"التلوث" السياسي في الوطن العربي

بقلم : محمد بعدي

إن تتابع الأحداث داخل الخارطة العربية، و بهذا الزخم الذي شاهدناه، يجعل المحلل و المتابع عاجزا عن الامساك بالخيوط المتشابكة المؤدية إلى "الحقيقة"... فنحن لا نكاد نلتقط الأنفاس من أجل استيعاب و فهم ما يجري حتى نتفاجأ بأحداث جديدة تبعثر قواعد و نتائج تحليلنا السابق. هكذا إذن فبعدما كانت أيام النظام السوري معدودة، صار علمها عند الله... و بعدما كان أمير قطر يريد قيادة كل العرب، لم يعد قادرا على قيادة حتى شبه دويلته... و بعدما كان مرسي يريد حشد "المجاهدين" للإطاحة بكرسي الأسد.. وجد نفسه عاجزا عن المحافظة حتى على كرسيه...  من الذي كان يتصور أن يحدث كل هذا بناء على قراءة فكرية منهجية رصينة، و ليس بناء على تمنيات و رغبات عاطفية؟
قد يكون الحدث الأبرز في هذا الخضم المتلاطم الأمواج هو الحدث المصري المتمثل في عزل الرئيس المصري محمد مرسي، أو إن شئنا ان نسمي الأشياء بمسمياتها الانقلاب العسكري الذي نفذه وزير الدفاع المصري ضد الرئيس المصري. في البداية أريد التأكيد، استبعادا لأي سوء فهم، أنني لا أكن أي ود للرئيس المصري المعزول، بل أشعر بنوع من الكراهية تجاه سلوكه السياسي و خصوصا ما تعلق منه بالسياسة الخارجية، حيث لا يمكن إنكار "انبطاحه" للتعليمات الأمريكية، و "مغازلته" الممجوجة لأعداء الأمة من خلال رسالته الشهيرة لرئيس الصهاينة، و من خلال الرسائل " المطمئنة" حول "الاتفاقيات التي أبرمتها الدولة المصرية"، حتى و لو ادرج ذلك في إطار تجميلي سمي بالبراجماتية او الواقعية السياسية... و من خلال رفض "اليد" الإيرانية "الاسلامية" الممدودة بعد ما سمي ثورة 25 يناير... و من خلال "عنترياته" أمام سوريا و رئيس سوريا... بناء على ذلك أعتبر نفسي خصما لسياسات الرئيس. و مع كل ذلك، و بعيدا عن أي موقف انفعالي، لا يمكن بالمنطق العقلي أو بأي منطق آخر لا يشوبه فساد، أن يتم قبول ما قامت به المؤسسة العسكرية من هتك عرض للديموقراطية، و ذلك من خلال انقلاب مفضوح على رئيس منتخب شرعيا في انتخابات حرة نزيهة شهد لها الصديق و العدو... يمكن الاختلاف مع الرئيس مرسي على المستوى السياسي، بل يجب الاختلاف معه، لكن هذا لا يمنع من إعطائه حقه.. ليس من الديموقراطية في شيء أن يتم عزل رئيس منتخب من خلال انقلاب عسكري، تحت أي عنوان، و مهما كان التبرير... و ليس من العدل في شيء أن يساق إلى السجن كمجرم حرب... و لا يمكن للديموقراطية أن تهندس من خلال خطة اعترف البرادعي، الذي لا شك أنه سيكافأ على دوره فيها من خلال منصب سامي، أنه بذل مجهودا مضنيا لإقناع الغرب بها... اللعنة على الديموقراطية إذا لم تصنعها صناديق الاقتراع...
لا يمكن فهم ما يجري في مصر و في ما يسمى مجازا بالوطن العربي إلا باعتباره نوعا من "التلوث السياسي"... فإذا كانت السياسة هي " فن تدبير الممكن"، فهذا معناه أن يكون رجل السياسة "فنانا" بالمعنى الذي يجعله يمتلك المهارة والموهبة اللازمة لإدارة الأزمات و حل المشاكل... و يمتلك أيضا الروح المهذبة و النفس المؤدبة {السياسة بدون أخلاق لن تكون إنسانية}... و ليس بالمعنى الذي يشير إلى الفنان باعتباره "حمارا وحشيا". إن هذا المعنى الأخير هو الذي يمكن أن ينطبق على العديد من الممارسين السياسيين في "الوطن العربي"، حيث تحولت السياسة معهم إلى سلوك يقوم على المكر و الخداع و الدسائس و التزوير... و خصوصا من خلال توظيف آلة إعلامية ضخمة تغسل دماغ الرعاع و الغوغاء من الشعب الفاقد للوعي السياسي و الذي يعيش في غيبوبة على مختلف المستويات... للأسف لدينا قيادات أغلبها انتهازي، و لدينا شعب معظمه يعاني مجاعة "فكرية"، لذلك تشتغل الإيديولوجيا بشكل مقيت، و يتم توظيف المال و الاعلام و الدين و ... لصالح السياسة. و إلا كيف نفهم أن تصبح رئيسا من خلال الصناديق، ثم ينزل من صوت عليك بعد سنة لإسقاطك؟ كيف تكون مدعوما من فريق سياسي على أساس عقدي، ثم ينقلب عليك هذا الفريق { التيار السلفي في مصر} و يتحالف سياسيا مع من يخاصمهم دينيا؟
إن ما يبعث على الخيبة حقا هو أن تجد أغلب القادة "العرب" يتحركون وفق الإيقاع السياسي ـ الانتخابي و ليس وفق النبض الوطني، أما الجمهور ـ فبسبب سياسات التجهيل و التضبيع ـ تجده بدون موقف سياسي، و بدون روح نقدية... يميل مع كل ريح... الكل يستعمله و يخدعه... و كما قال ماكيافيلي " إن من يريد أن يخدع الناس سيجد دوما من ينخدع بسهولة".
و أخيرا يمكن القول أن ما يحدث في مصر لن يقف، بالتأكيد، عند الحدود الجغرافية لمصر، و أن ما يزرع اليوم في مصر سيكون له قطاف في سوريا، و تونس، والمغرب و ... و إن غدا لناظره لقريب...   

مقالات أخرى للكاتب:


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس