الحرية والتعددية عند الفيلسوفة حنه أرندت

 الحرية والتعددية عند الفيلسوفة حنه أرندت 

                                                                    23 يناير 2021


 ا.د. ابراهيم طلبه سلكها

 استاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة وكيل شؤون خدمة المجتمع وتنمية البيئة كلية الاداب- جامعة طنطا - مصر



تمهيد

    لا شك أن الفلسفة النسوية (الفيمينيزم) Feminism متشعبة الرؤى والاتجاهات وترتبط بأنشطة الحضارة الانسانية المختلفة ومنها: النسوية العلمية وهي اسهامات الفيلسوفات فى مجالات العلم المختلفة، والنسوية السياسية وهي مواقف الفيلسوفات من قضايا السياسة المختلفة، والنسوية اللغوية وهي دراسة الفيلسوفات لقضايا اللغة وعلاقتها بالجنوسة، والنسوية الأبستيمولوجية وهي رؤى الفيلسوفات حول مشكلات المعرفة والنقد الفلسفى، والنسوية الأخلاقية وهي أقوال الفيلسوفات حول قضايا الأخلاق.. إلخ.

   وللفلسفة النسوية صور مختلفة من أبرزها النسوية الليبرالية، النسوية الماركسية، النسوية الراديكالية، النسوية المثلية والنسوية البيئية إلخ. وبوجه عام تهدف النسوية الى تفكيك المركزية الذكورية، والغاء التمييزات الجنسية والعنصرية والطبقية، وأى نزعة من نزعات الهيمنة الاجتماعية. وتحاول تحرير المرأة من عبودية الرجل وتطالب بعالم تتساوى فيه المرأة بالرجل، وتؤكد أن المرأة ليست جنسا آخر، وأن الرجل ليس هو الإنسان، وانما الذكورة والانوثة هما الجانبان الجوهريان للوجود البشرى، لكل منهما دوره ويتكاملان معا فى بناء الحضارة وتاسيس المعارف المختلفة... إلخ. 

  وتضم خريطة الفلسفة النسوية العديد من الفيلسوفات عبر مراحلها المختلفة منذ مرحلة الحضارات الشرقية القديمة والفلسفة اليونانية مرورا بالمرحلة الوسطى وانتهاءا بالمرحلة الحديثة والمعاصرة. ولعل من أبرز هؤلاء الفيلسوفات ثيمستوكليا، ثيانو، ايزارا، بركتيونى، هيباثيا، اليزبيث بوهمة، مارى استيل، هيلدا سميث، مارى ولستونكرافت، سوزان ستبنج، سوزان لانجر، سيمون دى بوفوار، بيتى فريدان، ساندرا بارتكى، جلوريا شتينيم، كيت مليت، جوديث بتلر، جوليا كريستيفا، هيلين سيسكو، لوسي اريغارى، نانسى فريزر، ودروسيلا كورنل، سوزان موللر أوكين وليندا جين شيفرد 00ألخ. ولقد أقامت فيلسوفات كثيرات علاقة حب وصداقة مع فلاسفة كما نجد بين سيمون دى بوفوار وجان بول سارتر، وبين حنه أرندت ومارتن هيدجر.. إلخ. واذا كانت الفيلسوفة سيمون دى بوفوار هى الأم الكبرى للنسوية، فان حنه أرندت هى من أبرز الفيلسوفات شهرة فى مجال الفلسفة السياسية، ومن أهم من كتب حول الشمولية والسلطة والعنف والثورة وتكتيكات الشغب. لكن إذا كان ذلك كذلك فما موقف أرندت من قضية " الحرية والتعددية "؟ هذا ما سوف نقدمه فى الصفحات التالية:

 أولا: التعريف بالفيلسوفة حنه أرندت

    حنه أرندت Hannah Arendt من رواد الفكر السياسى النقدى البارزين فى القرن العشرين؛ ولدت عام 1906 م فى مدينة هانوفر فى محيط يهودى ألمانى محب للأدب والفلسفة، وماتت فى نيويورك عام 1975م. وعبر حياتها وبعد إنهاء دراستها الثانوية التحقت بجامعة ماربورج عام 1924م لدراسة الفلسفة على يد " مارتن هيدجر "، الذي دخلت معه فى علاقة غرامية هائلة كان لها تأثيرها الدائم على فكرها. وانتقلت بعد عام إلى جامعة فرايبورج حيث قضت عاماً دراسياً واحداً تحضر محاضرات " أدموند هوسرل ". وانتقلت إلى جامعة هايدلبرج الألمانية عام 1926 للدراسة على يد " كارل ياسبرز " الذي أقامت معه علاقة صداقة فكرية وشخصية استمرت لوقت طويل. (1) فقد أشرف على رسالتها للدكتوراة تحت عنوان " مفهوم الحب فى فلسفة القديس أوغسطين ". (2)

   وحنة أرندت باحثة يهودية، وفيلسوفة، وصحفية، ومراجعة لغوية ومحاضرة جامعية، بل هى من أكبر المنظرين فى حقل الدراسات السياسية والاجتماعية، استطاعت أن تحفر لنفسها - خلال فترة عملها التى امتدت لأربعين عاماً - مكاناً محترماً فى الفكر السياسى بواسطة أعمالها العديدة والتى تتضمن: "الوضع البشرى"، "أصول الشمولية"، "بين الماضى والمستقبل"، "عن الثورة"، "عن العنف"، "حياة العقل"، "أزمة الثقافة"، " أزمة الجمهورية ".. الخ.

         وأكد كثير من المفكرين مكانتها المتميزة، فمثلاً قال المؤرخ الشهير إرنست جيلنر: "إن حياة هذه الناقدة اللاذعة تجسد جملة الحياة الفكرية والسياسية فى عدة قرون أوربية".(3) وقالت سيمون سويفت: "حنة أرندت  مفكرة مهمة لكل من يريد معرفة القصة المؤسفة للتاريخ الأوربى فى القرن العشرين، ويؤمن بأن الهدف العام من التفكير هو تنوير العالم من حولنا. فلقد اشتهرت فى مجالات النظرية السياسية والفلسفية والتاريخ الحديث والدراسات الثقافية، وهي أيضاً الروح الموجهة لظهور اتجاهات دراسة الهولوكوست والدراسات اليهودية المختلفة. فضلاً عن إسلوبها الأدبى الرائع الذي عبرت من خلاله عن توجهاتها السياسية والفلسفية. فلقد أبرزت دور الأدب، وبخاصة الأدب القصصي، فى فهم التاريخ والهوية الثقافية والسياسية "(4).

         وقال جون وليامز: "إن جميع الأعمال التى اهتمت بدراسة تجربة القرن العشرين مع الإبادة الجماعية و" التطهير العرقى" مبنية – بشكل مباشر أو غير مباشر – على أفكار أرندت. فلقد كتبت فيما بين 1945 و1949 رائعتها الأدبية " أصول الشمولية " لكشف " جوانب العنف غير المسبوقة " فى الاستخدام النازى للإرهاب والإبادة الجماعية لمعاصريها وكذلك لنفسها ". (5) كما يعد هذا الكتاب " أصول الشمولية " أهم مرجع كلاسيكى فى العلم السياسى الحديث .(6) فهو الذى حقق لها تلك المكانة المرموقة التى تتبوؤها فى حقل العلوم السياسية .  

          وقالت مارجريت كانوفان: " تعد حنة أرندت من أبرز المنظريين السياسيين.. وبالرغم من أنها لم تفكر فى استقطاب أتباع أو حواريين لها، أو تؤسس مدرسة فكرية، فإنها كانت معلمة باهرة، حيث فتحت أعين قرائها للتعرف على طرق جديدة للنظر فى العالم والأمور البشرية المختلفة ". (7)

     وقال بيتر بايير: ".. تعد حنة أرندت من أعظم المفكرات السياسيات فى القرن العشرين.. فهى صاحبة شخصية خاصة ذات وقفات مهمة غير مألوفة حول العديد من الموضوعات.. "(8)

         وقد تناولت أرندت فى أعمالها المختلفة العديد من موضوعات الفلسفة السياسية مثل: الشمولية، والثورة، والعنف، والحرية، والديمقراطية، والدولة، والاستبداد، والإرهاب، والسلطة، والليبرالية، والحكم، والمواطنة، والفعل السياسي، والنظرية السياسية.. الخ. ولا تزال نظرياتها الفلسفية والسياسية تدرس فى معظم الجامعات الأوربية وتحظى بمكانة كبيرة بين المفكرين.. وقد طالبت أرندت بتأسيس علم سياسى جديد يعالج إشكاليات الفهم والسياسة والجريمة والعقاب والعفو أو الصفح والأحداث السياسية الخطيرة فى القرن العشرين والتى أثرت على أنواع حكمنا الأخلاقى والسياسى، ووضع إطار جديد يساعدنا على فهم حقيقة تلك المخاطر وعلى رأسها النازية Nazism والستالينية Stalinism. وقدمت هذا التصور فى كتابها "أصول الشمولية" الذي تناولت فيه صور الشمولية وعناصرها وتوابعها فى الدول المختلفة. (9)

         لقد درست أرندت الفلسفة على يد نخبة من الفلاسفة على رأسهم مارتن هيدجر وكارل ياسبرز، لكنها كثيراً ما تمردت عليها معلنة انحيازها للسياسة. ولذلك تضاربت الآراء حول ما إذا كانت أرندت تنتمي إلى حقل الفلسفة أم إلى مجال السياسة.

         وإذا كانت أرندت قد انقلبت على الفلسفة وعارضت تاريخها، فهل يعنى هذا إثارة الشكوك فى كونها تستحق لقب " فيلسوفة "؟ الحق أن قرار أرندت مغادرة عالم الفلسفة الأكاديمية سببه هو قبول الاعتراف بالنظرية السياسية فى العالم الفكري. فلقد قالت أرندت: " لا أعتقد أننى مقبولة فى دائرة الفلاسفة". كما أن فحص العديد من الدراسات التى تناولت فكرها منذ موتها تكشف أن ما قدمته من آراء عن العلم السياسى هو ما دفع الباحثين إلى الاهتمام بفكرها. فعندما تعمق الفلاسفة فى فهم كتاباتها واستكشاف كنوزها أعطوا الانطباع بأن أعمالها يجب تناولها أساساً على أنها تشكل هيكلاً سياسياً متماسكاً. ومع ذلك يمكن اكتشاف جانبٍ فلسفى مهم فى أعمالها. فما تعكسه كتاباتها يفيد بأنها فيلسوفة أكثر من كونها عالمة سياسية. وكما كتب ياسبرز إليها ذات مرة: "إن كتبك السياسية الرائعة هى كتب فلسفية فى المقام الأول". وما يجب التركيز عليه هنا هو الوقوف على مكانة أرندت فى حوليات الفلسفة الغربية. (10)

         وأرندت تدين بالفضل لكثير من المفكرين الكبار وعلى رأسهم هيدجر، ماركس (1818-1883) ونيتشه (1844-1900)، ومع ذلك فإنها قد استخدمت أفكارهم بطريقة مختلفة تماماً عن طريقة مفكرى ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة. فما قدمته أرندت من أفكار يصعب تصنيفها وكثيراً ما تخرج عن مسارها لكي تفجر قضايا متنوعة بشأن التعريفات والمعانى. فأحياناً كانت عدائية تجاه الماركسية، وفى الوقت نفسه كانت تحترم التناسق الداخلى لفكر ماركس، والاتجاهات التى اتخذها هذا الفكر بواسطة مفكرين ماركسيين آخرين مثل جورج لاكاتوش (1885-1971) ووالتر بنيامين (1892-1940). إن فكر أرندت يقاوم أى محاولة لتصنيفه، فلا يمكن أن ينسب " لمدرسة " بعينها من مدارس الفكر النقدى المعاصر. (11)

    فلقد أعلنت أرندت عن إعجابها بالوجودية لأنها بدت لديها أنها تحول التفلسف إلى نشاط عام، ثورd، وأخذت الفلسفة خارج الجامعة إلى الشوارع، وقامت بتحديد الفروق بين الفكر والفعل، وبين الفلسفة والأدب. وكتبت أرندت أن الأبحاث الفلسفية الوجودية "تباع مثل الروايات البوليسية"، بينما أن المسرحيات والروايات الوجودية تتناول المشكلات الفلسفية الضخمة، مما يعنى أن الوجودية قد عقدت مصالحة بين الدراما والفلسفة. (12)

فمع أن أرندت كانت بالفعل فيلسوفة محترفة إلا أنها كانت تفضل تسمية نفسها "بالمنظرة السياسية"، وقد رأت أن الفلسفة تتعامل مع "الإنسان فى صيغة المفرد" أما عملها فهو يركز على كون "الناس، وليس الإنسان، يعيشون على الأرض ويسكنون العالم". وهذا ما يتبدى فى عملها الرائع "حياة العقل"الذي يمثل مع ذلك عودتها إلى أحضان الفلسفة "حبها الأول". (13) 

 ثانيا: الفعل والمشاركة السياسية

     والفعل هو أساس نظرية أرندت السياسية، وقد درسته فى إطار فهمها للحرية، والمشاركة والحوار والخطاب. "فحيثما يكون الكلام ملائماً، فإن الأمور تصبح سياسية فى شكلها، فالكلام هو ما يجعل الإنسان كائناً سياسياً". وقد اهتمت أرندت بشكل كبير بدراسة صور الفعل المختلفة وأعلنت عن عدم رضاها عن معظم التفسيرات التى قدمت لها. "إن عدم قدرة الفرد على تجميع أصول حياته فى كلمات حيث يعبر عن ماهيته من خلال الفعل والكلام تعتمد على مجال الشئون البشرية، فنحن نتواجد ككائنات تعمل وتتحدث.." (14)

         وعليه، فإن المكونات الرئيسة لنظرية الفعل عند أرندت هي: الحرية والتعدد والإعلان أو الافشاء. وتتعلق تلك المكونات بالروابط بين الفعل والشكل الأدبى وأهمية التذكر أو ما تسميه أرندت " مجتمعات الذاكرة ". وكذلك العلاقة بين الفعل والسلطة وساحة العرض أو فضاء الظهور؛ وركزت أرندت على "سلطة الوعد" و"سلطة الصفح". (15)

ولأن الفعل والسياسة – من بين كل قدرات الحياة السياسية وإمكاناتها – هما الشيئين الوحيدين اللذين يصعب تصورهما من دون افتراض وجود الحرية. ولايمكن تلمس أى قضية سياسية ضمنيا أو صراحة دون تلمس مسألة حرية الانسان. هذا فضلا عن أن الحرية ليست مجرد مشكلة لعالم السياسة – عند الحديث بالشكل المناسب – مثل العدل، والسلطة، أو المساواة.. فبدونها تصبح الحياة السياسية بلا معنى. فالحرية هى سبب وجود السياسة، ومجالها فى التجربة هو الفعل. (16)

         إهتمت أرندت بدراسة القوة الإعلانية للفعل والكلام؛ فقد ناقشت فى القسم الأول من الفصل الذي يحمل عنوان "عن الفعل" فى كتابها "الوضع البشري" موضوع الإعلان عن هوية العامل. وقد ذكرت أن الأفراد يعلنون من خلال الفعل والكلام عن أنفسهم وتميزهم عن غيرهم، يعلنون للعالم عن شخصياتهم المتميزة. وبطريقة أرندت فى التمييز، فإنهم يوضحون أسباب تميزهم وفى أى شئ يتميزون – وهذا الأمر يتعلق بقدرات الأفراد ومواهبهم، وكذلك عيوبهم ونقائصهم، وجميعها خصائص يتقاسمها كل البشر. وليس العمل أو الحرفة هو ما يمكن الأفراد من الإعلان عن هويتهم، الإعلان عما يتميزون فيه عن غيرهم. ففى العمل تحجب فردية كل شخص من خلال ارتباطه بسلسلة من الضروريات الطبيعية، وفقاً للقيود المفروضة بواسطة العوامل البيولوجية. نحن عندما نشارك فى العمل فإننا نستطيع فقط أن نوضح مدى تماثلنا، حيث إن الحقيقة هى أننا جميعاً ننتمي للأنواع البشرية ويجب أن نهتم باحتياجات أجسامنا. وفى هذا السياق فإننا فى الحقيقة "نتصرف"، "نؤدي أدواراً" و "ننجز وظائف"، حيث إننا جميعنا لدينا نفس الالتزامات. وفى العمل يوجد مجال أكبر للفردية، فكل عمل أو منتج يحمل علامة لصانعه ... وهكذا، فى الكلام والفعل فقط، فى التفاعل مع الآخرين من خلال الكلمات والأفعال، يعلن الأفراد عن شخصياتهم. (17)

         ولا يتوقف الأمر عن حد الإعلان عن الذات فقط، بل إن الإنسان بفضل هذا الإعلان يدرك أنه:

أولاً: لا يوجد إلا بقدر ما يعمل: لأن الفعل وحده هو الذي يجعله يوجد (بمعنى الكلمة) وأنه:

ثانياً: يفرض بعمله ضرباً من التغيير أو التبديل على العالم المادي، لأن الفعل الذي يقوم به لابد من أن يحدث آثاره فى العالم الخارجى وأنه:

ثالثاً: يخلق عن طريق فعله نوعاً من الاتصال بينه وبين الآخرين، لأنه يخلق بالتزامه أمام نفسه وأمام الآخرين "عالماً روحياً" يقوم على التأثير والتأثر وأنه:

رابعاً: يعمل على تدعيم عالم القيم البشرية: لأنه يحرر الذوات الأخرى ويوقظها من سباتها حين يجسم مثله العليا فى الوسط الاجتماعى فيعمل على تقريب شقة الخلاف بين الواقع والمثل الأعلى. (18)

         ولذلك فإن الفعل الذي يقوم به الفرد ليس مجرد "عمل خاص" يهم صاحبه وحده دون سواه بل هو "عمل اجتماعى" يتسم بطابع كلى عام: لأنه يخرج إلى الوسط الجمعى الذي يتحقق فيه فيحدث تأثيره فى عقول الآخرين وأفئدتهم وشتى جوانب حياتهم. ولو أننا ضربنا صفحاً عن تلك الأعمال التى يقوم بها البشر بحكم الغريزة أو العادة أو "الروتين" لكان فى وسعنا أن نقول إن معظم الأفعال الإنسانية هى بمثابة نيات متحققة وقيم أخلاقية متجسدة ومثل عليا متجسمة: فهى ظواهر اجتماعية مهمة لها دلالتها الخاصة فى صميم الوسط الخارجى الذي يتحقق فيه. وإذن فإن العمل الذي يؤديه الفرد – وإن بدا له أحياناً عملاً فردياً يعنيه هو وحده – عمل اجتماعى يقوم بدور المحرك الفعال أو المؤثر القوى فى وسط خارجى يضم أفراداً آخرين هم على استعداد لتفهم دلالة ذلك العمل إن لم نقل بأنهم قد يقعون تحت تأثيره ويعملون – بدورهم – مترسمين خطاه. (19)

   وعليه فان نظرية الفعل Theory of action عند أرندت وإحياؤها لفكرة "الممارسة" القديمة تمثل أحد الإسهامات الرئيسية للفكر السياسى فى القرن العشرين. وبتمييز الفعل (الممارسة) من الابتكار أو الصنع (الإنشاء) وبربطه بالحرية والتعدد، وبتوضيح ارتباطه بالتحدث والتذكر، استطاعت أرندت أن توضح مفهوم السياسة الذي أمكن فيه تناول المسائل المتعلقة بالمعنى والهوية بطريقة حديثة متطورة. علاوة على ذلك، فإنه بالنظر إلى الفعل على أنه شكل للتجمع البشري، أصبحت أرندت قادرة على تطوير مفهوم الديمقراطية الاشتراكية والتى تتناقض تماماً مع الأشكال السياسية البيروقراطية المميزة للحقبة الحديثة. (20)

     تميز أرندت بين العمل والحرفة والفعل حيث تقول: "إننى اقترح مصطلح" الحياة العملية" لكي أشير إلى ثلاثة أنشطة بشرية جوهرية هي: العمل والحرفة، والفعل. إنها جوهرية لأن كل واحد منها يتطابق مع الأوضاع الرئيسة التى تعطى الحياة للإنسان على الأرض". (21)

         العمل هو النشاط الذي يتطابق مع العملية البيولوجية للجسم البشري، الذي نموه الذاتي، عملية الأيض، وتحلله الأخير مرتبطان بالضرورات الحيوية الناتجة والمدخلة فى عملية الحياة بواسطة العمل. إن الوضع البشرى للعمل هو الحياة فى حد ذاتها. أما الحرفة فهى النشاط الذي يتطابق مع اصطناع الوجود البشري، والتى هى غير منزلة فى الفضاء حيث لا يعوض العود الأبدى الدورى للنوع فنائه. تقدم الحرفة عالم "مصطنع" من الأشياء المختلفة بشكل تام عن كل وسط طبيعي. حيث تقطن داخل حدوده حياة كل فرد، فى حين أن هذا العالم فى حد ذاته يعنى الاستمرار أو التجاوز على الكل. إن الوضع البشرى للحرفة هو الانتماء إلى العالم. (22)

         وأما الفعل، النشاط الشائع بين الناس من دون توسط الأشياء ولا المادة، يطابق الوضع البشرى للتعدد.. وهذا التعدد هو تحديداً الشرط – الذي لاغنى عنه- لكل حياة سياسية؛ وهي تقول فى هذا الصدد: "إن السياسة تقوم على واقعة التعدد البشرى". وإذا كانت كل جوانب الوضع البشرى مرتبطة بشكل ما بالسياسة، فإن هذا التعدد بالخصوص هو شرط كل حياة سياسية. وإن المعيار الرئيسى للفعل هو التجلى الواضح للفاعل فى الكلام والممارسة. فالفعل مرتبط بالكلام ويكشف عن الإنسان وكأنه يحاول ويضرب فى الأرض وينقح فى الأفق من أجل أن يبدأ شيئاً جديداً فى العالم. (23) 

وهذه الأنشطة الرئيسية الثلاثة الخاصة بوجودنا فى العالم: العمل والحرفة والفعل مستقلة عن بعضها البعض حيث إن لكل منها مبادئه ومنطلقاته المميزة ويحكم عليه بمعايير مختلفة. العمل يحكم عليه بواسطة قدرته على تحسين الحياة البشرية، تقديم احتياجاتنا البيولوجية المتعلقة بالاستهلاك والإنتاج، والحرفة يحكم عليها بقدرتها على تكوين عالم ملائم للاستخدام البشرى والحفاظ عليه، والفعل يحكم عليه بقدرته على الافصاح عن هوية العامل، وإثبات حقيقة العالم، وتحقيق آهليتنا للحرية. (24)

         وعلى الرغم من أن أرندت تعتبر الأنشطة الثلاثة (العمل، والحرفة والفعل) ضرورية على حد السواء لإكمال الحياة البشرية، حيث إن كلاً منها يسهم بطريقته المميزة فى تحقيق كفاءاتنا البشرية، فإنها تركز على الفعل المميز للبشر عن حياة الحيوانات (التى هى مماثلة لنا من حيث احتياجها للعمل للحفاظ على حياتها) وحياة الآلهة (التى نشاركها نشاط التأمل). ومن هذه الناحية فإنه يجب اعتبار مقولتى العمل والحرفة مختلفتين عن مقولة الفعل، وإن كانتا تلعبان دوراً مهماً فى إلقاء الضوء على فضاء الفعل خلال نظام النشاط البشرى. (25)

         ولذلك ترى أرندت أن الأنشطة الثلاثة جميعها، والأوضاع المتطابقة معها مرتبطة بشكل وثيق بأكثر الأوضاع شيوعاً للوجود البشري: الميلاد والموت، الأبدية والخلود، البداية والفناء. العمل لا يؤكد الخلود البشرى فقط، ولكن أيضاً حياة الكائنات. فالعمل ومنتجاته، الصناعة البشرية، يمنحان مقياساً للبقاء والاستمرارية بناء على عبث الحياة وخاصية الزوال المميزة للذهن البشري. وحيث إن الفعل يتدخل فى إيجاد الكائنات البشرية والحفاظ عليها، فإنه يخلق وضع التذكر، وهو المتعلق بالتاريخ. العمل والحرفة، وكذلك الفعل متأصلان أيضاً فى الميلاد، حيث إن لهم مهمة تقديم العالم والحفاظ عليه من أجل التدفق المستمر للقادمين الجدد المولودين فى العالم كغرباء. ومع ذلك، فمن بين الثلاثة، فإن الفعل ذو علاقة أوثق بالوضع البشرى الخاص بالميلاد، ويمكن للبداية الجديدة المتأصلة فى الميلاد أن تبرز نفسها فى العالم وذلك فقط لأن القادم الجديد يمتلك القدرة على بدء شئ ما من جديد، وهو الفعل. وبهذه الطريقة البديهية البشرية، فإن أحد عناصر الفعل، وبالتالى الميلاد، يعد متأصلاً فى جميع الأنشطة. (26)

   ثالثا: خصائص الفعل

والخاصيتان الرئيسيتان للفعل هما "الحرية" و "التعدد".. أما الحرية عند أرندت فترتبط بالحياة اليومية وبالمجال السياسى العمومى ذلك أن اعتبار الحرية حقاً يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسى وقوانين ينظمان هذه الحرية، ويحددان مجال تعايش الحريات. أما الحديث عن حرية داخلية "ذاتية"، فهو حديث ملتبس وغير واضح. إن الحرية، وفقاً لأرندت، مجالها الحقيقى والوحيد هو المجال السياسى، لما يوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلى وملموس إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، إن على مستوى التنقل أو التعبير أو غيرها. (27) 

         فالنظر إلى مفهوم الحرية على أنها مشكلة نظرية وقضية فلسفية ميتافيزيقية مثل قضية الوجود والعدم والخلود والزمان.. الخ هو أمر خاطئ.. ولذلك ترفض أرندت ربط الحرية بالمجال الداخلى للفرد وتقول: "إن الحقل الذي عرفت فيه الحرية، ليس باعتبارها مشكلة، بل باعتبارها جزءاً من الحياة اليومية، هو حقل السياسة "أي مجال الفعل الإنسانى العام وليس مجال الفكر: "لأن الفعل والسياسة يعتبران من بين القدرات والامكانات المتعلقة بالحياة الإنسانية، والتى لا يمكن التفكير فيها بمعزل عن وجود الحرية". فالمجال الفعلى للحرية هو مجال السياسة باعتباره مجال الشأن العام والذي يهم الجميع. كما أنه خارج الحياة العامة يصعب إن لم نقل يستحيل قياس مدى حضور أو غياب الحرية باعتماد مؤشرات من قبيل الحق فى التعبير عن الرأى العام واحترام الرأى الآخر وضمان حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة.. وغيرها من مظاهر الديمقراطية ودولة الحق والقانون والحريات العامة. "فالحرية ليست خاصية مميزة لأي شكل من أشكال العلاقات الإنسانية، ولا لأي نوع من أنواع الجماعات البشرية. فحيثما يعيش الناس فى مجموعة لا تشكل هيئة سياسية – مثل ما هو حاصل فى التجمعات القبلية أو الأسرية – فإن ما ينظم أفعالهم وتصرفاتهم ليس هو الحرية، بل هو ضرورات الحياة والحرص على البقاء". (28)

         وهكذا، "فإن الحرية هى مغزى العمل السياسى". (29) وهي لا تعني، عند أرندت، القدرة على الاختيار من بين البدائل المتاحة (حرية الخيار مهمة للغاية بالنسبة للإتجاه الليبرالي) أو قدرة طبيعية داخلية منحها الله للبشر. إنها تعنى "القدرة على بدء شئ جديد، لفعل ما هو غير متوقع، ممنوح لكل البشر بمجرد ولادتهم". فالفعل بكونه تحقيقاً للحرية متأصلاً فى الميلاد، فى الحقيقة القائلة بأن كل ميلاد يمثل بداية جديدة وظهور لشئ جديد فى العالم، فالولادة هى بلوغ عالم دائم بدل الانخراط فى تكرار للطبيعة، والوفاة هى الانسحاب من عالم دائم والذهاب إلى عالم الاستهلاك والاغتراب والضياع. (30)

    ولقد أدركت أرندت أن كل الأنشطة مرتبطة بشكل ما بظاهرة الميلاد، فكل من العمل والحرفة ضرورىٌ لابتكار عالم يولد فيه بشر جدد بشكل مستمر. ومع ذلك، فإنه من بين الأنشطة الثلاثة، يعد الفعل أكثرها ارتباطاً بالميلاد، لأنه بواسطة الفعل يعيد الأفراد معجزة البدء الكامنة فى ميلادهم. فبالنسبة لأرندت، فإن البداية التى يمثلها كل منا بولادته تتحقق كل مرة نعمل فيها، وهي كل مرة نبدأ فيها شئ ما جديد. وكما أوضحت: "يمكن للبداية الجديدة الكامنة فى الميلاد أن تبرز نفسها فى العالم فقط لأن القادم الجديد يمتلك القدرة على بدء شئ جديد وهو الفعل". (31)

         وأرندت تفهم الفعل على أنه القدرة البشرية على بدء مجموعة جديدة من الأحداث.. والفعل نتيجة طبيعية " للميلاد": فنحن ولدنا كأفراد من كائنات تقوم ببدايات غير متوقعة. (32) وحيث إن الفعل كبداية كامن فى الميلاد، وحيث إنه تحقيق للحرية، فهو، وفقاً لأرندت، يحمل معه القدرة على عمل المعجزات. "ففى طبيعة البداية يتم بدء شئ جديد لا يمكن توقعه أيا كان ما حدث سابقاً. وإن تلك الخاصية المتعلقة بعدم التوقع المرعب كامنة فى كل البدايات.. والحقيقة أن الإنسان قادر على فعل ما لا يمكن توقعه. فكل إنسان متفرد، ومع كل ميلاد يأتى شئ جديد فى العالم". (33)

         وهكذا فإن ميلاد كل فرد هو وعد ببداية جديدة: فالفعل يعنى القدرة على الافصاح عن النفس وانجاز ما هو غير متوقع؛ وهو ما يتفق تماماً مع هذا التصور القائل بأن معظم الأمثلة الملموسة للفعل فى العصر الحديث والتى ناقشتها أرندت هى حالات الثورات والانتفاضات الشعبية. فادعاؤها بأن " الثورات هى الأحداث السياسية الوحيدة التى تواجهنا بشكل مباشر وهي حتماً لها مشكلة فى البداية " يعد محاولة لإيجاد مساحة سياسية جديدة، مساحة يمكن أن تظهر فيها الحرية كحقيقة مرتبطة بالانتماء.. إلى - العالم. والمثال المفضل لأرندت هو الثورة الأمريكية لأن فعل التأسيس فيها أخذ شكل تأسيس للحرية. ومن أمثلتها الأخرى نوادى الثورة الفرنسية، مؤتمر باريس لعام 1871، تأسيس السوفيت خلال الثورة الروسية، المقاومة الفرنسية لهتلر فى الحرب العالمية الثانية، والثورة المجرية عام 1956. ففى كل تلك الحالات كان لدى الرجال والنساء الشجاعة لقطع أنشطتهم الروتينية، للتقدم عبر حياتهم الخاصة من أجل خلق فضاء عام يمكن أن تظهر فيه الحرية، والعمل بطريقة تجعل من ذكرى أعمالهم مصدراً للإلهام فى المستقبل. وتبعاً لأرندت، فإنهم للقيام بذلك قد أعادوا اكتشاف الحقيقة المعروفة لليونانيين والتى تقول بأن الفعل هو أسمى نعمة للحياة البشرية، وهو ما يعطى لحياة الأفراد قيمة. (34)

         وأما التعددية فهى الخاصية الرئيسة الأخرى للفعل. فكل فعل هو مبادرة، ولا يمكن القيام به بمعزل عن الآخرين، وبعيداً عن تعددية المؤديين الذين يحكمون على الأداء. فالفعل يحتاج إلى التعدد بنفس قدر احتياج المؤديين للجماهير، بدون وجود الآخرين وتقديرهم، وسيتوقف الفعل عن أن يكون نشاطاً ذا قيمة. ويمكن للفعل أن يوجد فقط فى سياق يحدده التعدد، بقدر احتياجه للظهور بشكل عام، مبرزاً نفسه من خلال الكلمات والأعمال، وحائزاً على قبول الآخرين. (35)

         لقد أقامت أرندت العلاقة بين الفعل والتعدد بواسطة موقف أنثروبولوجي. فهى ترى أن "الحياة" هى الوضع الذي يطابق نشاط العمل، و "الانتماء - إلى – العالم" هو الوضع الذي يطابق نشاط الحرفة، وهكذا فإن "التعدد" هو الوضع الذي يطابق الفعل. وهي تعرف " التعدد " فى ضوء الحقيقة القائلة: "بأن "الناس" وليس "الإنسان" هم الذين يعيشون على الأرض ويسكنون العالم ". وتقول إنه وضع الفعل البشرى "لأننا جميعاً متماثلون وإن كان لكل منا حياته ووجهة نظره عن العالم ". وبفضل التعدد يصبح كل فرد قادراً على العمل والتعامل مع الآخرين بطرق مميزة، وهذا هو ما يسهم فى صياغة شبكة الأفعال والعلاقات المختلفة والتى قد يصعب التنبؤ بها. وهذه الشبكة من الأفعال تشكل مجال الأعمال البشرية، تلك المساحة التى يرتبط فيها الأفراد مباشرة – ومن دون وساطة الأشياء – من خلال " اللغة ". فالعلاقة واضحة بين الفعل واللغة. (36)

    ولهذا تقول أرندت: ".. سيكون الفعل زيادة غير ضرورية، تدخل نزوى (متقلب) فى القوانين العامة للسلوك، إذا كان الناس عبارة عن استنساخات مستمرة ومتكررة من نفس النموذج، والذي يعد بطبيعته وأصله مثلاً للكل ويمكن التنبؤ به مثل طبيعة أو أصل أى شئ آخر. فالتعدد هو وضع الفعل البشرى لأننا جميعاً متماثلون. (37)

         كما تؤكد أرندت مراراً فى كتابها "الوضع البشرى" أن الفعل مبدئياً، ذو خاصية رمزية، وأن شبكة العلاقات البشرية يدعمها التفاعل التواصلي. ويمكننا التعبير عن ذلك على النحو التالي: " الفعل يستلزم وجود كلام: فعن طريق اللغة نستطيع التعبير عن معنى أفعالنا وتنسيق أفعال تعددية العوامل. وعلى العكس، فإن الكلام يستلزم حدوث فعل، ليس بطريقة أن الكلام نفسه يعد شكلاً من الفعل، أو أن معظم الأفعال تؤدى فى شكل كلام، ولكن بطريقة أن الفعل غالباً ما يكون هو طريقة التحقق من صدق المتكلم. وهكذا فحيث إن الفعل بدون كلام يقود إلى خطورة كونه بلا بمعنى وسيكون من المستحيل التنسيق مع أفعال الآخرين، لذا فإن الكلام بدون فعل سيفتقد وجود إحدى الوسائل التى يمكننا أن نؤكد بها صدق المتكلم. كما أن هذا الرابط بين الفعل والكلام يلعب دوراً رئيسياً فى تصوير أرندت للسلطة، وهي تلك السلطة التى تظهر بين الناس عندما يعملون " بشكل متناسق " ويتحقق فقط حيثما لا يكون الكلام والفعل متشاركين مع بعضهما، حيثما لا تكون الكلمات خاوية ولا تكون الأفعال حادة، حيثما لا تستخدم الكلمات لحجب النوايا ولكن لإعلان الحقائق، ولا تستخدم الأفعال من أجل الانتهاك (المخالفة) والتدمير ولكن لتكوين علاقات وحقائق جديدة". (38)

 ولهذا تقول أرندت: ".. وإذا أردنا أن نتعرف على السياسة نجدها "تؤسس على التعددية الانسانية "(39) فالسياسة، تقوم على واقعة التعدد البشري، "فبقدرة ما تكون ثمة شعوب بقدر ما يكون هناك عالم"، لأن الله خلق الإنسان متفرداً بينما الناس هم من إنتاج الطبيعة البشرية يجتمعون فى مجموعات أساسية ومحددة فى شكل فوضى كلية من الاختلافات. من هنا تأتى أهمية السياسة لتدرس المجموع البشرى من حيث هو مجموعة من الكائنات المختلفة والمتكاملة. (40)

تقول أرندت: "إن الإنسان لا يوجد فى السياسة إلا إذا حصل على الحقوق نفسها التى يضمنها له الأفراد الآخرون الأشد اختلافاً عنه. ورغم هذا التعدد والاختلاف إلا أن هناك حالة من الرضا بهذه الوضعية القانونية.." (41) و " أن التعدد هو قانون الأرض وأن السياسة تقوم على واقعة واحدة وهي التعدد الإنسانى" و " أن يحيا الإنسان هو أن يوجد فى قلب أشباهه وفى حضن المدنية، وأن ينقطع عن الناس معناه الموت ". (42) كما ترتبط الحرية بوجودنا وانسانيتنا..انها قيمة عظيمة، بل هى الوجود نفسه ، بمعنى أن فقدنا لحريتنا ينى فقدنا لوجودنا. والانسان لا يتسنى له أن يبدع بكامل طاقته إلا إذا عاش فى مناخ يحترم إنسانيته، والانسانية لن تكون جديرة بهذا الاسم الا من خلال ما تتمت به من حرية. (43)

 الخاتمة

            تأسيساً على ما سبق تتضح النقاط التالية:

1-    أن أرندت قد انجذبت إلى الفلسفة فى عمر مبكر، حيث قرأت، وهي فى مرحلة المراهقة، كانط وكيركيجارد، ثم التحقت بجامعة ماربورج التى كان يترأس قسم الفلسفة فيها هيدجر، وبسرعة نمت بين الفيلسوف النجم والطالبة الشابة صداقة تحولت إلى علاقة حب. وانتقلت إلى جامعة فرايبورج لتدرس على يد الفيلسوف هوسرل، ثم إلى جامعة هايدلبرج للتعلم على يد ياسبرز.

2-    جاءت صدمة وصول النازيين إلى الحكم فى ألمانيا عام 1933 لتشكل نقطة تحول مركزية فى حياة أرندت دفعتها إلى الابتعاد عن الفلسفة بمفهومها النظرى والتوجه إلى العمل السياسى بشكل عملي. فقد رفضت منذ هجرتها من ألمانيا إلى الولايات المتحدة أن يطلق عليها لقب فيلسوفة، وفضلت لقب المنظرة السياسية انطلاقاً من قناعتها بأن الفكر التحليلى الفلسفى لم يتمكن من مجابهة النازية. (44)

3-     رفضت أرندت ربط الحرية بالمجال الداخلي للفرد أو دراستها على أنها مشكلة نظرية وقضية فلسفية ميتافيزيقية مثل الوجود والعدم والخلود وغيرها كما فعلت الوجودية. ورأت أن الحرية ترتبط أساساً بالمجال السياسى أى مجال الفعل الإنسانى العام وليس مجال الفكر. فاعتبار الحرية حقاً يشترك فيه جميع الناس يفترض توفر نظام سياسى وقوانين ينظمان هذه الحرية ويحددان مجال تعايش الحريات. أما الحديث عن حرية " داخلية " فلا معنى له، فالحرية بطبيعتها لا تمارس بشكل فعلى وملموس إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين؛  

4-     أكدت أرندت أن السياسة تفترض التعدد كونها تنشأ حين ينشأ المجال المشترك بين البشر. فأصل السياسة ليس هو وجود الإنسان، فهى لا تعترف بوجود إنسان، بل بوجود الناس، فلا سياسة فى موقف واحد، بل هى تعدد فى المواقف، وهي النشاط الوحيد الذي يضع الناس مباشرة جنباً إلى جنب؛ وبالتالى فإن موضوع السياسة ليس الإنسان بمفرده بل وجود الإنسان فى العالم. والعالم هو المكان المناسب الذى يولد فيه الفعل السياسي، والفضاء العام الذى يتقاسم فيه الناس مصالحهم وهمومهم وتطلعاتهم طالما هم يعيشون على الأرض ويسكنون الكوكب، فلا يوجد الناس إلا إذا كان ثمة عالم، ولا يوجد عالم إلا إذا كان ثمة تعدد، بل ان التعدد هو قانون الأرض. (45) 

                       الهوامش  

  1- Ashheim, S: Hannah Arendt in Jerusalem Berkeley: University of California press, 2001, p-1.

 2- John MCGowan: Hannah Arendt, An Introduction, University of Minnesota press, Minneapolis, 1997, p-1.

 3- Hansen, p-: Hannah Arendt: politics, History and citizenship, Cambridge: polity press, 1993, p- 1.

قارن:"حنة أرندت فى مئويتها الأولى: أيقونة العداء للشمولية والدفاع عن أولية الحرية"، مقال نشر فى مجلة "ثقافة ومجتمع" على شبكة المعلومات الدولية (النت)

 4- Simon swift: Hannah Arendt, Routledge, London and New York, 2009, p-1.  

5- Anthony F. lang, Jr. John Williams: Hannah Arendt and International Relations Readings across the Lines, Palgrave Macmillan, 2005, p- 114. 

 6- Loc – Cit. 

راجع أيضا: توفيق المدينى: حنة أرندت الناقدة اللاذعة للنظام التوتاليتاري، شبكة المعلومات 

  Malit:aru@net.

 7- Margaret Canovan: " Introduction " In " The Human Condition " University of Chicago press, 1998, p-1.  

 8- Peter Baehr: The Portable Hannah Arendt, Penguin Books, 2000,p- vii .  

 9- Maurizio passerin d' Entreves: The political philosophy of Hannah Arendt, Routledge, London and New York, 1994, p-1.  

 10- Margaret Betz Hull: The Hidden philosophy of Hannah Arendt, Routledge Curzon, London and New York, 2002, p-34.

 11- Andreas Kalyvas: Democracy and politics of The Extraordinary, Max Weber, Carl Schmitt, and Hannah Arendt, Cambridge university press, 2008, pp- 13-14.

 12- Ibid, p- 37.

13- Margaret Betz Hull: op- cit, p-1

14- Anthony F. lang, Jr. John Williams: Hannah Arendt and International Relations Readings across the Lines, Palgrave Macmillan, 200514- 51-15-Maurizio passerin d'Entreves: op-cit, p-14.

 16- Hannah Arendt: The Human condition, p- 7.

17- Maurizio passerin d'Entreves: op- cit, pp- 72-73.   

  18- د. زكريا إبراهيم: مشكلة الحياة، مكتبة مصر، ص ص 64 – 65.

   19- Marice Blondel: Action, Essay on a critique of life and a science of practice, translated byoliva blanchelte, University of nator dame press, Indiana, pp- 232-236.

  20- Maurizio passerin d'Entreves: op – cit, p-9.      

 

21- Hannah Arendt: The Human condition, p- 7.

22- Loc- cit.

23- Ibid, p-8.

27- Maurizio passerin d'Entreves: op- cit, p- 66. 

25- Loc – cit.

26- Hannah Arendt: The Human Condition, p-4.

27- Hannah Arendt: What is Freedom? p- 445. 

28- Ibid, pp- 439 -440.

29- Ibid, p- 445

30- Maurizio passerin d'Entreves: op- cit, p- 66. 

21- Ibid, p- 67.

32- Peter Baehr: The portable Hannah Arendt, p- xxix.

33- Hannah Arendt: The Human condition, pp- 177-178.

34- Maurizio passerin d'Entreves: op- cit, p- 68.

35- Ibid, p- 70. 

36- Ibid, p- 71. 

37- Hannah Arendt: The Human condition, p- 8.

38- Maurizio passerin d'Entreves: op- cit, p- 70.

39- Hannah Arendt: Qu-est-ceq lapolitique? Editions du seil,pour la traduction francaise et la  preface 1995,p- 28

40- Richard Bernstein: " Hannah Arendt: The ambiguities of Theory and practice " in " political Theory and praxis " Minnea polis, University of Minnesota press, 1977, p- 52.

41- Hannah Arendt: The Human condition, p- 60.

42- Ibid, pp- 50-60.

43- Moya, H, B: An introduction to Marxist Theory, New York, Oxford University press, 1960, p-241

 44- د. ابراهيم طلبه سلكها: الفلسفة النسوية، القاهرة، دار روعة للطباعة والنشر والتوزيع، ط ،2014، ص ص 179 – 180

45- المرجع نفسه، ص 84

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس