ابن الهيثم: شارح ومبدع هندسة أوقليدس





بقلم: هشام آيت باحسين



لعب العلماء العرب والمسلمون دورا كبيرا في تطوير علوم الرياضيات، فالعرب جمعوا من شتى الأنحاء معارف رياضية وعملوا على الدمج بين المعارف الشرقية والغربية، والآثار اليونانية والهندية و الفارسية وغيرها الكثير، بالإضافة إلى إثرائهم لها والإضافة عليها، لذلك فإنهم قاموا بترجمة وحفظ أعمال القدامى من علماء الرياضيات. في هذا الصدد سأحاول التركيز على عالم رياضي له مكانة خاصة في مجال الرياضيات، وهو العالم الرياضي الكبير أوقليدس. ثم أهم إضافات وشروحات العلماء العرب لنسقه الرياضي آخذا كنموذج الفيلسوف والعالم الكبير ابن الهيثم.
         بداية أعطي لمحة موجزة عن حياة كل من أوقليدس و ابن الهيثم، فالأول صراحة تغيب عنا معلومات كثيرة عن مسار حياته، لكن هناك أصداء تقول أنه عاش بالإسكندرية في القرن الثالث قبل الميلاد، أما مكان ميلاده فغير معروف. ومن المحتمل أن يكون قد تعلم في الأكاديمية. أما على المستوى المعرفي فإنه أول من استطاع أن يقيم نسقا استنباطيا في الهندسة حمله كتابه الشهير «الأصول» ففي هذا الكتاب جمع أوقليدس كل النظريات التي عرضها علماء قبله خاصة الفيتاغوريون، إلا أن الجديد الذي قام به أوقليدس أنه عرضها على شكل نسق رياضي منظم، وهذا ما يميز كتابه «الأصول».
أما أبو علي الحسن ابن الهيثم فنعرف عنه الكثير، هو مهندس بصري ولد في البصرة سنة 345 هـ على الأرجح، وقد انتقل إلى مصر حيث أقام بها حتى وفاته. جاء في كتاب «أخبار الحكماء» للقفطي على لسان ابن الهيثم : « لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملا يحصل النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقصان»، فوصل قوله هذا إلى صاحب مصر، الحاكم بأمر الله الفاطمي، فأرسل اليه بعض الأموال سرا، و طلب منه الحضور إلى مصر. فلبى ابن الهيثم الطلب وارتحل إلى مصر حيث كلفه الحاكم بأمر الله انجاز ما وعد به. فباشر ابن الهيثم دراسة النهر على طول مجراه، ولما وصل إلى قرب أسوان تنحدر مياه النيل منه تفحصه في جوانبه كافة، أدرك أنه كان واهما متسرعا في ما ادعى المقدرة عليه، وأنه عاجز على البر بوعده. حينئذ عاد إلى الحاكم بالله معتذرا، فقبل عذره وولاه أحد المناصب. غير أن ابن الهيثم ظن رضا الحاكم بالله تظاهرا بالرضا، فخشي أن يكيد له، وتظاهر بالجنون، وثابر على التظاهر به حتى وفاة الحاكم الفاطمي.
و بعد وفاته عاد على التظاهر بالجنون، وخرج من داره، وسكن قبة على باب الجامع الأزهر، وطور ما تبقى من حياته مؤلفا ومحققا وباحثا في حقول العلم، فكانت له انجازات هائلة. ويصفه ابن أبي أصيبعة في كتابه « عيون الأنباء في طبقات الأطباء» فيقول : « كان ابن الهيثم فاضل النفس، قوي الذكاء، متقننا في العلوم، لم يماثله أحد من أهل زمانه في العلم الرياضي، و لا يقرب منه، وكان دائم الاشتغال، كثير التصنيف، وافر التزهد ...» .
         في مرحلة ثانية نتساءل ما هو كتاب «الأصول» لأقليدس؟ و ما الذي يحمله في طياته؟ هكذا سنتعرف على السبب الذي أثار حفيظة العرب وبالتالي حاولوا التشكيك في بعض عناصره.
كتاب «الأصول» Eléments يعد من أقدم الكتب الهندسية، وهو بصفة عامة مقسم إلى 13 كتابا، هذه الكتب مقسمة إلى مجموعات، كل مجموعة تناقش نظرية معينة في الهندسة إذن:
1-    الكتب من 1 إلى 6: يعرض فيها الهندسة المستوية
2-    الكتب من 7 إلى 10: يعرض فيها الحساب ونظرية الأعداد
3-    الكتب من 11 إلى 13: تعالج الهندسة المجسمة أو ما يعرف بنظرية المقادير الصماء.
أضيف كتابين إلى هذه الكتب : الكتابين معا يعالجان المجسمات المنتظمة، فأما الكتاب الأول فقد أضافه هبسكليس السكندري، والثاني أضافه تلميذ نجهل اسمه.
أهمية كتاب «الأصول» عند العلماء العرب تظهر في الترجمات العديدة التي تعرض لها بداية من أيام أبي جعفر المنصور مرورا بأيام هارون الرشيد إلى أيام المأمون. هذه الترجمات لم تكن فقط نقل للكتاب من لغة إلى أخرى، بل لقد واكبته شروحات وتعاليق عديدة من طرف كبار العلماء العرب من أهمهم ابن الهيثم وعمر الخيام وأبو حفص عمر بن حسان الميلي وغيرهم من العلماء. شروحات هؤلاء تغطي عدم قدرتهم على إضافة أشياء أساسية على كتاب «الأصول» إلا أن حفظهم لهذه المادة العلمية الباهرة ليس بالأمر السهل لهذا فالتاريخ العلمي يشهد لهم بالجهد الذي مارسوه في الحفاظ عليه.
         في هذا البحث البسيط سأركز على شروحات وتعاليق ابن الهيثم خاصة تلك المتعلقة بالمصادرة الخامسة من مصادرات أوقليدس، هذه المصادرات Postulats هي عشرة، أهمها خمسة فنكتفي بذكر الخمسة المهمة وهي :
1-    لنا أن نصل خطا مستقيما بين كل نقطتين..
2-    لنا أن نخرج خطا مستقيما دون نهاية واتصال إلى غير نهاية.
3-    الزوايا القائمة كلها متساوية.
4-    نخط دائرة على كل نقطة.
5-    إذا وقع خط مستقيم على خطين مستقيمين وكانت الزاويتان الداخلتان في إحدى الجهتين أصغر من قائمتين فإنهما يلتقيان في تلك الجهة مهما أخرجا بلا نهاية.
إذن فالمصادرة الخامسة السابقة ناقشها العديد من العلماء على مر العصور، وقد اشتهرت تلك المناقشات بنتيجة أساسية وهي رفض إدراج تلك القاعدة ضمن المسلمات، فكان أن اعتقدوا أنه من الصواب لو أدرجت من المبرهنات، لأنها مسألة معقدة واحتاج أوقليدس إلى دراسة لكي يثبت صحتها، أضف إلى ذلك أنه شك في تحققها على المستوى الفيزيائي. مثلا ففي هذه المصادرة إذا افترضنا أن الزاويتين الداخلتين مجموعهما يساوي 180° فإنه يعني أنهما متوازيان إذا ما سطرنا خطين محدودي الطول. أما في افتراض وجود خطين مستقيمين متوازين إلى ما لا نهاية فهذا ما يقلق الشراح فيتسائلون عن إمكانية أن تكون خطوط متوازية على مكان فيزيائي. وهذا ما يعقد تلك المصادرة قليلا فتكون في حاجة على برهنة.
         إذن ما موقع ابن الهيثم من هذه المصادرة، هو المشهور والمعروف بانتقاده لهذه المصادرة. بعض شروحاته يتضمنها كتاب «حل شكوك أوقليدس» وهو كتاب عرض فيه ابن الهيثم كل ما وجده غير صحيح وغير يقيني و لا يتفق مع الحقيقة في كتاب أوقليدس «الأصول» .
بداية كيف يعرف ابن الهيثم «المصادرات» ؟ إنه يعتبرها قضايا تظهر صحتها منذ البداية لأنها لا تحمل تناقضا، وما يميزها عن البديهيات أنه يمكن إنكارها. هذه الصفة غائبة في الرياضيات الحديثة باعتبار أن البديهية والمصادرة كلتاهما تحملان تعريفات مقنعة فقط الأولى أكثر بساطة من الثانية.1 درس عالمنا الكبير ابن الهيثم هذه المصادرات فكان أن توصل إلى أنه من المستحيل البرهنة على المسلمة الخامسة اعتمادا على المصادرات الأرسطية الباقية، لذلك فرغم إخفاق ابن الهيثم في البرهان على المسلمة الخامسة إلا أنه ساهم من قريب أو بعيد في دحض هذه المصادرة ذلك أنه يمكن أن تحصل في مجال فيزيائي مسطح كما هو الحال في فيزياء أرسطو، لكن لا يمكن أن تتحقق في مجال يكون مقعر أو محدب حسب الفيزياء الحديثة، و إذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن نخط مستقيمين إلى ما لا نهاية ونكون متأكدين أنهما متوازيان، حتى أوقليدس نفسه شك في مصادرة التوازي فلم يعول عليها.
شكوك ابن الهيثم على المصادرة الخامسة هو ما سيتحقق في التاريخ العلمي عندما تنشأ الهندسات اللاأوقليدية فكان أن ظهر نقيض للمصادرة الخامسة يحمل وجهين :
-         الوجه الأول : يمكن رسم أكثر من مواز واحد لمستقيم من نقطة خارجة عنه، وإذا استطعنا أن نرسم أكثر من مواز واحد فإنه بالإمكان رسم عدد لا نهائي من الخطوط (الهندسة الزائدية أو الهذلولية Hiperboli geometry ).
-         الوجه الثاني : لا يمكن رسم أي مواز لمستقيم من نقطة خارجة عنه .(الهندسة الناقصة أو الإهليليجية Eliptic geometry ).
إذن يبدو أن المصادرة الخامسة من الهندسة الأقليدية قد مرت بأشواط تاريخية متعددة ثم تعرضت لشروحات وانتقادات مختلفة ذلك أن العلماء غالبا ما يجدون معضلة في التعامل معها فكان أن خلقت مجموعة من المصادرات تكافؤها و لا تناقض ما تسلم به، نذكر مثلا :
-         البعد بين مستقيمين متوازيين ثابت لا يتغير.
-         مجموع زوايا المثلث يساوي قائمتين.
-         إذا احتوى الشكل الرباعي على ثلاث زوايا قوائم فإن زاويته الرابعة تكون قائمة .
-         لا يمكن رسم أكثر من مواز واحد لمستقيم من نقطة خارجة عنه.
هذه المصادرات تجمعت عبر زمن طويل، فكان أن تم تجاوزها في نهاية المطاف إلى أخرى لا أقليدية، وهذا ما يعبر عن التطور الحقيقي للرياضيات، وهو تطور يواكب التطور الفيزيائي، فتغير ظروف عمل الفيزيائي، يغير أيضا طريقة العمل الرياضي، فالهندسة المستعملة في الفيزياء الأرسطية لا توازي ضرورة تلك السائدة في الفيزياء النيوتونية أو الفيزياء الذرية، هذه إذن أهم ظروف التحول التي طرأت على مسلمة أوقليدس الخامسة، وهي تحولات ابتدأت منذ أثار العرب شكوكهم على مصادرات أوقليدس، فاستمرت تلك الشكوك إلى أن ظهرت هندسات تناقض تلك المصادرات وهي الهندسات اللاأقليدية.

المراجــع المعـتمدة :
(1)    د. دولت ع. الرحيم إبراهيم، الاتجاه العلمي والفلسفي عند ابن الهيثم، الهيئة المصرية العامة للكتاب،   1995    
(2)    د. محمد محمد قاسم، مدخل إلى فلسفة العلوم، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1996
(3)    د. محمد سويسي ،  نماذج من التراث العلمي العربي، دار العرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001
(4)    د. عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، دار العلم، بيروت، الطبعة الرابعة، 1984





تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس