الفلسفة البرجماتية : سر الهيمنة الأمريكية







بقلم : هشام آيت باحسين
‹‹إن الصبي، مهما كان حظ أسرته لابد أن يعرف أن الدولار له قيمة وأن له أن يستمتع ويلهو بقدر ما يعمل ويكسب»

تعتبر فلسفة المنفعة أو ما يطلق عليه باسم البراجماتية فلسفة أمريكية بالأساس باعتبار أن أمريكا هي الموطن الأول لظهورها، أيضا فهي منسجمة مع أسلوب الحياة الأمريكي نفسه، والمميز فيها أنها تعبر عن الواقع الأمريكي بعيدا عن كل تساؤلات أو اعتبارات ميتافيزيقية، لهذا يظهر أنها حملت اسم «البراجماتية» PRAGMATISM. و هذا اللفظ مشتق من لفظة PRAGMA الذي يعود أصله إلى اللغة اليونانية، ويفيد لغة العمل أو كل ما هو عملي لهذا تسمى أحيانا الفلسفة العملية باعتبار أن المنفعة هي معيار الحكم على صحة المعارف فيها. و يعود أول استعمال لهذا اللفظ في تاريخ الفلسفة إلى الفيلسوف ايمانويل كانط Imanuel KANT الذي ميز في كتابه "ميتافيزيقا الأخلاق بين «براجماتيك» PRAGMATIC و بين «عملي» PRATICAL، فالأولى ربطها بالفن والصنعة قاصدا بذلك عمليتي اكتساب الخبرة و التجربة، أما ماهو عملي فيقصد به الجانب العملي من الإنسان و هي الأخلاق. (د. أحمد فؤاد الأهواني، جون ديوي، ص 84) أما الاستعمال الثاني للبراجماتية فهو يعود لبيرس وقد استلهمه من كانط، لكن ليس بالمعنى الكانطي بل عبر عنه بمبدأ أساسي في هذه الفلسفة وهو أن كل مفهوم يكون حقيقيا إذا كان له مدلول معين أو «وجود الشيء يعني كونه نافعا» (د. إبراهيم مصطفى إبراهيم، نقد المذاهب المعاصرة، ص 71) ، من خلال هذا المبدأ شكل بيرس المؤسس الأول للمذهب البراجماتي الذي نشط كفلسفة وكمنهج في الفكر الأمريكي ابتداءا من النصف الثاني للقرن التاسع عشر. لكن التأسيس الفعلي للبراجماتية كمذهب لم يكن فقط على يد بيرس بل أيضا على يد وليم جيمس وجون ديوي.
أما ظهور هذه الفلسفة فقد سبقته عوامل اقتصادية واجتماعية كانت السبب وراء بزوغها، فالأمريكيون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم نسخة من القارة الأوربية، وهذا واضح بالتأكيد، فقد حصلت هجرة موسعة من قارات عديدة على رأسها أوروبا. و في الحديث عن فلسفة البراجماتية يظهر أن هذه الأخيرة ما هي إلا صورة كاملة و نهائية عن الظروف التي كان يعيشها المجتمع الأمريكي مباشرة بعد الاكتشاف. هذا الأخير كان ثمرة الرغبة الأوربية في البحث عن مصادر الثروة في بلدان جديدة غير معمرة. لكن البحث عن هذه المصادر ليس العامل الوحيد الذي ساهم في اكتشاف أمريكا، بل هناك من دفعتهم عزيمتهم القوية وحب استطلاع البحار المظلمة واليابس المجهول إلى هذه المغامرة الاستكشافية. وتاريخ أمريكا ليس قديما فهو لا يتجاوز حتى أربعة قرون لأن تاريخها ابتدأ منذ موجات الهجرة إليها. وقد قلنا أن هؤلاء المهاجرون يبحثون أساسا عن مصادر الثروة فاعتمدوا على القوة المادية للسيطرة على الطبيعة فاستخرجوا الزرع والمعادن وكل الثروات الطبيعية، فكانت الوسائل الأساسية لتحقيق ذلك هي الاعتماد على النفس والتحرر من التقاليد وحب المغامرة ثم استخدام العقل البشري في السيطرة على الموارد الطبيعية مع احترام العمل اليدوي لكسب العيش، فظل الهدف الأساسي من ذلك هو كسب أكبر قدر من الربح المادين و هذا الأخير هو جوهر الفلسفة البراجماتية. (د.سعيد إسماعيل علي، فلسفات تربوية معاصرة، ص38-39)
هذا المبدأ ليس منحصرا فقط على الفلسفة البراجماتية، بل كان قائما بذاته حتى قبل أن تنشأ هذه الفلسفة وخير مثال على ذلك جاء على لسان أحد الكتاب المصريين الذي عاش في منزل أسرة أمريكية ثرية: «الصبي إذا طلب شيئا قال له أهله: إذن عليك بغسيل السيارة كل أسبوع ونعطيك كذا دولارا، أو عليك بغسيل زجاج النوافذ والأبواب، أو اذهب إلى نادي التنس القريب، حيث يحتاجون إلى أولاد يجمعون الكرات التي يلعب بها اللاعبون، فهو مهما كان حظ أسرته لابد أن يعرف أن الدولار له قيمة وأن له أن يستمتع ويلهو بقدر ما يعمل ويكسب» (د. سعيد إسماعيل علي، المرجع السابق، ص 42). إذن فهذا الأسلوب في الحياة تصبح من خلاله القيم مادية تماما فيظل الأمريكي منحصرا بحاضره وبالقدر الذي جناه من الدولارات في يومه، فيذكرنا هذا ثانية بالروح البراجماتية. هذه الروح قلنا سابقا أنها مرتبطة ارتباطا أساسيا بالتطور الاجتماعي وكذا الاقتصادي لأمريكا. و من أهم السمات التي رسمت الرجل الأمريكي في الميدان الاجتماعي أنه هاجر إلى هذا البلد حاملا معه مبدأ الفردية المتشددة، بمعنى يهتم بنفسه فقط بغض النظر عن أي اهتمام بالآخر. هذه النزعة ظهرت جليا في الرجل الأوربي المهاجر أو الأمريكي عندما نبذ الهنود الحمر السكان الأصليين لأمريكا بالسلاح و العنف مؤمنا بمبدأ «الأقوى هو صاحب الحق». (د. سعيد إسماعيل علي، المرجع السابق، ص 42)

من ناحية أخرى فقد تميز المجتمع الأمريكي بامتزاج ثقافي يذكرنا بذلك الامتزاج الحاصل في الفترة الهلينية من تاريخ الفلسفة عندما امتزجت الثقافات الفارسية و المشرقية و كذا اليونانية في ثقافة واحدة سميت بالثقافة الهلينية. بل ما أثارنا أكثر هو أن نفس مبادئ الفلسفة البراجماتية نجد مثيلتها في فلسفات خلال العصر الهليني وخير نموذج هو نموذج الرواقية ثم الأبيقورية، فكلا المذهبين يحملان نفس نظرة البراجماتية للعالم. إذن فبفضل العدد الهائل من المهاجرين وكذا التنوع الحاصل في الأجناس ثم الثقافات بين آسيا و أوروبا ثم أفريقيا تشكلت ثقافة واحدة ستولد لاحقا فلسفة اسمها «البراجماتية». و في الحديث عن هذه الظروف الاجتماعية لا ننفك عن الحديث عن الظروف الاقتصادية أيضا. لذا نقول أن أمريكا بلد صناعي بالدرجة الأولى، فمنذ اكتشافها والرجل الأبيض همه الوحيد هو امتلاك الطبيعة و تسخيرها لحاجاته الخاصة، فأصبح هذا التصنيع الملهم الأساسي بفكرة المنفعة في الميدان الفلسفي.

كل ما ذكرناه سلفا لا يمكن أن نقول في حقه إلا أنه أكسب الرجل الأمريكي خصوصية في التفكير مكنته من امتلاك خصوصية في العمل وهذا ما يظهر على التوجه الذي يسلكه المجتمع الأمريكي المعاصر، فالحروب التي تشنها أمريكا الآن ما هي إلا نتائج عملية للبراجماتية، فابتغاء المنفعة التي يلبسونها لباس الحقيقة قد ينتج عنه استعمال جل الوسائل الضرورية لبلوغ تلك المنفعة، وهذا يظهر بكل وضوح في الحروب الأخيرة خاصة في منطقة الشرق الأوسط، منطقة الهلال الخصيب، المنطقة التي تمتلك الحقيقة أو المنفعة بالنسبة للأمريكيين. إذن فالبراجماتية ليست فقط فلسفة تأملية نظرية بل غدت منهجا يعمل به في جل الميادين السياسية منها والاقتصادية وكذا الاجتماعية، من ثمة فهذا ما جعلنا نقر منذ البداية أن وليام جيمس هو المؤسس الحقيقي لهذا المذهب بحكم أن نظريته هي الأكثر استعمالا وشيوعا و هي متعلقة أساسا بالصدق بارتباط مع المنفعة فأصبحت فلسفته ملموسة في الواقع المعاش، هذا الواقع أصبح مسيرا من طرف أمريكا التي تستعمل البراجماتية كمرجع فكري أساسي.
لقد شكلت الفلسفة البراجماتية العقل السياسي الأمريكي خاصة عندما تستلهم التجربة الواقعية باعتبارها خبرة ايجابية في التاريخ تستطيع أن تبرز قيمها الإنسانية، وإلهاماتها السياسية وأفكارها الكبرى، لكن يظل المشكل الأساسي في ذلك أنها قد صبغت رؤيتها للتاريخ بصفة التجزيئية التي ورطتها أحينا في سياسات خاطئة على منوال العراق إزاء عدم تقديرها بشكل كاف لأهمية القوى المعنوية لدى الشعوب والتصور المبالغ فيه لدور القوة المادية وقدرتها على إنتاج تواريخ جديدة ونظم مغايرة، وهي رؤية تنبع من قصر تجربتها التاريخية وصعودها الساحق السريع.
لكن ربط البراجماتية بأمريكا لا يعني الإقرار مبدئيا ربطها بالإمبريالية، بل على العكس فإذا كانت أمريكا قد استلهمت النظر البراجماتي ومارسته فإن البراجماتية ممارسة يمكن أن تكون عالمية وليس فقط أمريكية، فمثلا ونحن بصدد الحديث عن الدول العربية فإن الأنظمة العربية بدورها أصبحت تتميز بميزة البراجماتية فكان أن صار كل العرب غارقون في البراجماتية يلهثون وراء الممكن الذي لا يشفي للشعب العربي غليلا، وباسم البراجماتية أيضا تتدافع الأنظمة العربية على الخضوع للقوى المهيمنة على الصعيد العالمي. لهذا لا يمكن ربط الممارسة البراجماتية فقط بالإمبريالي أو المهيمن، بل على العكس فقد صارت الممارسة على نحو عالمي إذا صح التعبير فتضاربت المصالح ثم عمل البراجماتيون على حكمة عدم إضاعة الممكن من اجل المستحيل.


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس