بقلم: مراد امسعدي
الوجود والماهية :
إن الوجود لا يهتم بوجود الوجود
وحده، بتجريده مما هو، لتركيز فكره على عملية وجوده بل إن هدف الوجودي، كما
يقول" مارسيل" هو( إبراز وحدة الوجود والموجود التي لا انفصام لها ). ويقول
أيضا هذا الوجود الذي يتخذ جسدا مشتركا مع الموجود.
إن التمييز بين الوجود والماهية من
أقدم المسائل التي درستها الفلسفة وقد طبق هذا التمييز على أوسع نطاق، وكانت له
نتائج غاية في الفائدة، فالقول بأن شيئا ما
موجود يشير ببساطة إلى واقعة وجوده هنا أو هناك، فالوجود يتسم بالعينية
والجزئية وبأنه معطى محض كذلك. فالعملة الفضية الموضوعة على المائدة موجودة
بوصفها أحد أشياء العالم، ووجودها ماثل أمامي بوصفه واقعة ينبغي قبولها، وليس في
استطاعتي أن أرغب في وجود هذه العملة أو في حذفها من الوجود، على الرغم من أنني
أستطيع أن أغير من الشكل الذي توجد عليه. ولكن ما أن نتحدث عن الشكل الذي توجد
عليه، حتى نكون قد بدأنا بالفعل في الإنتقال من الوجود إلى الماهية، وإذا كان
وجود الشيء يرتبط بواقعة أنه موجود فإن ماهيته تعتمد على واقعة (ما هو)، فماهية
موضوع ما تتألف من تلك السمات الأساسية التي تجعله موضوعا معينا، وليس موضوعا آخر.
فالاشتقاق اللغوي: أن الفعل (يوجد )
مشتق من الفعل اللاتيني( كان ).يعني أصلا( يبرز) أو ينبثق، ومن المرجح إذن أن هذا
الفعل كان يعطي إيحاء أكثر إيجابية مما هو عليه الآن. بمعنى أن يوجد الشيء هو أن
يبرز أو أن ينبثق خلفية معينة بوصفه شيئا موجودا هناك وجودا حقيقيا. ولو وضعنا هذه
الفكرة في صيغة فلسفية أكثر للقينا أن معنى أن يوجد الشيء هو أن ينبثق من العدم.
غير أن فكرة الوجود قد أصبحت في وقتنا الراهن أكثر سلبية بكثير، إذ أصبح المعنى
الذي نفهم به كلمة" يوجد" أقرب بكثير إلى˝ ملقى به حولنا في مكان ما˝
بدلا من˝ يبرز في مكان ما˝ .
فالقول بأن شيئا ما موجود
يعني أننا سوف نلتقي به مصادفة في مكان ما من العالم، ولو قال: أن وحيد القرن موجود، فإنه يعني بذلك أنك في مكان
ما من العالم سوف تلتقي بوحيد القرن إذا بحثت عنه بحثا طويلا وشاقا بقدر كاف.
وبتعبير أدق في مكان ما من العالم الذي استخدمناه مرتين في هذه الفقرة لا يأتي
عرضا فيما يبدو. إذ أن كلمة" يوجد" تدل على أن للشيء مكانا وزمانا في
العالم الفعلي...لكن هناك مشكلة أخرى يثيرها تعبير وجود الله.فما الذي نعنيه
بقولنا الله موجود...؟ إن الله أيا كان تصورنا له، ليس موضوعا يوجد داخل العالم
على نحو ما توجد عليه الأشياء، حتى لو قلنا إنه محايث وكامن في العالم بقدر ما،
فهو بالتأكيد ليس أحد أشياء هذا العالم. فالقول بأن الله موجود لا يمكن أن يعني
أن هناك احتمالا للإلتقاء به مصادفة في العالم على نحو ما يلتقي المرء مصادفة
بوحيد القرن. فإن ما تتميز به طريقة الوجوديين في استخدامهم لكلمة" الوجود"
هو أنهم يحصرونه في ذلك النوع الذي ينتمي إلى الإنسان. ولقد استخدم ˝هيدجر˝ مصطلحات ثلاثة في محاولة لتجنب
الخلط حول كلمة" الوجود" .
المصطلح الأول فهو يدعوه الوجود المتعين( الوجود هنا أو هناك)
وهو مصطلح يستخدم عادة للدلالة على أنواع مختلفة من الوجود ولكن يقصر استخدامه
عادة على الدلالة على أنواع مختلفة من الوجود، ولكن "هيدجر" يقصر
استخدامه على الوجود المتمثل في حالة الإنسان.
والمصطلح الثاني الذي يقترحه ˝هيدجر˝
هو( الحضور المباشر أو الحضور في متناول اليد) يعني أنه شيئ يمكن أن يلتقي به
المرء في العالم مصادفة.
المصطلح الثالث الذي استخدمه ˝هيدجر˝
هو( الوجود البشري) وهو تحديد للكينونة، ويخص الوجود المتعين وحده ويضيف ˝هيدجر˝
فيقول : ˝إن ماهية المتعين تكمن في وجوده
( أي أنه يعني ماهية الوجود المتعين لا تتألف من خصائصه بل من الطرق الممكنة
لوجوده ).
أما ˝ياسبرز˝ فيشير إلى ثلاث دلالات
بخصوص مفهوم الوجود :
1- الوجود
ليس لونا من الوجود بالفعل وإنما هو وجود بالقوة، بمعنى أنني ينبغي ألا أقول أنني
موجود بل ممكن، فأنا لا أمتلك ذاتي الآن وإنما أصبح ذاتي فيما بعد.
2- الوجود
هو الحرية ...لا الحرية التي تصنع نفسها ويمكن ألا تظه، وإنما الوجود هو الحرية
من حيث هي فقط هبة من العلو التي تعرف واهبها. فليس هناك وجود بغير علو.
3- الوجود
هو الذات التي تظل دائما فردية والتي لا يمكن الاستعاضة عنها أو استبدالها أبدا.
أما ˝سارتر˝ فيعرف الوجود على أنه
˝الوجود الفردي العيني هنا والآن˝، أي يعرف الوجود لأجل ذاته من خلال فكرتي السلب
والحرية، فما هو لأجل ذاته، يظهر في الوجود أو ينبثق، بأن يفصل نفسه عما هو في
ذاته، وما وجود بذاته وهو وجود ماهوي. أما ما هو لأجل ذاته فهو حر في اختيار ماهيته، لأن وجوده هو حريته.
مفهوم الحرية :
طرحت مسألة الحرية عبر مسار التاريخ
ومازالت، ولكن مفهومها كان يختلف في كل مرحلة، ومن مجتمع إلى آخر، ومن فلسفة إلى أخرى، كذلك اختلفت تعريفاتها
عن تطبيقاتها واختلف المنظرون لها والمناضلون من أجلها حول مكمن أسسها والطرق
المؤدية إليها... وقد أدى كل ذلك إلى وجود حاجة دائمة للبحث فيها وفي جوانبها
المدنية والسياسية والدينية، والتعمق في دراستها فلسفيا
وتاريخيا، سواء كقيمة بذاتها، أو كقيمة لا تنفصل عن القيم الأخرى للفرد البشري.
إن أي دراسة لأي فعل أو سلوك إنساني هي
دراسة وثيقة الصلة بحرية الإنسان كفرد، وفي المجتمع وفي هذا العالم. ذلك أن الإنسان ليس مجرد كائن
بيولوجي، وإنما هو ذات تعي وجودها وسلوكها، وتجعل العالم معقولا مفهوما. فهو ليس شيئا
من الأشياء مستغرقا في الطبيعة، بل هو كائن يتحرر ويتجاوز العالم بالإبداع في جميع
مجالات الفاعلية الإنسانية بالرغم من الشروط التي تحدد سلوكه.
إن المفهوم الفلسفي للحرية عرف دلالات
مختلفة باختلاف الفلاسفة وباختلاف المصادر التي أثرت في بنائه، فالحرية تعني
بالنسبة إلى البعض غياب القيود، أو القدرة على فعل ما لاينبغي فعله، وقد تعني مجرد
الوعي بما يتحكم فينا من ضرورات وحتميات وأخذها بعين الاعتبار، حين القيام بسلوك
معين، كما قد تعني الوعي بما يتحكم فينا والسعي إلى التحرر منه.
فما هو التصور الذي تضفيه الوجودية على
مفهوم الحرية؟ إذا كان "هيجل" وبعده "ماركس" يرفضان الحرية
الوجدانية، فإن الوجودية منها ومنها وحدها. منذ أن تأسس المذهب الوجودي على يد
"كيركغارد" وهو يحارب الموضوع الذي يعني في تعبير "هيغل" كل
شيء خارج الوجدان.
والوجدان يكون في أعين الوجوديين
المعطى الوحيد الذي لاجدال فيه. يقول "سارتر" :"إننا لاندرك ذواتنا
إلا من اختياراتنا، وليست الحرية سوى كون اختياراتنا دائما غير مشروطة".
بنفيه الشرط ينفي "سارتر"
دفعة واحدة الطبيعة والنفس والثقافة والمجتمع والتاريخ. كل ذلك يصبح مشروط بالذات، بدل أن تكون الذات مشروطة بشيء سواها. (12)
هكذا تقرر الوجودية مرادفة الإنسانية والحرية.
فالحرية هي الإنسان في قلب الإنسان. "أنا الكائن الذي بصفته كائنا يضع كيانه
موضع التساؤل ". هذا هو تحديد
الإنسان عند "سارتر " الذي يضيف قائلا "إننا لا نفصل عن
الأشياء سوى بالحرية ". الإنسان هو وحده حامل الحرية في الكون : بلا حرية لا
وجود للإنسان وبلا إنسان لا وجود للحرية في الطبيعة.
إن ما يسمى حدود الحرية – الطبيعة، المجتمع،
التاريخ – ليست حدودا بالمعنى الدقيق، أي أنها لا توجد قبل وفي غياب الحرية. إنها
لا تملأ جميع المحيط الإنساني باستثناء حيز ضيق تتسلل إليه الحرية. الواقع هو عكس
هذا التصور : الحرية هي السابقة على ما سواها وهي التي تخط تلك الحدود
المزعومة، لو لم توجد الحرية مسبقا لما
وعينا تلك الأشياء كحدود. ليست الحواجز الموضوعية هي التي تهدينا إلى حرية متبقية
ممكنة، بل الحرية المطلقة هي التي تجعل من الأشياء حواجز. الحرية إذن معطى أولي
يجب الإنطلاق منه في كل تحليل حول الإنسان.
يذهب "سارتر " أبعد من هذا
حيث يقول : " إن الإنسان محكوم عليه بأن يكون حرا، إنه يحما ثقل العالم كله
على كتفه، إنه مسؤول عن العالم وعن نفسه بصفته
نوعا متميزا على أنواع الكيان
الأخرى " ( 13 )
والقول بأن الإنسان حر إنما يعني أنه
مسؤول عما يفعل، وأن في وسعه تحقيق ذاته على نحو إبداعي. والقول بأن الإنسان
مسؤول عن ذاته فهذا لا يعني أن مسؤوليته تنحصر في ذاتيته المحدودة بل إنها تتعداه
إلى جميع الناس بحيث يكون مسؤولا عنهم أيضا ... وعندما نقول أن الإنسان يختار ذاته
نقصد بذلك أنه باختياره لذاته، يختار أيضا لبقية الناس.
إذن فالحرية قدرة على الإختيار،
والإختيار يعني الحرية، والحرية هي وجود الإنسان، وبقدر ما تكون حريتي بقدر ما
يكون وجودي، و وجودي يعني أني أعي أني حر، وأنا مقيد بما سبق أن اخترت، ومحدود
بزمانيتي، لكني حر تماما داخل هذا الإطار، وأعيش حريتي كنشاط وبعفوية، والوجود
يتجلى وينكشف وأنا أستخدم حريتي وتعرفي عليها، وإذا كان وجودي يتولد عن ذاتي،
فإن وجود غيري يعكس هذه الذات. ولن أستطيع أن أحقق ذاتي إلا بمناصرة الذوات الأحرى، وبالتواصل الشعوري معهم، فالحرية لا تعيش إلا في عالم من الحريات، ولا يتحقق
التواصل الأصيل إلا بين حريات، وليست حريتي إلا سعيا ذاتيا للتواصل بالذوات
الأخرى من خلال الصراع الودي، وذاتي لا تكون ذاتا أصيلة إلا إذا تفتحت لغيرها من
الذوات، وليس التواصل الوجودي إلا ممارسة لحريتي وحرية الأخرين .
نستنتج إذن، أن " الإنسان محكوم
عليه بالحرية " أي أن الحرية هي قدر الإنسان الذي لا يستطيع أن يهرب منه وهو
الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يكون
الإنسان حرا في رفضه أو التهرب منه.
الهوامـــــــــش:
12-عبد الله
العروي ، مفهوم الحرية ، الدارالبيضاء ، المركز الثقافي العربي ، 1998، ص 268.
13- سارت الكون
والعدم ، باريس ،غاليمار ، 1943، ص 639.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية