالة التاريخية بكرمها، بتضامنها، بفعاليتها، بطاقاتها، وأمجادها..


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس