يشهد العالم في العقود الأخيرة ثورة تقنية ليس لها حدود، همت مختلف جزئيات الحياة. و امتدت من المظاهر المادية لتشمل أعقد السلوكات البشرية و مختلف أنماط التعبير و التفكير. هذه الثورة التقنية و المعلوماتية الهائلة سافرت من بيئتها الأصلية لتنمو و تتألق في سماء البيئة الفنية.
و هذا الزواج بين التقنية و الفن هو الذي تمخض فأنجب " الفيديو كليب"، الذي أضاف إلى الأغنية بعدا آخر و هو الصورة، بمعنى أن الأغنية أصبحت مصورة صورة يفترض أنها تأتلف مع الكلمات و اللحن، لينسجم الكل في النهاية في شكل فسيفساء جميلة تسر الناظرين ـ المستمعين. فما هي خصائص " الفيديو كليب" ؟ و كيف تبنى الصورة داخله؟ و كيف يتم توظيف الفضاء ـ المجال و الأشخاص في إطاره؟
لقد أثار "الفيديو كليب" و ما يزال ردود فعل
مختلفة حول جدواه و حول إضافاته إلى المجال الفني الغنائي بوجه خاص، ردود الأفعال
هذه تباينت بين معارض يرفض فكرة "الفيديو كليب" و يعتبرها دخيلة على
الغناء، و نبتة متوحشة تفسد طعمه و ذوقه. و بين مؤيد يعتبرها ضرورة حضارية، و
سلوكا فنيا يتوافق مع متطلبات العصر و ينسجم مع روح الحداثة و منطق التغير و
التطور. و من داخل فئة المؤيدين ينبعث فريق يرحب بفكرة "الفيديو كليب"
لكنه يضع خطوطا حمرا لا يجب تجاوزها خصوصا على مستوى الشكل الذي يعرض به.
و لعل الملاحظة الفاحصة للأغاني المصورة تسعفنا في بلورة
فكرة واضحة حول أهم الخصائص التقنية و المجالية و الحركية و الشخوصية التي تؤطرها.
حيث ينتظم الأشخاص في حركات منسجمة داخل مجال معين بالاعتماد على أحدث تقنيات
التصوير من أجل بناء بانوراما يفترض أن تتلاءم مع الكلمات و الموسيقى.
و "الفيديو كليب" فكرة غربية، فالمجتمع الغربي
ذاته هو الذي أفرز الحاجة إليها، أما داخل مجتمعاتنا العربية، بل داخل المجتمعات
الثالثية عموما، فقد جاء "الفيديو كليب" على سبيل التقليد، و في أحسن الأحوال على سبيل
الاقتباس، و إن كان البعض يعتبره تثاقفا و انفتاحا على الآخر، و على العالم
الخارجي.
و يتميز المجال داخل "الفيديو كليب" بكونه متنوعا، يكون تارة مغلقا كالمنزل أو
المرقص، و تارة مفتوحا كالطبيعة بكل مكوناتها [البحر، الحدائق، الصحراء...]، أما
الأشخاص، فحضور المرأة بشكل مقصود حقيقة لا ينكرها من وهبه الله عينين، و طبعا
يمكن أن نضيف مكونات أخرى أهمها تعبيرات الجسد و تقنيات التصوير... لكي تكتمل لوحة
"الفيديو كليب" ".
إن ما يهمنا هنا هو الشكل الذي توظف به المرأة داخل بعض الأغاني
العربية المصورة، أما الغربية فلها مبرراتها و سياقها التاريخي الخاص. و أنت تشاهد
بعض "الكليبات" العربية المصورة يخيل إليك ـ لولا لسانها العربي أو
مشتقاته ّـ أنها غربية بكل كبيرة و صغيرة فيها، و قد تضطر لرفع مستوى الصوت لكي
تصدق أذنك. و الحقيقة أن بعض الفنانين و المخرجين بارعين في التقليد لحد الابداع،
و قد يضاهون أحيانا، بل و يتفوقون على الغربيين في كشف تفاصيل الجسد الأنثوي، و
خدش الحياء. هكذا نجد بعض "الكليبات" المشرقية ـ المحسوبة ظلما على
العربية ـ تختزل المرأة في بعدها البيولوجي، إذ تعرض جسد الأنثى بشكل سافر و فاضح
يجعلك تحس بالقرف و الاشمئزاز، و أنت تشاهد صورا تبعث على الغثيان، فالعري أصبح
موضة جديدة يلجأ إليها البعض لفرض الرديء من الأعمال، و تلك حيلة من لا حيلة له.
إن الأعمال المذكورة تقوم بتشييء المرأة و تجريدها من
كيانها و طمس شخصيتها كي تصير سلعة و منتوجا يعرض في "سوق البشرية" ، بل
إنها تقوم بتشييء الفن ذاته و تجعله خاضعا لقانون العرض و الطلب، حيث لم يعد الفن
في قاموس هؤلاء تربية روحية و تهذيبا للذوق و توجيها للسلوك، بل منتوجا ذا قيمة و
مردودية مادية لا غير، ووسيلتهم في ذلك الاعتماد على التطورات التقنية على مستوى
التصوير، حيث يتم اللجوء إلى تقنية تكبير الصورة أو تقريبها بالتركيز على المناطق
الشبقية في الجسد الأنثوي، و المناطق الأكثر إثارة و الأكثر إسالة للعاب الذكوري،
بطريقة تستغفل و تستبلد المشاهد، و كأن هذه هي الوسيلة الوحيدة لإيصال الخطاب ـ
الرسالة، و كأن المشاهد لا يفهم لغة الإيحاء و لغة الرمز و الإشارة. و كان حريا
ببعض فنانينا و مخرجينا أن يوظفوا ذكاءهم ـ إن كان لديهم ذكاء فني ـ فيما يهذب
الذوق و يقوم السلوك. و أفتح قوسا لأستحضر شريطا عربيا، حيث يظهر البطل مضرجا
بجروحه بعد موت صديقه المتزوج في إحدى الحروب، عاد إلى بيت صديقه، و كانت زوجة
الصديق تسهر على رعايته و مداواة جروحه، فجأة بدأ كل واحد منهما ينظر إلى صاحبه نظرات ذات معنى، انتهى المشهد الأول، ليبدو
البطل في المشهد الثاني و هو يصرخ و يضرب رأسه بعنف بالحائط الاسمنتي، و لم يكن
المشاهد في حاجة إلى مشاهد جنسية مثيرة و مفضوحة ليفهم الذي حدث، أغلق القوس.
إن مسايرة كل جديد يأتي به التقدم التكنلوجي أمر في غاية
الأهمية، و مطلب لا جدال فيه، لكن يجب مراعاة خصوصياتنا الحضارية و الثقافية و
التاريخية، و تقديم نماذج فنية نبيلة الغاية و المقصد ترقى بذوق و تربية ناشئتنا،
لكي يكون الفن فعلا رسالة تسمو بالمشاعر و تهذب السلوك، و لكي ننخرط فعلا في
التنمية و ليس التعرية..
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية