الأخلاق/
الايمان الديني والفلسفة
08 مارس 2021
د علي محمد اليوسف
فيلسوف عصر النهضة جون لوك 1632- 1704 رغم نزعته العلمية
التجريبية، وصرامته ألمنهجية في اعتماده مرجعية العقل، إلا أننا نجده مؤمنا بالله
الكفيل بسحب الانسان نحو مراتب الأخلاق الرفيعة السامية التي تحقق له سعادته
الارضية وهو ما لا يمكن نكرانه كون عماد الأخلاق تهذيب التدّين لها وليس مصدرها
الوحيد هو الدين..
جون لوك يعتبر الاخلاق ضرورة حياتية لا غنى للإنسان عنها،
والضامن والمرجع في التزّود بها هو الإيمان اليقيني القطعي بوجود الله كضرورة
ماسّة قصوى في تنظيم حياة الانسان على أسس أخلاقية سليمة. "الله الذي يمتلك
القوة اللامتناهية، والخيرية، والحكمة. ما يرتّب على البشر ومن مصلحتهم طاعة أوامره،
ولما كان الناس لا يمتلكون أفكارا فطرية, ولديهم قلقا فطريا يلازمهم مدى الحياة،
فما عليهم سوى أن يخبروا اللذة ويتجنّبوا الألم ." 1 هنا جون لوك في دعوته
الإيمانية الأخلاقية هذه يتنازعه تيّاران أحدهما منهج الفلسفة التجريبية القائمة
على تفعيل العقل البرهاني والمنطق الصارم، والثاني هو الوازع الأخلاقي الذي لا
يناله الانسان سوى بالإيمان اليقيني القطعي بوجود الله والامتثال لأوامره المنصوص
عليها في الكتب المقدسة الدينية بغض النظر عن الفوارق بين الاديان في مسألة
الاخلاق.
ويسعى لوك خلق توليفة توفيقية تجمعهما معا منهج الاخلاق
في الفلسفة والإيمان التديّني بالله.. لذا نجد جون لوك عمد استنساخ آراء زميله
بليز باسكال 1623- 1662 في مذهبه الفلسفي الديني البراجماتي في وجوب الإيمان بوجود
الله كضرورة أولى لا يستطيع الانسان العيش بلا قلق يلازمه من دون الالتزام بالإيمان
الديني.
فالإيمان القلبي البراجماتي حسب باسكال بوجود الله لا
يخسر به الانسان شيئا يندم عليه في حياته، كما لا يخسر شيئا يندم عليه بعد مماته.
فالإيمان الأرضي بالله يمنح الانسان الطمأنينة بالحياة ويزيل عنه القلق والخوف
الملازم له. وسوف لن يخسر شيئا في حال لم يتحقق له حلم الخلود في حياة ثانية بعد
الممات.
ويصف جون لوك الله "أن الاساس الحقيقي للأخلاق هو إرادة
الله وقوته الذي يرى الانسان في الظلام ويمتلك بيده الجزاءات والعقوبات، وهو قوي
بدرجة تكفي لمحاسبة المذنب الأكثر تفاخرا". 2 جون لوك يحاول تجذير الاخلاق
التي هي سلوك مجتمعي في تشذيبها من الرغبات الغريزية التي لا ينكرها أنها حق
الانسان التمتع المعتدل بإشباعها ليس على حساب الآخرين. ومن واجب كل إنسان يرغب
تحقيق لذّته بالحياة أن يحتكم بها الى ما يدعو له الإيمان الديني. ومن مصلحة كل شخص
أن يكون سلوكه مستمّدا منه.
الله أعطى الانسان عقلا يعرف به تمييز حقائق الأخلاق عن
طريق الحدس العقلاني البرهاني، زائدا الوحي فضلا عما يكتسبه العقل من تعاليم أخلاقية
متضّمنة في الكتب السماوية، لذا يمكن ترسيخ الأخلاق في تكامل تجربة العقل والوحي.
ولا ينسى جون لوك تحذيره من عواقب خرق الأخلاق الإيمانية بأن الانسان يتحمّل مسؤوليته
أمام الله وأمام أقرانه في سلوكه الاخلاقي.
الاخلاق الفطرية والمكتسبة؟
جون لوك في الوقت الذي ينكر بإصرار منهجي عقلي مقولة
الأفكار الفطرية إلا أننا نجده يخونه التعبير حينما يستعمل لفظتي الفطرية المعرفية،
والغريزة الوراثية بمعنى واحد دليل قوله " العقل حر أن يفكر مليّا وينتقي
ويختار، وهو يفعل ذلك وفقا لرغبته الفطرية في تحقيق اللذة وكراهية الالم."2
هنا جون لوك يعمد جعل كل ما هو فطري هو غريزي وكلاهما تحت وصاية العقل عليهما.
اللذة تكون فطرية عندما تكون غريزة موروثة وليست مكتسبة
هي حاصل تواضع المجتمع على تداولها وممارستها. لذا يكون كل ما هو فطري غريزيا لا
يستطيع العقل التحّكم به بالإلغاء أو الانصياع البهيمي بإشباعه. أما المعارف فلا
تكون موروثة على مستوى توريث العقل لها بل تكون تحصيل حاصل مكتسب من تراكم خبرة
مستمدة من المجتمع والمحيط بمرور المراحل العمرية.. الخبرات المكتسبة ليست خبرات
فطرية موروثة. والوراثة تشمل الغرائز وما تحمله كروموسومات الفرد الانفرادية التي
تتوزع خصائص تشكيلة جسمه كافة.
والغرائز الفطرية هي موروثات تلعب فيها الجينات دورا
كبيرا في زرعها داخل تكوين الانسان بيولوجيا وفي وظائف الجسم كاملة. لذا تكون
الغرائز فطرية على صعيد الإشباع مثل لذة الجنس والإناسة المجتمعية المزروعة
بالكائن النوعي الانسان. وحتى نجد فطرية التجمّع النوعي موجودة في الحيوان من
نوعه.
أما اجتناب الألم وما تستشعره النفس من بواعث وإحساسات
ورغائب إشباعية يتوزّعها السلوك والضمير والاخلاق والحب والعاطفة والحزن والفرح
والخوف والقلق وغير ذلك من تجليّات نفسية هي ليست فطرية وانما هي استعداد فطري مكتسب بالصقل والتهذيب ويتحّكم بها الفرد
بالممارسة والعادة والتقاليد الاجتماعية..
الوحي والمعجزات
يذهب جون لوك الإيمان بالوحي هو جوهر لا يتعارض مع العقل
الذي نسترشد به في كل شيء. وعلينا الاحتكام في تصديق الوحي بمرجعية الايمان بالمعجزات،
التي هي فوق العقل لكنها لا تناقضه. من الملاحظ محاولة جون لوك الحّث على الإيمان
الديني بالوحي بمرجعية الاحتكام للمعجزات التي لا تقل إشكاليتها مع العقل عن
إشكالية الوحي مع العقل وكلتاهما إشكاليتان هما فوق مدركات العقل، لكنهما لا
تناقضان العقل حسب ما يرغب جون لوك لا حسب ما تفرضه علينا طبيعة العقل الإدراكية
المعرفية. وجون لوك فيلسوف عقلي تجريبي يؤمن بالإدراك التجريبي الحسّي الطريق
الوحيد في فهمنا العالم.. في نفس وقت يدعو إمكانية البرهنة على المعجزات بالعقل
المسّتمد من الإيمان بالله والوحي وهي دعوة ميتافيزيقية صعبة التحقق والتنفيذ...
القضية الأخرى التي يثيرها جون لوك والتي يلتقي بها مع
ديكارت ويختلفان بالأفكار الفطرية التي يؤمن بها ديكارت ويرفضها جون لوك. الذي
يقول في تسويغ حل مسائل اللاهوت بمنطق العقل "إننا لا نستطيع القبول على الإطلاق
بحقيقة مناقضة بصورة واضحة ومميزة لمعرفتنا الواضحة المتميزة " 3 مبدأ الوضوح
والتميّز الذي اعتمده ديكارت واعتمده جون لوك وأعتمده فينجشتين وأخيرا جورج مور في
التحليلية المنطقية هو أن الوضوح والتمييز الذي لا يحتاج برهان العقل عليه هي
(البديهيات) المعرفية الشيئية التي لا مجال الشك بها أو مناقشتها، لأن مبدأ
الشيئية في الدال والمدلول الفكري اللغوي في التعبير هما من التطابق الذي يلغي أي
نوع من الشك الذي يحتاج برهان العقل عليه، مثل قولنا هذا لون ابيض أو هذه منضدة
وهكذا من أمثلة شيئية بديهية بالإدراك ألمباشر لها ويتقبّل صحتها العقل بالحدس
والحس المباشر الذي يكتسب خاصيّته بالتكرار الذي يصبح عادة بديهية, وهو ما لا
يمكننا تعميمه على قضايا ومشكلات فلسفية وفكرية لا يمكن حلّها بالوضوح والتمييز
الذي تتطابق به الحواس ومدركات الذهن مع واقع دلالة اللغة والفكر في التعبير عن
مدلول شيئي لا يتقّبل برهان عقلي عليه لأنه من بديهيات الموجودات والظواهر المدركة
سببيّا أو غير سببيا.
نخلص من هذا الى أن إشكالية الوحي والمعجزات التي هي (فوق
عقلية) يجب التسليم بها ليس بالاحتكام العقلي بالوضوح الذي لا يتعارض معها حسب جون
لوك, وإنما بالإيمان القلبي الذي لا يخضع الى صرامة العقل التجريبية. من السهل على
فيلسوف يحترم مخرجات العقل العلمية جواز قوله أن إشكاليات مثل الوحي والمعجزات
التي هي فوق عقلية لا تتعارض مع العقل. حيث يؤكد جون لوك في "مقال في الفهم
البشري" أن وجود الله ومبادئ الأخلاق يمكن البرهنة عليها بالعقل، والوحي
بالكتب المقدسة معرفة لا تناقض العقل ويمكن امتحان صدقيتها بالمعجزات "4.
جون لوك يلتقي ديكارت في محاولتهما خلق توليفة تجمع
العقل والايمان الديني والعلم وهو ما لم يتحقق لكليهما في القرن السابع عشر،
فالنسق الإدراكي المفهومي للعقل لا يتقبّل الانتقائية بالتوظيف المعرفي له, لذا
نجد لوك في سعيه خلق مثل تلك التوليفة الافتعالية كان مناقضا العقل الذي إعتبره
الملاذ الاول والاخير الذي يجب أن نحتكم اليه. وهو كما قلنا نفس المّطب الذي وقع
فيه ديكارت في محاولة تطويع العقل لاستيعاب المتناقضات بين العقل واللاهوت
التديّني الوضعي التي كانت بالنتيجة والمحصّلة محاولة فاشلة.
مصدر الأخلاق
من الأمور التي استوقفت جون لوك هو مصدر الأخلاق حين
يقول "يمكننا تطوير مذهب أخلاقي مستقل عن المنحى التجريبي يقوم على اعتبارات
لاهوتية يمكن البرهنة عليها" 5
نستطيع تفسير هذا الرأي بما تحتمله العبارة
السابقة بما يلي:
-
جون لوك يقرّ ضمنيا أن اللاهوت الديني ليس هو المصدر
الوحيد للأخلاق وهو تصريح صائب حتى وإن عارضه متزمتون عديدون.
-
الأخلاق غير المستمّدة من اللاهوت الديني يمكن إخضاعها
للعقل البرهاني غير المتعارض معها. بحيث لا تقاطع الإيمان التدّيني ولا تقاطع
ممانعة العقل الانصياع له. وهذه معادلة قلقة غير متوازنة ليس من السهولة التثّبت
منها.. من الأمور التي يتجاهلها لوك في مبحث الأخلاق هي حقيقة الاختلاف الأخلاقي
بمعيارية اختلاف المصدر، فالأخلاق التي مصدرها اللاهوت الديني في الوحي والمعجزات
والكتب السماوية يطغى عليها الجانب الروحاني الميتافيزيقي الذي لا يطاوع صرامة
العقل، أما الأخلاق الوضعية المجتمعية العامة كسلوك فهي تقوم على قوانين وضعية في
تنظيم العلاقات الاخلاقية وفقا لمعطيات عقلية لا تحتاج البرهنة العقلية عليها أنها
تخدم الانسان في حياته ولا تقاطع تعاليم اللاهوت الأخلاقية الروحانية. من السهولة استطاعتنا
محاكمة صلاحية الأخلاق المجتمعية للفرد في عدم تقاطعها مع الروحانيات اللاهوتية
الدينية وكذلك لا تقاطع تنفيذ ما يجده العقل يحقق مصالح المجتمع.
هذا الالتباس المتداخل يقودنا الى مسألة هل الأخلاق وحدة
كليّة متجانسة تقوم على مثل وقيم وتقاليد لا تكسر توصّيات وتعاليم اللاهوت الديني
ولا تقاطع قوانين العقل؟ من جانب الإجابة يجب أن نقرّ بأن الأخلاق الروحانية هي
فردية أكثر منها مجتمعية، لأن تنظيم العلاقة الأخلاقية الروحانية لا تخضع لسلطة
القوانين الوضعية الأخلاقية التي تنّظم أخلاق المجتمع قبل أخلاق الفرد التي يكفلها
ما يسري على الجميع من انضباط روحاني...
المسألة الثانية ان الأخلاق ليست وحدة متجانسة تحكمّها
ضوابط اللاهوت والقوانين الوضعية ولا مشكلة تبقى عالقة في هذا النوع من الاختلاف. فلو
نحن أخذنا ترجيح أن مصدر الأخلاق الوحيد هو تعاليم الإيمان التديني المستمدة من
مواعظ الكتب المقدسة الدينية نقع في إشكالية وجود شعوب تسكن معنا كوكب الارض اليوم
الايمان الديني بينها لا يتجاوز 20 بالمئة من مجموع الشعب وهم ينظمّون حياتهم الأخلاقية
على وفق قوانين وضعية طوعية ملزمة يحتاج لاهوت الاديان التّعلم منها الأخلاق مثال
اليابان، الصين، دول أوربية، الدول الاسكندنافية وغيرها من دول شرق آسيا.
ويختم جون لوك دعوته الاخلاقية أن الايمان بالله هو
الطريق الوحيد لتوفير أمن مجتمعي تسوده علاقات المساواة التي تقوم على أخلاق
التسامح وقبول الآخر، مستثنيا الملحدين في تخريبهم أخلاق المجتمع الدينية والمدنية،
معتبرا الملاحدة الذين ينكرون وجود الله هم بالنتيجة لا يؤمنون بأخلاق تقوم على
المساواة والتسامح وتعزيز تماسك المجتمع بعيدا عن الكراهية والانتقام وانتهاك
الاخلاق الخيرية.
توضيح عرضي
قبل البدء أود تنوير القارئ أني لا أساوي بين النفس
والروح، ولا أستعمل مفردة النفس بالدلالة على معنى الروح وكذلك العكس لا أستخدم
معنى الروح في الدلالة على معنى النفس، ديكارت وعديد من الفلاسفة يخلطون بين النفس
والروح مفردتان بالدلالة على معنى واحد، وكذلك يفعلون بالخلط بين العقل كعضو
بيولوجي من تكوينات أعضاء الجسم وبين العقل اللوغوس الذي هو خطاب العقل الصادر
عنه.
نعرّج إلى تفريق
حول الإيمان الديني الذي هو إشباع حاجة (نفسية) صرفة ونتحفّظ على القول بتعميم الإيمان
الديني ميتافيزيقيا على أنه نزعة لا مادية في إشباع حاجة (روحانية) متعاليّة على
الملذّات المادية، التي لا ينتج عنها إشباع حاجات ماديّة كما هي إشباع رغبات النفس
التي هي تجريد لامادي أيضا ينتج عنها إشباع رغائب بيولوجية في إدامة حياة الانسان..
فالروح سمو عاطفي وجداني ترتبط بالوعي المتعالي على حاجات النفس المادية الحياتية
التي هي الأخرى النفس لا مادية أيضا لكنها مقترنة بإشباع حاجات بيولوجية سلوكية
يحتاجها التوازن السلوكي المجتمعي بالحياة، والنفس بخلاف الروح وكلاهما مصطلحان لا
ماديّان تكون محدودة بحاجة إشباع رغبة الطمأنينة والسلوك الاخلاقي والعاطفة
والضمير والرحمة وحب الخير والابتعاد عن الشرور والآثام وكلها مفردات تعبّر عن تداخل
علاقة الفرد مع المجتمع.... أما الإيمان الطبيعي الغرائزي فهو وعي لإشباع حاجات
بيولوجية مادية يحتاجها الانسان في حياته اليومية التي هي رغائب النفس وبيولوجيا
الجسم الانساني. وكثيرا ما نخلط بالفلسفة والدين بين النفس بمفهوم علم النفس مع
لفظة الروح بمعناها الديني أو الصوفي التي هي لفظة ميتافيزيقية- نفسية أشمل من حاجات
وتجليّات النفس المطلبية ولا ترادفها لفظة النفس كما هي في أدبيات علم النفس وعلم
وظائف الجملة العصبية. كما هو الخطأ المتداول بالفلسفة التي يتعامل مع النفس أنها
وعي وجودي. وغالبا ما يتم تداول لفظة الروح بأدبيات الاديان وفي الصوفية أكثر
تركيزا من مفهوم النفس. ومن الفلاسفة مثل ديكارت اعتبر (النفس) خالدة لأنها غير
مادية ولم يقل خلود (الروح) التي هي أيضا غير مادية وأقرب لتلبية المعنى المراد من
الخلود، والأرجح أن تبلور مصطلح الروح كي يكون المقصود به الشعور النفسي العاطفي
غير المادي الذي يكون متعاليا متسامّيا على النفس وحاجاتها الجسدية وهي أكثر
تجريدا نفسيا مرتبطا بالوعي الايماني الديني، ومعظم أدبيات الاديان تقصد خلود
الروح وليس خلود النفس ولا نعدم وجود الخلط بين اللفظتين بالفلسفة كون علم النفس
لا يعطي معنى محددا للنفس من خلال الارتباط بالوعي والتفكير والسلوك المتداخل مع علم
الاعصاب والدماغ وبيولوجيا المنطقة المحددة المسؤولة في القشرة الجبهوية الامامية
الدماغية من حجم الجمجمة عن مثل هذه المصطلحات التي استطاع علم وظائف الاعضاء
والجهاز العصبي وفسلجة بيولوجيا الدماغ إعطائه تعريفات علمية محددة لكل مصطلح
ملتبس المعنى بالفلسفة وعلم النفس...
المذاهب الاخلاقية والدينية في القرن الثامن عشر
كان لجون لوك وديفيد هيوم وبيركلي تأثيرا استثنائيا ليس
بالفلسفة فقط في القرن الثامن عشر، بل في الأخلاق واللاهوت، فقد رفع هيوم المنهج
التجريبي في البرهنة على الأخلاق وعلم الاجتماع، ما جعل جون لوك يذهب بعيدا في
تعميمه المنهج التجريبي في وجوب تحكيم العقل لمعالجة ليس فقط القضايا الاخلاقية
والعلوم الاجتماعية، بل البرهنة العقلية على وجود الخالق الله وإثبات الإيمان
بالمعجزات الدينية. ونشر جون لوك كتابه "معقولية المسيحية" في الرد على
تيّارين تعاظم شأنهما في منحيين هما أولا ردّه على النزعة الإلحادية التي يتزّعمها
ديفيد هيوم وفلاسفة فرنسيين وألمان، والمنحى الثاني ردّه على مزاعم ما سمّي بمذهب
"المؤلهة الطبيعيون" معتبرا ألوهية المسيح معقولة يمكن التجربة عقليا
عليها. وأعتبر الوهية المسيح معقولة بمرجعية العقل. ورفع جون لوك شعار "ما فوق
العقل" في محاولته المزاوجة القائمة على الإيمان بالوحي مع الاستعانة بالعقل
معا. 7 ورفض شعار ما فوق العقل كما يتوضّح معنا لاحقا.
الأخلاق والعقل
هذه الأرضية التي مررنا عليها سريعا جعلت الإيرل الثالث
أوف شافتسبري "1671- 1713" يتبّنى النزعة العقلية التجريبية نقلا عن أستاذه
ومربيّه جون لوك، ونادى أن الانسان يمتلك نوعين من العواطف الذاتية التي تدفعه نحو
تحقيق مصالحه الخاصة، والثانية العواطف الطبيعية الاجتماعية التي يحاول بها تحقيق
مصالح مجتمعه وسعادة الآخرين. وأشار الى أن الانسان يمتلك طبائع بشرية شريرة مثل
الحسد والغيرة والأنانية، وأبرز شيء أشار له أن الأخلاق ليس مصدرها ديني فقط ولم
يقاطع أو يهاجم الدين.8. وعمد فرانسيس هايتشسون "1694-1747" أستاذ فلسفة
الأخلاق في كلاسكو ربطه ما هو أخلاقي بكل ما هو جيد وجميل وينسجم مع الذوق
الاخلاقي العام، فالجميل للفرد هو جميل للمجتمع. وبخلاف ذلك تكون الأخلاق السير
نحو الانحطاط والشر والقبح، وحين سئل كيف لنا الاحتكام ما يقينا عدم الانزلاق نحو
كل ما هو وضيع أخلاقيا أجاب "يكون ذلك بالرجوع الى "الحاسّة الخلقية
" الفطرية التي هي مصدر الشعور الجمالي بالحياة.
الأخلاق والضمير
جوزيف بتلر"1692- 1752" كان أسقفا في الكنيسة الإنجليزية،
حاول أيضا ربط الأخلاق بالعقل مقتفيا آثار جون لوك واعتبر كل إنجاز للعقل في منهج
التجريب لا يتناقض مع وجود الله، وعلينا الاحتكام الأخلاقي الى الله الذي زرع في أعماقنا
الضمير، الملكة العقلية النوعية التي يمتلكها الانسان وحده، وفي اعتماد الضمير
يمكننا التمييز بين ما هو أخلاقي مفيد وما هو غير أخلاقي فاسد. من جانبه قام
ريتشارد برايس 2723- 1791 الذي سبق كانط في دعوته عدم إقامة الأخلاق على دوافع
ذاتية مصدرها النفس مثل الرغبة في تحقيق اللذّة، والمحبّة الغريزية، والحاسّة الأخلاقية،
"فالقوانين الأخلاقية هي "عقلية" و "ثابتة " و
"أبدية " لأن عقلنا يعرفها بصورة حدسية "9
مذهب المؤلهة الطبيعيون
ظهر مذهب المؤلهة الطبيعيين في بريطانيا القرن الثامن
عشر وهم فرقة ينكرون التثليث ويؤمنون بالواحدية الإلهية، وقد استهوتهم فكرة تغليب
الطابع الطبيعي للدين، ووجدوا العودة الى العصور البدائية ما يعزز وجهة نظرهم أن أصل
الدين هو الطبيعة، وانبثق عن هذا التمجيد للطبيعة بما عرف بوحدة الوجود كما هو في
فلسفة اسبينوزا وهيجل. ونجد هذا المبدأ بشكل مادي متطرف عند فيورباخ الذي لم
يستعمل مصطلح وحدة الوجود، بل اعتبر العلاقة بين الطبيعة والانسان هي منشأ الدين.
وأصدر كتابين بهذا المعنى "جوهر المسيحية " و "أصل الدين ".
ورفضوا أصحاب مذهب المؤلهة الطبيعية أن يكون هناك إدراك فوق عقلي حسب ادعاء لوك
فالعقل يقبل برهان التجربة ولا يقبل غيرها من براهين ليست من طبيعته العلمية.
كما أثار مذهب المؤلهة الطبيعيين حفيظة ديفيد هيوم فأصدر
كتابه "محاورات في الدين الطبيعي" هاجمهم فيه مشيرا الى أن العودة بأصول
الدين الى مراحل العصور البدائية غير صحيح ولا يمكن القبول به, كون تلك الديانات
البدائية لا تؤمن لا بالوحي ولا بالتوحيد بل تؤمن بتعدد الآلهة من صنعها. لكن مع
كل هذا برز عديد من المفكرين الذين وجدوا بمذهب المؤلهة الطبيعيين أنهم كانوا دون
دراية منهم فتحوا أبواب دراسة الأديان بوسائل علمية تقوم على منهج البحث العلمي
الذي يتجاوز الأساطير والخرافات وما يتعالق مع الميتافيزيقا الدينية خارج قدسية
ونزاهة الأديان في حقيقتها الإيمانية الروحانية. وقد وصل الامر اليوم الى نشوء علم
جديد يسمى علم الاديان الذي يعتمد مدونات التاريخ وأركيولوجيا الحفريات الاثارية
بمنهج علمي صرف.
هوامش:
6.5.4.3.2.1 وليم
رايت، تاريخ الفلسفة الحديثة، ت محمود سيد احمد، مراجعة امام عبد الفتاح، الصفحتان
174-175
7. نفسه ص 226
8. نفسه ص 227
9. نفسه ص 228
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق