حوار الفلسفة والأسطورة داخل الكتاب المدرسي.






بقلم: الاعرج بوجمعة


الأسطورة هي مادة ثقافية من صنع الإنسان، وهي المصدر الأول والأقدم لجميع المعارف والخبرات الإنسانية، فهي نمط من التعبير عن الإنسان في مختلف مراحله البدائية والحديثة. فالأسطورة تاريخ مختلط يجمع بين الحقيقي والتعظيم الخيالي للأبطال التاريخيين، وهي كذلك حكاية نسجها الخيال عند أقوام خلدوا أحاديثهم في علاقة بنظرتهم إلى العالم، وفي جانب آخر منها يعتبر الأسطوري تأويلا لعلاقة الإنسان القديم بما هو طبيعي خفي. وهي تعبر عن حلم الإنسان الخارق صاحب المثالية والشرود الذهني. فظواهر الكون المتغيرة دفعت الإنسان إلى طرح السؤال وإلى نحث  أسلوب للتعامل مع هذه الظواهر؛ فمن بين هذه الأساليب الأسلوب الأسطوري، حيث كان يعتقد الإنسان القديم بأن عدم حصد محصول زراعي معين هو نتاج غضب إلهي، فظل يفكر كيف يكسب عطف وود هذه الآلهة فاكتشف صيغة يقدم لها القرابين والذبائح كانت هذه هي البداية في انتعاش الفكر الأسطوري بعد ما كان العالم كما يقول "هوزيود" يمشي من  الفوضى chaos إلى النظام.
  فهذه الدراسة التي نحن بصدد القيام بها تهدف إلى زواج شرعي بين الأسطورة والفلسفة، وإعادة الاعتبار للفكر الأسطوري ومنحه دوره الحقيقي، وتصحيح خطأ الدراسات التاريخية وليس الابيستمولوجية التي  كانت تهدف إلى قتل التفكير الأسطوري واستنبات  التفكير الفلسفي مكانه. وإنما نحن اليوم نود تصحيح هذا المسار بالإعلان عن الدور الإيجابي الذي يقوم به الفكر الأسطوري في تبليغ الدرس الفلسفي، وأن الغاية بينهما واحدة يهدفان إلى تقديم إجابات على الأسئلة المطروحة؛ سواء في قالب أسطوري كما فعل "أفلاطون" في أسطورة  الكهف أو كما فعل أستاذه "سقراط" في قالب فلسفي، عقلاني، حجاجي، فالغاية واحدة.
  إن المتفحص للكتاب المدرسي بمختلف أسلاكه (جذوع مشتركة ـ السنة الأولى ـ السنة الثانية)، يجد حضورا بارزا سواء في صيغة واضحة أو مضمرة للفكر الأسطوري، ودور هذا الأخير في بروز وظهور الفكر الفلسفي، على اعتبار هذا الأخير ظهر على أنقاض الفكر الأسطوري، كما ينظر إلى ذلك الكثير من مؤلفي الفلسفة الغربيين من أمثال "جون بيير فرنان" في كتابه: "الأسطورة والمجتمع في الإغريق القديمة". فالمتخصص في المجال الفلسفي يجد صعوبة في تبليغ وإيصال الفكر الفلسفي سواء إلى العامة أو إلى شريحة الطلاب؛ لأن الفكر الفلسفي فكر عقلاني، شمولي، تجريدي.. يتطلب قدرة على استعمال العقل والتجريد من العالم المحسوس. لذا من يقرأ أسطورة الكهف "لأفلاطون" (كتاب منار الفلسفة، ص 56)، يلاحظ أنها قصة مفتعلة وأن الغرض من تأليفها هو أن توجه إلى الجمهور لفهم المعنى الحقيقي للفلسفة، على اعتبار أن أفلاطون يميز بين عالمين: عالم محسوس Le monde sensible وهو عالم الظلال والتغير والشهوات والعيش على رغبات الجسد. في مقابل هذا العالم نجد العالم المعقول Le monde Intelligible عالم الحقيقة والعدالة والجمال والخير الأسمى وهو غاية الغايات كما يقول "أفلاطون". هذا الأخير عجز في تبليغ نسقه الفلسفي إلى الجمهور أو بالأحرى الفلاسفة، هنا فكر بجذ في الأسطورة فكانت هذه الأخيرة وافية للغرض ومن خلالها فهمنا فلسفة "أفلاطون" بل أكثر من ذلك لخصت في هذه الأسطورة.
  هذا بالنسبة "لأفلاطون" نقدم مثلا آخر من كتاب السنة الأولى محور الوعي واللاوعي، نجذ هنا "س.فرويد" بدوره عجز في تبليغ نسقه التحليلي إلى الجمهور وإفهامهم بأن هنالك طاقة خفية هي المسؤولة عن بعض سلوكاتنا وتصرفاتنا في الحياة اليومية، كان لهذا الاكتشاف؛ نقصد اكتشاف "قارة اللاشعور" حدث كبير إنضاف إلى الأحداث الكبرى التي عرفتها الإنسانية كحدث (كوبرنيك ـ وداروين ـ ماركس..) هذه الأحداث غيرت مجرى الإنسانية. فكان الإنسان قبل "فرويد" يعتقد إنه الكائن العاقل في هذا الوجود، لكن "فرويد" نزع النقاب عن هذه الحقيقة اللاحقيقية، بقول إن اللاشعور هو المتحكم في مختلف سلوكاتنا. هنا لجأ "فرويد" بدوره إلى الأسطورة وهي أسطورة الملك أوديب الذي قتل أباه وتزوج أمه، و بعد أن اكتشف الحقيقة فقأ عينيه وصار أعمى. هذه القصة التي رويت في قالب أسطوري ليست بالعفوية وإنما من أجل إبلاغ فلسفة اللاوعي "لفرويد"... تبين هذه المعطيات بأن داخل كل ذات صراع بين قوى ثلاث (الأنا الأعلى ـ الأنا ـ الهو)، فالأنا هنا في إشارة إلى الفرد (محمد ـ كترين...) والأنا الأعلى في إشارة إلى القيم الدينية والمجتمعية والضمير، أما الهو في إشارة إلى الغرائز والرغبات. "فرويد" تحدث عن مجموعة من المراحل التي يمر منها الإنسان، مبيننا أهمية المراحل الأولى في  حياة الفرد، وهذا ما يقصده بقوله: "الطفل أبو الرجل". في المرحلة القضيبية نتحدث عن عقدة أوديب وكذلك عن عقدة الخصاء، هنا ينشب صراع بين الطفل والأب حول الأم، نفس الشيء بالنسبة للبنت، هنا يتكون لدى الطفل ما يسمى في علم النفس التحليلي "بالتناقض الوجداني"؛ أي حب وكره في نفس الوقت للأب. في نفس السياق يشير Didier anzieu (د.أنزيو) من أصحاب مدرسة التحليل النفسي؛ إلى أن الأسطورة حكي لقصة متخيلة لها جانب من المصداقية داخل الوعي.
  يشير "محمد أركون" إلى أن الأسطورة بالمعنى الأنثروبولوجي الحديث للكلمة لم تعد تعني الخرافة، ولم تعد تعني شيئا سلبيا كما كان عليه الحال في السابق أثناء سيطرة العقلية العلموية أو الوضعية المتطرفة  في القرن التاسع عشر وحتى منتصف هذا القرن.. أصبحنا نستطيع أن نتحدث عن الأسطورة والوعي الأسطوري دون أن نخشى أن نتهم باللاعقلانية، أو الوقوع في فخ الغيبيات والخرافة والأوهام. فالأسطورة جزء و مكون من مكونات الوعي البشري، باختصار أصبح لكلمة أسطورة معنى آخر، فقد أصبحت تعني نمطا خصوصيا من أنماط التعبير عن الواقع ونوعا من التصور  والتحقق الروحي المشترك لدى جميع أشكال الوجود البشري العتيقة والتقليدية. صحيح أن الأسطورة تتعرض للتحولات عبر الثقافات والحضارات البشرية المختلفة، وعبر القرون أيضا، وتتخذ في كل عصر وفي كل مجتمع وجها خاصا، لكنها لا تموت أبدا. (م.أركون؛ نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ص631).
  شئنا أم أبينا فالأسطورة تروي البدايات، بداية الكون، بداية الإنسان، بداية شعب ومجتمع... فهي ترتب بالتالي الأحداث ترتيبا زمنيا. فقيمة الأسطورة تظهر بعمق في كتابات "شيكسبير" وأيضا "شيلنغ" و"هيغل" بعد أن قرروا أن مضمون الأسطورة هو مضمون الفلسفة المطلق، وأن الاختلاف يكمن فقط في مستوى الوعي والتعبير، إذ تستعمل الفلسفة المفهوم العقلي بينما تلجأ الأسطورة إلى التمثيل المجازي.  
  إذا كان "مصطفى الرزاز" (أستاذ في جامعة مصر) يقول "بأن الفن هو صفو الأسطورة، صانعها ومروجها ومطورها وحاميها في ذاكرة الناس عبر التاريخ؛ لأنه بطبيعته تحليقي ومتخط ومتمرد على الثوابت والقواعد". فإننا نقول بدورنا بأن الأسطورة هي صفو الفكر الفلسفي لأنها هي الضامنة لاستمرارية هذا الفكر ومتمردة على الثوابت والقواعد التي يرسمها الفكر نفسه؛ لأنها هي التي ساعدت في إحياء هذا النمط من التفكير العقلاني الحر وإيصاله إلى الجمهور. بل أكثر من ذلك عندما نقدم الفكر الفلسفي في قالب أسطوري يجد المتعلمين لذة ومتعة ينتج عنه نوع من الحس والإشباع. ففعل المتخصص الحقيقي في الفكر الفلسفي، فعل أسطوري؛ لأنه يستهدف اختراق حواجز الزمان والمكان والمنطق والعلم وصولا إلى عالم الميتافيزيقا والكيمياء محلقا في اللاوعي، مثله مثل "برومتيوس وأفلاطون وفرويد.." يجعل من الأسطورة سندا ومرجعا له في تبليغ التفكير الفلسفي. 
v    مصادر ومراجع:
§         كتاب منار الفلسفة الجذوع المشتركة، مطبعة النجاح 02 سطات: طبعة 2009.
§         كتاب في رحاب الفلسفة، السنة الأولى من سلك البكالوريا، مسلك العلوم، مكتبة السلام الجديدة، طبعة 2011.
§         عالم الفكر: الأسطورة، المجلد 40، العدد 04 أبريل ـ يونيو 2012.
§         عبد الله الهاشمي: "في مكاشفة الأسطوري" مطبعة مرزاق للطباعة ـ مكناس، الطبعة الأولى 2007.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس