إشكالية السلطة والحكم ج3

بقلم : يوسف عشي

الفكر السياسي في الفلسفة الحديثة
إشكالية السلطة والحكم
(نموذج: ماكيافيللي - روسو)
الجزء الثالث والأخير
إشكالية السلطة والحكم عند 
  جون جاك روسو 
      تمهيد:
لقد حاول جون جاك روسو من خلال مؤلفه "في العقد الاجتماعي" أن يبحث في إمكانية وجود قاعدة شرعية وأكيدة للإدارة في النظام المدني، وذلك بتناول البشر كما هم والقوانين كما يمكنها أن تكون. وهو بذلك يقرن بين ما يسمح به الحق بما تفرضه المصلحة، لئلا تفترق قط العدالة عن المنفعة.
" ولد الإنسان حرا، إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال" إنها جملة افتتح بها روسو كتابه، ولعلها أفلحت في إبراز عمق المعاناة التي سيسعى روسو خلال مؤلفه إلى وضع أو صياغة جواب حول إمكانية تفادي ما تضمنته، فبرغم فطرية حرية الإنسان فهو يجد نفسه دائما مكبلا بالأصفاد. وعلى ذلك النحو يتصور نفسه سيد الآخرين، وهو لا يعدو أن يكون أكثرهم عبودية.
لقد تساءل روسو كثيرا حول كيفية حصول هذا التغيير، وحول ما الذي يمكنه أن يجعله شرعيا.. وكنتيجة لهذه التساؤلات ستبرز لروسو إجابات عدة تصب في مجرى واحد اصطلح روسو على تسميته ب"العقد الاجتماعي" وفيما يلي سنحاول أن نتطرق لبعض هذه الإجابات:
          1) الحق والقوة: 
يقول روسو:" لو كنت لا أولي اعتبارا إلا للقوة لقلت: مادام أي شعب يكره على الطاعة، وأنه يطيع، فإنه يحسن صنعا. وما أن يستطيع  خلع نير الطاعة ثم يخلعه فعلا، فإنه يحسن صنعا أكثر. إذ يكون قد استعاد حريته بنفس الحق الذي سلبت منه به" إن الطاعة أمر مستحسن على اختلاف ظروفها، لكن روسو يتجه نحو تكريس مبدأ آخر، وهو الثورة وعدم الرضوخ. وإن كان يستحسن الطاعة، فهو يستحسن أكثر رفضها في حالة الإكراه. إن روسو حين يقر هذا المبدأ فذلك على افتراض أنه يزن الأمور بميزان القوة وحسب.
لكن روسو ليس من السذاجة أنه يقتصر على موازنة للأمور كهذه، بل هو يعتبر أن النظام الاجتماعي حق مقدس وهو بمثابة أساس لجميع الحقوق الأخرى، وهو حق لا يصدر بالضرورة عن الطبيعة. لأنه حق مبني على تعاقدات.
يقدم روسو مماثلة بين الأسرة والمجتمع السياسي، حيث يشكل الزعيم صورة الأب والشعب صورة الأولاد. ولما كانوا جميعهم مولودين متساويين وأحرارا فإنهم لا يتنازلون عن حريتهم إلا من أجل منفعتهم. والفرق كله هو أن الأب في الأسرة يدفعه حبه لأولاده إلى ما يبذله من عناية بهم، في حين أن شهوة القيادة، في الدولة، تقوم مقام هذا الحب الذي لا يكنه الزعيم لشعبه.
إن الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كافٍ من القوة، يقر جون جاك روسو بأنه ليكون دائما هو السيد فإن عليه أن يحول قوته إلى حق . والطاعة إلى واجب، ومن هنا يتساءل: إذا كانت القوة هي قدرة مادية، فأي أخلاقية يمكن أن تنتج عن آثارها؟ لأن الخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة، لا من أفعال الإرادة فإنه على الأكثر فعل يمليه الحرص. فبأي معنى يمكن أن يكون واجبا؟
يجيب روسو على تساؤله باعتبار أنه حين تكون القوة هي التي تصنع الحق، فإن المعلول يتغير بتغير العلة. فكل قوة جديدة تتغلب على الأولى ترث حقها، وهكذا.. وما إن نتمكن من خلع الطاعة بلا عقاب حتى يصبح بالإمكان فعل ذلك شرعا. وما دام الأقوى على حق دائما تصبح بغية المرء أن يعمل بحيث يكون هو الأقوى.
ويعود روسو ليتساءل مرة أخرى: ما قيمة حق يتلاشى بتلاشي القوة؟ فإذا وجبت الطاعة بالقوة فلا حاجة للطاعة بالواجب، وإذا لم يكره المرء على الطاعة فإنه لا يكون ملتزما بها.
وهكذا يخلص روسو إلى أن كلمة "حق" لا تضيف شيئا إلى القوة بل هي هنا لا تعني شيئا على الإطلاق.
         2) الميثاق الإجتماعي:
يفترض روسو بأن الناس، وقد وصلوا إلى الحد الذي تتغلب فيه العقبات التي تضر ببقائهم في حالة الطبيعة بمقاومتها، على القوى التي يستطيع كل فرد استعمالها من أجل استمراره في تلك الحالة. عندئذ لن يعود بإمكان تلك الحالة البدائية أن تدوم.
ولكن بالنظر إلى أن الأدوات الأولى في المحافظة على بقاء كل إنسان هي قوته وحريته، يتساءل روسو: كيف يقيد الإنسان قوته وحريته دون الإضرار بنفسه؟ ودون التهاون في أمر العنايات الواجبة عليه نحو نفسه؟ بمعنى أنه يجب"إيجاد شكل من الإتحاد يدافع ويحمي كل القوة المشتركة،يحمي كل مشارك وأمواله، وفي الوقت الذي يتحد  فيه كل فرد مع الجميع فهو لا يطيع إلا نفسه ويبقى حرا كما كان من قبل". وهذه هي المشكلة الأساسية عند روسو، وهي التي خصص مؤلفه "في العقد الاجتماعي" برمته ليتصدى لها.
ينطلق روسو في تنظيره للميثاق الاجتماعي من كون شروط هذا الميثاق محددة بطبيعة الفعل إلى درجة أن أدنى تعديل يجعلها باطلة، ولا أثر لها، بحيث أنها – وإن كانت ربما لم تذكر صراحة أبدا- تكون هي نفسها في كل مكان. وهي في كل مكان مُقَرَّة ومُعترف بها إلى أن يعود كل فرد - بعد أن تنتهك حرمة الميثاق الاجتماعي- إلى حقوقه الأولى، عندئذ يسترد حريته الطبيعية بفقده حريته التعاقدية التي تخلى لأجلها عن حريته الأولى.
وهذه الشروط يمكن اختصارها جميعا في شرط واحد، ألا وهو" التنازل الكامل من جانب كل مشارك عن جميع حقوقه للجماعة كلها" إذ بما أن كل شخص، بدءا، قدم نفسه بأكملها، وأن الحالة متساوية بالنسبة للجميع، وبالنظر إلى تساوي الحالة بالنسبة للجميع ، فلا مصلحة لأحد بأن يجعلها مكلفة للآخرين.
وحين يتم التنازل بلا تحفظ  فإن الإتحاد فضلا عن ذلك يكون أكمل ما يمكن أن يكون، ولا يبقى لأحد شيء يطالب به، يؤكد روسو أن كل واحد إذ يهب نفسه للجميع فهو لا يهب نفسه لأحد. ولما لم يكن ثمة من مشارك لا نحصل منه على الحق نفسه الذي نتخلى عنه من أنفسنا، فإننا نكسب ما يعادل كل ما فقدناه وأكثر من ذلك قوة للمحافظة على ما لدينا. يقول روسو:" إذا استبعدنا من الميثاق الاجتماعي ما ليس من جوهره سنجد أنه يتقلص إلى العبارات التالية"يسهم كل مشارك منا في المجتمع بشخصه وبكل قدرته تحت إدارة الإرادة العامة العليا، ونلتقي على شكل هيئة يشكل  كل عضو فيها جزء لا يتجزأ من الكل".
وبدلا من الشخص المفرد لكل متعاقد ينتج إذن عن هذا التعاقد الاجتماعي في الحال هيئة معنوية وجماعية مؤلفة من عدد من الأعضاء بقدر ما للجمعية من أصوات، وهي تستمد من هذا الفعل نفسه وحدتها المشتركة وحياتها وإرادتها.
3) الملكية:
         يعرف روسو الأمير أو الملك على أنه شخص طبيعي تتجمع السلطة في يده، وهو إنسان حقيقي له وحده الحق في استعمال هذه السلطة طبقا للقوانين. وعلى عكس الإدارات غير الملكية حيث يمثل كائن جماعي فردا، ففي الإدارة الملكية يمثل فرد كائنا جماعيا، حيث تكون الوحدة المعنوية التي تؤلف الأمير هي وحدة مادية في نفس الوقت، وتوجد فيها جميع الخصائص التي يجمعها القانون في الأخرى بجهد كبير مجتمعة بصورة طبيعية.
إن إرادة الشعب وإرادة الأمير وقوة الدولة العامة وقوة الحكومة الخاصة تستجيب كلها لباعث واحد، وجميع محركات الآلة تكون في اليد نفسها، وكل شيء يسير إلى الهدف نفسه، ولا وجود لحركات معارضة مطلقا يهدم بعضها بعضا.
يطرح روسو معادلة تفيد أنه إذا لم تكن هناك حكومة قط أكثر نشاطا، فليس هناك من حكومة قط للإرادة الخاصة فيها سلطة أوسع وتسيطر بسهولة أكثر على الإدارات الأخرى. ويشير روسو إلى أن كل شيء يسير كما ذكرنا آنفا إلى نفس الهدف، لكن الهدف ليس مطلقا هو هدف الهناء التام، ولا تنفك قوة الإرادة نفسها تتحول إلى إضرار بالدولة.
إن روسو يعتبر أن الملوك يطمحون إلى الحكم المطلق، برأيه لا أقل إذن من أن تكون وسيلتهم إلى ذلك استجداء حب الشعوب. وقد اعتبر روسو أن هذا المبدأ جميل جدا، بل وصحيح جدا من بعض الوجوه. إلا أنه اعتبره مثار للسخرية دائما. فما من شك لديه أن السلطة التي تأتي من حب الشعوب تكون أعظم، لكنها في نظره، عارضة ومشروطة، ولا يقنع بها الملوك أبدا فالملوك يريدون أن يكونوا" شريرين إذا راق لهم ذلك، دون التخلي عن السيادة" وعبثا يمكن أن ينصحهم واعظ سياسي أن قوة الشعب هي قوتهم، وأن مصلحتهم العظمى تظل في أن يكون الشعب مزدهرا. فإنهم يعلمون حق المعرفة أن هذا غير صحيح. إذ أن " أن مصلحتهم الشخصية هي أولا في أن يكون الشعب ضعيفا، بائسا، وأن لا يكون في وسعه أبدا مقاومتهم."
ويعترف روسو أنه على افتراض أن الرعايا خاضعون تمام الخضوع دائما فإن مصلحة الأمير قد تكون عندئذ في أن يكون الشعب قويا لكي تجعله هذه القوة - باعتبارها قوته – مرهوب الجانب لدى جيرانه. ولكن روسو يعود ليستدرك قائلا:" لما كانت هذه المصلحة ثانوية وتابعة وأن الافتراضين متعارضين، فإنه من الطبيعي أن يعطي الأمراء الأفضلية للمبدأ الذي يكون مباشرة أكثر فائدة لهم" وهذا  ما عمل على توضيحه ماكيافيللي بشكل واضح. يقول روسو" إنه(يقصد ماكيافيللي) إذ تظاهر بتقديم دروس للملوك قد ألقى على الشعوب دروسا عظيمة. إن كتاب "الأمير" لماكيافيللي، هو كتاب الجمهوريين."
يعتبر جون جاك روسو أن الملكية ليست ملائمة للدول الكبرى، فكلما كان المشتغلون في الإدارة العامة عديدين كلما تناقضت علاقة الأمير بالرعايا واقتربت من التساوي. بحيث تكون هذه العلاقة واحدة أو المساواة نفسها كما في الأنظمة الديمقراطية. وهذه العلاقة نفسها تزداد كلما قوَّت الدولة نفسها، وتبلغ مداها، حسب روسو، عندما تكون الحكومة في يد شخص واحد. وعندئذ تحدث فجوة كبيرة بين الأمير والشعب، وتفقد الدولة رابطتها، ويصبح لابد من إيجاد مراتب وسيطة لتكوين هذه الرابطة، ولا بد من أمراء وكبراء ونبلاء لملئها. وطبعا لاشيء من هذا كله يخدم مصالح دولة صغيرة، إذ على العكس يساهم في تخريبها وهلاكها.
ولكن، إذا كان من الصعب أن تُحكم دولة كبيرة فإنه من الصعب أن تحكم برجل واحد، لهذا يوجه روسو الانتباه إلى عيب اعتبره جوهريا ولا مفر منه يضع الحكومة الملكية دائما في مرتبة أدنى من الجمهورية. يقول" إن الصوت الشعبي يكاد لا يرفع أبدا في المراكز العليا، إلا رجالا مستنيرين وقادرين يشغلونها بجدارة. على حين يكون الذين يصلون إليها في الملكيات في أغلب الأحيان إلا الإمَّعات من صغار المفسدين وصغار النصابين المتآمرين اللذين ترفعهم مواهبهم التافهة التي يكتسبونها في البلاط إلى المناصب الكبرى" وطبعا ما إن يمارس هؤلاء الشرذمة أعمالهم حتى تتكشف للجمهور غباوتهم. فالشعب إذن أقل خطأ بكثير من الأمير في هذا الاختيار. لذا يكاد يكون من الناذر وجود شخص ذي جدارة حقيقية في وزارة ملكية بقدر ما ينذر وجود رجل غبي على رأس حكومة جمهورية. وبالمقابل يشير روسو إلى أنه" عندما يتولى بمحض الصدفة السعيدة، زمام الأمور في ملكية توشك على التلف بسبب تلك الأفواج السيئة من الإداريين، واحد من أولائك الرجال الذين خلقوا للحكم فإن الناس يبهتون للمهارات التي تصدر عنه ، فيصبح حكمه مرحلة تاريخية في حياة البلاد".
ويطبق روسو القاعدة التالية في تحديده لكيفية الحكم الصالح : "لكي تحكم دولة ملكية حكما صالحا، لابد أن تكون عظمتها أو اتساعها متناسبا مع قدرات من يحكمها" الشيء الذي يجعل كفة الملكية تهوي في ميزان تكون الجمهورية في كفته الأخرى. حيث يعتبر روسو أنه" مهما كان حجم الدولة صغيرا فإن الأمير يكاد يكون دائما صغيرا جدا" وحين يحدث العكس أي حينما تكون الدولة صغيرة على أميرها، وهو أمر ناذر الحدوث جدا، فإن حكمها يكون كذلك سيئا. لأن الأمير ينسى وهو يواصل دائما تحقيق آماله الكبار مصالح الشعب فلا بد إذن من أن تتسع المملكة أو أن تضيق مع كل حكم تبعا لقدرة الأمير. بينما مؤهلات مجلس الشيوخ ذات مقاييس وإجراءات ثابتة، تستطيع الدولة أن يكون لها حدود مستقرة، ولا تكون إدارتها بذلك أقل صلاحا.
إن كل الظروف تتضافر - حسب روسو- على رجل رفع ليحكم الآخرين لحرمانه من العدالة والحكمة. ذلك أن جهودا كبيرة تبذل لتعليم الأمراء الصغار فن الحكم، ولا يبدو أن هذا التعليم يجدي نفعا، فقد يكون من الأفضل البدء في تعليمهم فن الطاعة. لأن أعظم الملوك الذين خلدهم التاريخ لم ينشأوا قطعا من أجل الحكم، ذلك أن الحكم علم لا يكون المرء أقل امتلاكا لزمامه أبدا إلا بعد أن يكون قد تعلمه كثيرا، وأن اكتسابه بالطاعة يكون أكثر من اكتسابه بالأمر.
إن عدم ثبات الحكومة الملكية يكون نتيجة لهذا النقص في التماسك، فهي تقتدي تارة بهذه الخطة وتارة أخرى بغيرها تبعا لطبع الأمير الحاكم أو الناس الحاكمين. يقول روسو:" لا تستطيع (الحكومة الملكية) السير طويلا وراء هدف ثابت، ولا البقاء على سلوك منطقي: تقلب يجعلها دائما متأرجحة من مبدأ إلى مبدأ، ومن مشروع إلى مشروع، وهي حالة لا مكان لها في الحكومات الأخرى التي يكون الأمير فيها دائما هو نفسه، كذلك نرى أنه على وجه العموم، إذا كان يوجد في البلاط من الدهاء أكثر مما يوجد في مجلس الشيوخ من الحكمة أكثر مما في البلاط. وأن الجمهوريين يسرون إلى أغراضهم بوجهات نظر أكثر ثباتا وأفضل متابعة. في حين أن كل ثورة في الوزارة ينجم عنها ثورة في الدولة نظرا لأن المبدأ المشترك بين جميع الوزراء وبين الملوك جميعا تقريبا هو مناقضة السلف في كل شيء" ويتساءل روسو: حتى إن كانت شخصية الملك ناذرة الوجود كما يقول أفلاطون، فكم مرة سوف تتضافر الطبيعة والحظ السعيد على تتويجه؟ وإن كانت التربية الملكية تفسد بالضرورة من يتلقونها، فماذا يجب أن نأمل من سلسلة متعاقبة من الرجال ربيت لتحكم؟..
لقد لاحظ جيركه  Gerke بعمق أن جون جاك روسو قد نضج عقده الاجتماعي " آخذا كإطار الأفكار الديمقراطية للدين سبقوه "عن الحرية والمساواة، ومالئا هذا الإطار بالمحتوى المطلقي لعقد هوبز، ولكن بصفة خاصة هذه الجملة ترن بشكل ممزق تقريبا، كأنها إنكار لكل المؤلف. إذ لو كان صحيحا  أن المبادئ الموضوعية والمستنتجة بكل هذا الإقناع في "في العقد الاجتماعي"  تشترط - لكي تطبق- من الفضيلة والصرامة الأخلاقية، أكثر مما يشمله الضعف البشري. عندئذ يكون روسو قد كثب عبثا، وعندئذ ينتصر منطق هوبز الذي لا يرحم واستبداديته على أنقاض الإرادة العامة.
خلاصة:
رأينا إذن فلسفة وأراء كل من المفكرين المحنكين ماكيافيل وجون جاك روسو، وكان تركيزنا كما كان واضحا بالأساس حول إبراز ملامح الفكر السياسي، في تحليله ومناقشته لإشكالية السلطة والحكم، عند كل من هذين المفكرين كل على حدة.
وهكذا ركزنا على ثلاث نقاط ارتأينا على أنها أساسية في فهم الفكر السياسي لدى كل منهما، فكان أن سلطنا الضوء على مبدأي الحظ والإرادة وكيف يلعبان دورهما المحوري في المنظومة السياسية للفكر الماكيافيلي، مرورا بنظرة ماكيافيل إلى السلطة والتسلط  وكيف يعتبر أن السياسة تسلط وخديعة وغش وانفصال عن الأخلاق، ثم ما ينبغي على الأمير نهجه كسياسة تجاه الشعب وما لذلك من علاقة بالمبدأ الماكيافيللي الشهير: "الغاية تبرر الوسيلة".
أيضا، بعد استظهارنا لتجليات الفكر السياسي عند روسو، من خلال تسليط الضوء على مفهومي الحق والقوة، وما يكتسيه حق القوة من نقد لديه. وتعريجنا على مفهوم الميثاق الاجتماعي ثم استقصاؤنا لنظرة هذا المفكر إلى نظام الملكية وكيف يقارنه بنظام الجمهورية.
كل هذا يدفعنا إلى أن ننتهي إلى خلاصة مفادها أن ماكيافيل لا ينفك ينصح الأمير بالتظاهر بالقوة والفضيلة لآن ذلك يؤثر في نفوس العوام. وذلك بقصد بسط السيطرة والنفوذ حتى يتمكن من الحفاظ على الحكم وتسيير دولته إلى ما هو أفضل حسب رغبته وبأي طريقة دون مراعاة الأخلاق إلا ظاهريا، ولا مراعاة لرغبات الرعية وأهوائهم. لأن البشر في نظر ماكيافيل جبناء يتمسكون بالمصالح المادية أكثر من تمسكهم بحياتهم الخاصة. وهم على استعداد لتغيير أهوائهم وعواطفهم.(أنظر الفصل 17 من كتاب "الأمير"لماكيافيل) كما يتحدث عن الأنانية بحيث يرى أن الناس يحزنون ويسرون بظواهر الأمور، ولا يهمهم إلا ما يبدو لهم أنه صالحهم، فهم أشرار بطبعهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ماكيافيل حين يحكم على البشر فهو لم يفكر في أبناء عصره فقط بل هو يتعدى ذلك إلى البشر كافة دون حصر زماني أو مكاني.
ولا يجب أن يسقطنا هذا في النظرة السلبية لماكيافيل كما انزلق إلى ذلك عدد من النقاد. ولكن ينبغي الاعتبار بدروس هذا المفكر نظرا لكونها دروسا للأمراء، لكن على الملأ، حيث تنكشف سياسات الأمراء المتضمنة في التوجيهات الماكيافيلية لكل قارئ لكتاب الأمير.
وهذا ما يعيره روسو الاهتمام، ولهذا أيضا اعتبر روسو أن كتاب "الأمير" هو كتاب الجمهوريين. فالفرد داخل الدولة يميل - في نظر ماكيافيل-  إلى عصيان القوانين وعدم دفع الضرائب، والامتناع عن خوض الحرب. فطبيعة البشر متقلبة ومن السهل أن تستميلهم إلى أمر من الأمور، ولكن من الصعب أن تبقي على إيمانهم هذا. ومن هنا وجب تنسيق الأمور بحيث يمكن استخدام القوة لإكراههم على الإيمان بما ارتدوا عنه. وقد تبين لروسو من خلال نظريات العقد القديمة أنه لا يكون الشعب سيدا إلا لحظة ليتنازل عن حريته لأيدي أولائك الذين يسمون ملوكا وسادة، فكل إنسان جزء من الدولة، ومواطن يحترم القانون ويطيعه، فالسلطة التي تتخذ القرارات المطابقة للقانون. وعلى الأخص تعيين الوظائف، تلك السلطة تدعم الحاكم. كما أن الدولة حيال أعضائها سيدة على كل أحوالهم بناء على العقد الاجتماعي الذي يعتبر في الدولة أساس لجميع الحقوق.
فالإنسان تقِلُّ أناه ووضعه في الوحدة المشتركة بحث لا يعود كل فرد يعتقد نفسه أحدا ولكن جزءا من الكل وهو بذلك قد أعطى لحب الذات قاعدة أخرى تجعله يحمل ثمارا اجتماعية. فالدولة بما أنها مشكلة فقط من الأفراد الخاصين الذين يؤلفونها فليست لها مصلحة مضادة لمصلحتهم.
إن إشكالية السلطة والحكم أوسع من أن تستوفي الإجابة عنها بضع صفحات، ولكن ما يمكن قوله هو أننا حاولنا تبني الموضوعية والحيادية في استقصاء ثمار الفكر السياسي عند ماكيافيل وروسو باعتبارهما نموذجين مثاليين وقطبين من أقطاب الفلسفة الحديثة، وعرضها على القارئ الكريم.
وأخيرا يمكن أن نختم برأي روسو في ماكيافيل حيث يقول:"كان ماكيافيللي رجلا مستقيما ومواطنا صالحا لكن لتعلقه بآل ماديتشي، كان مضطرا في ظروف قهر وطنه إلى إخفاء حبه للحرية، فإن اختياره لبطله الممقوت وحده يظهر بما يكفي قصده الخفي (...) لقد حرمت المحكمة البابوية تداول كتابه تحريما قاطعا، ولست أعجب لذلك لأن أوضح تصوير لفسادها، كان تصويره هو."( أضيفت هذه الشهادة لمؤلف ج.ج. روسو " في العقد الإجتماعي" في طبعة1782 ). 
 
ملحوظة : أحب أن أنوه للأمانة العلمية إلى أنه ليس كل ما كتب في هذه المساهمة، بأجزاءها الثلاثة، هو من محض تأليفنا الخالص، وإنما هو ثمرة بحث واجتهاد شخصي في تقصي معالجة إشكالية السلطة والحكم لدى المفكرين العظيمين الذين تناولناهما. ونتمى أن يكون التوفيق قد حالفنا..
     ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مراجع:
-                    "الأمير"  لـ : نيقولا ماكيافيللي
-                    "في العقد الاجتماعي" لـ : جون جاك روسو
-                    "تاريخ الفكر السياسي" لـ : جون جاك شوفالييه.
            -                   "المؤلفات السياسية الكبرى من ماكيافيل إلى أيامنا" ترجمة  إلياس مرقص.

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس