الحدس والمكان

الحدس والمكان


د علي محمد اليوسف    

تمهيد

يشير المفكر صادق جلال العظم على لسان أحد الفلاسفة المختصين بدراسة كانط إلى ما يلي:

1.     لا نستطيع ان نحدس الاشياء من غير مكان. اي ان جميع الاشياء التي نحدسها موجودة في المكان.1

2.     نستطيع حدس المكان من غير الاشياء.2

امعان التفكير في العبارتين تجعلنا نحصل على نتيجة تداخلية بينهما تقوم على تعبيرين متناقضتين. الفقرة الأولى لا نستطيع ان نحدس الاشياء من غير مكان صحيحة كون الاشياء امتلاء مكاني. ونستطيع حدس المكان من غير الاشياء في الفقرة الثانية خاطئة تناقض ما قبلها.

الخطأ هنا يعتبر المكان شكلا او اطارا لفراغ لا يحتوي مادة. حتى إدراك الشكل مجردا عن محتواه لا يمكن تمريره بسهولة الا في معايير منطقية ميتافيزيقية صرف. المكان الادراكي هو مادة حسية وليس تجريدا تصوريا لفظيا في التعبير عنه فقط. والحدس قابلية عقلية تتعامل مع حقائق منطقية يستلهما تسبقها ذخيرة معرفية مخزنة بالذاكرة.

كيف نستطيع التعبير عن التناقض في العبارتين في موائمة لا تعتمد المنطق التجريدي تماما منفردا كما لا تعتمد الحس المادي من غير تجريد تعبير اللغة؟ لو نحن نحاول تحديد معنى المكان في العبارتين نجده تعبيرا عن (الفراغ) المكاني وليس المقصود بالمكان الوعاء الاحتوائي الممتلئ (صورة ومحتوى) بل الفراغ (شكل) مجرد من محتواه المادي. المكان هو وحدة من امتلاء قابل للحدس او الادراك في ثنائية تلازم صورة (شكل) ومحتوى (مادة). الفراغ بلا مادة هو خلاء مكاني وليس مكانا يدرك بدلالتي المادة المحتواة فيه وملازمة الزمان له ايضا.

لا مجال ان نحدس وجود الاشياء من غير ملازمة مكانية احتوائية لها. اي لا مجال أمامنا حدس الفراغ مجردا عن خاصيته المكانية في الاحتواء المادي. ان تقول مكان يعني أنك تقصد امتلاء شيئي محدود. وعندما تقول فراغ انما تكون تقصد شيئا غير موجود ماديا لكنك يمكنك تحديده بأبعاد ثلاثية هي الشكل بلا محتوى. علما ان الابعاد الثلاثية للفراغ ممكن ان تكون محددات لمحتوى مادي. مثال ذلك إدراك غرفة خالية من اي شيء تحتويه. هنا تكون ابعاد الفراغ بالغرفة حددت لنا إدراك مادة هي الغرفة وليس الابعاد مجردة عن دلالة احتوائية لا تشغلها مادة..

حدس الاشياء يلزم عنه نوع من الادراك الذي يجمع توفر صورة ومحتوى لكل مدرك ذهني. والحدس الذي يتخطى معيار المنطق والحس انما يكون ملزما بثنائية الادراك (الزمان – المكان) التي هي ثنائية تجريدية تقود الحدس الى محاكمة صوابه العقلي. بمعنى العقل هو الذي يحدد معنى الادراك لشيء حقيقي من عدمه لمدرك زائف.

الحدس والادراك

في البدء علينا التسليم ان كلا من الحدس والادراك هما عمليتين تتمان داخل المنظومة العقلية اي داخل سلسلة عضوية مترابطة تبدأ بالحواس ومن ثم مرورا بالجملة العصبية لتنتهي بالدماغ. بمعنى لا حدس بدون العقل ولا إدراك من دون العقل أيضا. كما لا يمكننا القول ان تفسير الانطباعات الحسية عن الواقع الخارجي لا تعتمد الخبرات المخزنة في الذاكرة. قبلية الخبرة هي التي تعطي الادراك حقيقته التصورية. وعملية الادراك الحسي عملية مركبة موثوقة في صدقيتها أكثر من الحدس، حيث تتداخل عملية الادراك مع الشعور النفسي وعمليات التذكر وتداعيات الافكار المخزنة وكذلك الوعي واللغة. وكل هذه المفردات لا تتوفر ولا ملزمة للحدس بمقدار الزاميتها المشروطية الإدراك الحسي المادي المباشر. فالإدراك هو عملية عقلية- نفسية تساعد الانسان معرفة عالمه الخارجي، والوصول الى معان ودلالات الاشياء وذلك عن طريق تنظيم المثيرات الحسية لتفسيرها وصياغتها في كليّات ذات معنى. (موقع موضوع الالكتروني). اما الحدس فهي قدرة عقلية تخييلية تصل حقائق الاشياء من دون المرور في آلية الإدراك الحسي الطبيعي البايولوجي لها، بل تحصل على المعلومة بضرب من القوى العقلية خارج المالوف في الادراك الحسي بخطفة من الحدس في مباشرته العقل ومباغتته إدراكيا.

وبالرغم من الاختلاف الواضح بين الحدس والادراك ليس من حيث الآلية فقط بل من حيث التصور التمثلي للأشياء تصورا حقيقيا صحيحا فلا بد من ان يتوفر العقل على معرفة قبلية مخزنة يكون مصدرها الذاكرة كما أشرنا له سابقا. 

كانط والمكان المحض

كانط في فرضيته الادراكية الحسية او الحدسية ذهب اننا يمكننا نزع صورة الشيء عن محتواه وندركهما كلا منهما على انفراد مجردين من تعالقهما شكلا ومحتوى، نجده ذهب ابعد من ذلك قائلا:" المكان ليس تصورا حسيا مشتقا من الخبرات الخارجية. والمكان تمّثل قبلي وضروري يكمن وراء جميع الحدوس الخارجية. ونحن لا نستطيع تمثل غياب المكان ولكن باستطاعتنا ان نفكر به خاليا من الأشياء" 3

ملاحظات تعقيبية:

-         المكان وجود مادي لا تخلقه تصورات وتمثلات العقل الإدراكية. وتجريد تصوراتنا الحسية عن المكان هي نفس تصورات التفكير في اي موضوع عقلي. والضرورة الموجودية للمكان تستبق فكرة المكان حدسيا مقطوعة الاوصال بعوامل انبثاقها المنطقي الحي الطبيعي كمادة. المكان تجريد مادي وليس تصورا يبتدعه الحدس او الحس ويخلعه على الأشياء.

-         كل تصور حسي للمكان حدسيا كان او تجريبيا هو تمّثل لخبرات اولية مكتسبة سابقة عنه. وبذلك عندها يصح قولنا المكان تمثل قبلي وضروري يكمن وراء جميع الحدوسات الخارجية.

وعندما يكون المكان قبليا على الحدس الادراكي فهذا يلزم بالضرورة خبرة مخزنة بالذاكرة عنه لإتمام عملية ادراكه بصورة صحيحة سليمة. الحدس استثارة معرفية يتم خارج توقعات الادراكات الحسية يأتي على شكل ومضة.

-         قول كانط " لا نستطيع تمثل غياب المكان لكن باستطاعتنا ان نفكر به خاليا من الاشياء" غياب وحضور المكان تصوريا لا يتم بمعيارية الفراغ، بل بمعيارية الاحتواء الامتلائي بالمادة، تصورنا الفراغ وتمثله لا ينسحب على غياب وحضور المكان كمحتوى. الفراغ هو صفة مادية لمكان غير متعيّن ولا محدود لكن لا ينوب عنه في الدلالة والمعنى. فالمكان غير الفراغ رغم تعالقهما الثنائي.

-         يبقى المكان في جميع تجلياته وتحولاته مقرونا بمادة يحتويها، اما ان نقصر ميتافيزيقا التمثلات العقلية المجردة ان تخلق حقائق مكانية نعطيها صفة الادراك الواقعي الحقيقي ولم تكن موجودة سابقا فهذه استحالة يعجز التفكير العقلي القيام بها لانعدام آلية الادراك السليم..

 

الهوامش:

1.     صادق جلال العظم /دراسات في الفلسفة الغربية المعاصرة. ص61

2.     نفسه نفس الصفحة

3.     نفسه ص56 – ص 58 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس