الفهم المثالي للوجود

 الفهم المثالي للوجود


د علي محمد اليوسف



بيركلي والإدراك

لعل المثالية الابتذالية التي دافع عنها بيركلي أفضل تعبير في أسوأ تناقض هو قوله (يمكننا تحديد المقصود بالوجود دون اللجوء الى ادراكات لغوية، فوجود الشيء هو وجود ادراكه)1، هل معنى هذا الوجود الادراكي يقوم على تفكير خيالي بوجود شيء غير موجود واقعيا؟ ثم أن الادراك يقوم على الاحساسات وتعبيرات اللغة سواء صامتة أو مسموعة مقروءة. والادراك لا ينوب عن وجود انطولوجيا المادة والموضوعات في حال ادراكها بل هو يعبّر تجريديا لغويا استبطانيا أو إفصاحيا عن ذلك الوجود.

أما الإدراك في مواضيع تبتدعها المخيّلة من معين الذاكرة مستودع المعلومات تبقى مواضيع خيالية استبطانية يقدر العقل التعبير عنها لغويا تجريديا، ثم أن الخيال لا يصنع مواضيع لها وجود واقعي لم يكن قائما انطولوجيا قبل الادراك التخييلي له كموضوع. المادة وموضوعات الخيال هي مصدر الادراك الحسي والخيالي لكنها لا تصنع هي كيف يكون تفكير وتعبير ذلك الإدراك.

وتعقيبنا على هذه المثالية الفجّة أن بالإمكان إنابة الإدراك عن اللغة أكثر مما ذكرناه نجده كما سنوضحه أن الادراك هو لغة حسية لا تكون منفصلة مغايرة للغة التعبير عن الانطولوجيا مباشرة في:

-         الوجود سابق على إدراكه، وأسبقية الوجود هي التي تعطي الحواس الادراك به. ولا يحل الادراك البعدي محل الوجود القبلي، من حيث الوجود يدرك بموجوداته التي هي مادة يدركها الحس، بينما الادراك المجرد عن موجوديته المادية السابقة عليه هو وهم فكري تجريدي لوجود غير موجود أو غير متحقق ادراكه حسيّا.

-         لا يمكن تأكيد أدراك موجود خارج تعالقية اللغة به في تصوره الإدراكي والتعبير اللغوي عنه. إدراك شيء بالفكر لا يجعل منه مدركا ماديا بالحس. وقابلية العقل على إدراك الموجودات الشيئية حسّيا غير متاح ولا يقوم بغير تمثّل صوري لغوي تجريدي لتلك الاشياء.

-         إدراك الوجود إدراك عقلي داخلي مادي منظم وليس أدراك الوجود خارج العقل بمنظومته البيولوجية، لذا يكون الوجود هو مصدر إدراك العقل للأشياء، ولا يكون الادراك الوهمي لموضوع خيالي يجعله مصدر تحقق موجود مادي. أدراك الشيء بالفكر يختلف عنه أدراك الحواس له وكلا الإدراكين المادي والخيالي هما تجريد لغوي يفهمه العقل في تعبيره عنهما. ولا يمتلك الادراك التعبير عن نفسه إلا بوسيلة تجريد اللغة فقط التي ينكرها بيركلي، كذلك الأهم لا يمكن تفكير العقل المجرد بوسيلة اللغة يجعل الافكار تخلق موجوداتها المادية بالواقع.

-         لعل طرافة وبساطة مقولة بارمنيدس البديهية تعبيره " الوجود موجود، وعدم الوجود غير موجود" بمعنى أنت لا يمكنك إدراك شيء أنت تخلق وجوده المادي بخيالك الفكري كي تدركه بغير دلالة تعبيرية لغوية عنه ولا بدلالة حسّية له.. فالمدرك موجود واقعيا، وغير الموجود لا يمكن ادراكه.

-         ابتداع مخيلة العقل لموضوع لا ينتج عنه وجودا ماديا أنطولوجيا، المخّيلة تفكير تجريدي محض في حال تعبيره عن موضوع لم يكن له وجودا انطولوجيا. والتجريد الإدراكي لا ينتج عنه إدراك انطولوجي لشيء.

-         إدراك الشيء بغياب وجوده المادي لا يجعل الإدراك له معنى ينوب في غياب الموجود، واستحالة تحقق إدراك من غير موضوع او شيء مادي موجود يسبق وجوده ادراكه والتفكير به ما عدا مواضيع المخيّلة خياليا...

الأنطولوجيا واللغة

يعتبر أفلاطون الموجودات (الوقائع المعينة هي أفكار، أي هي كيانات مختلفة تماما عن كيانات العالم المحسوس )2، لو نحن أخذنا المقصود المباشر لتفسير العبارة نجدها هي تفريق بين الشيء المادي كموضوع للعقل وتعبير اللغة عنه، وبين الموضوع الذي مصدره مخّيلة الانسان والذاكرة الخيالي - المفاهيمي وتعبير اللغة عنه مثل مواضيع الاخلاق والقيم والعواطف والنفس وضروب الإبداع الادبي والفني وغيرها.

فهذه مواضيع مستمدة من تمازج الخيال مع المعرفة المفهومية المجردة. كون المفاهيم ليست مواضيع ادراكية لا يستطيع العقل التعبير عنها والاحاطة بها الا بوسيلة التجريد الخيالي لغويا خارج الادراك المادي، المفاهيم مباحث مطلقة التجريد غير محدودة لذا لا يمكن معرفتها بغير دلالة موجوداتها المتعالقة بها. فمثلا مفهوم الوجود المطلق ميتافيزيقيا لا يمكن إدراكه الا ضمن علاقة موجوداته التي يحتويها داخله. وبدون محتوى الوجود تبقى لفظة الوجود خالية من معنى الدلالة لا قيمة معرفية لها. مثال آخر مفهوم الزمان فهو مفهوم مطلق لا يدرك معرفيا الا بدلالة غيره من موجودات يحتويها في إدراك مقدار حركتها فيه. ومثال ثالث الطبيعة لا يمكن ادراكها الا بدلالة موجوداتها التكوينية التي تحتويها.. المفهوم في التعبير اللفظي له كمطلق ميتافيزيقي تجريدي هو ليس موجودا ماديا يمكن إدراكه بالحواس عقليا وهو يختلف عن الادراك التجريدي ايضا لمواضيع واشياء حسّية موجودة واقعيا يمكن إدراكها.

إن الموضوع الخيالي أو الموضوع المفاهيمي لا يمتلكان كيانا موجوديا ماديا في الواقع، بل هما فكر تجريدي في الذهن لا يعبر عن موجود مادي بعينه موجودا واقعيا أنطولوجيا. وما سبق لنا مناقشته في عبارة بيركلي ينسحب على مثالية أفلاطون ايضا ونجد بذلك انتهينا منه. لكن السؤال الباقي معلقا بماذا يختلف ما هو موجود مادي في تعبير اللغة عنه؟ عما هو غير موجود ولا مادي بالنسبة للفكر واللغة؟

الموجود المادي هو لغة قائمة انطولوجيا في تعبيرها عن مدلولها الواقعي المادي في حال الإدراك الحسّي للموجود. وعندما نقول الموجود المادي هو لغة فهو تعبير صحيح تماما كون إدراك العقل لكل محسوس هو لغة تصورية تجريدية له، لكن هذا التعبير لا يخلو من تناقض ازدواجي في معناه. فإدراك الشيء حسّيا هو أدراكه لغويا لا خطأ فيه يدينه ويسمح مناقشته، وعندما نقول حسب تعبير افلاطون الوقائع المعنية هي أفكار لغوية صحيح ايضا فأين الخطأ إذن؟

مسألة بديهية أن كل مدرك حسّي عقلي أو مدرك كموضوع خيالي هما إدراك بوسيلة الفكر واللغة المجردين ولا فرق بين وسيلة التعبير عن الادراكين. فالإدراك الحسّي هو تجريد لغوي، كما أن إدراك موضوع مصدره المخيّلة يكون تجريدا لغويا أيضا. لذا يكون الادراك في كل الاحوال وفي اختلاف وتنوع مواضيعه الإدراكية هو إدراك تجريدي لغويا.... ولا يمتلك الادراك الحسّي العقلي في التعبير عن مواضيع وموجودات ادراكه سوى تفكير العقل تجريدا لغويا.

فرق الإدراك بين الحسّي والمتخيّل  

لم نقل لا فرق بين الموضوعين المدركين أحدهما الموضوع المادي الحسّي والآخر موضوع المتخيل الذهني الذي لا وجود له على ارض الواقع. بمعنى الاول يمتلك وجوده الأنطولوجي وتعبير الفكر واللغة عنه، وهذا ما لا يتوفر عليه الثاني موضوع المخيلة الخيالي الذي يمتلك ايضا لغة التعبير عنه تجريديا لكنه لا يمتلك وجوده الأنطولوجي الواقعي بل هو من صنع مخيّلة الإنسان.

اللغة في تعبيرها عن موجود متعيّن انطولوجيا هو دلالة قطعية على وجود موجود مادي سابق في وجوده المادي على لغة التعبير عنه. وعلاقة الموجود المادية مع التعبير اللغوي عنه متطابقان تماما في عملية الادراك.

أما وجه التحفظ المثالي في ملابسة هذا الطرح هو الذي يقوم على أن الموجود هو لغة مستقلة بالذهن في تعبيرها عن موجود غير موجود ماديا ويريد الفكر واللغة خلقه واقعا ماديا هو استحالة لا يمكن تحقيقها مطلقا.

بمعنى تعبير الفكر واللغة التجريديين عن موضوع لامادي وغير موجود واقعيا يبقى موضوعا تصنيعيا من ابتداع المخيلة وعمل الذاكرة ولا يمكن معاملة ذلك الموضوع وجودا ماديا. الفكر واللغة لا يخلقان اشياء مادية واقعية. وفي كل الاحوال يبقى تعبير اللغة عن الاشياء المادية والمتخيلة هو تفكير لغوي تجريدي عن عالمين أحدهما واقعي والثاني متخيّل.

فلسفة الوجود قبل سقراط

ينسب إلى أحد تلامذة جورجياس انتستين قوله "أنا لا يمكنني أن أحدد ماهية الشيء، وإنما يمكنني فقط أن أحدد بعض الخصائص التي يملكها هذا الشيء، وهناك ما هو اسوأ من ذلك فأنا لا يمكنني القول عن شيء محدد ما ليس هو عليه ولا حتى أن اقول غير موجود." 3

ما أشار له انتستين قوله لا يمكنني أن أحدد ماهية الشيء إنما كان بذر البذرة الاولى في تاريخ الفلسفة حول قضية الماهية أو الجوهر بشكل دقيق لم يسبقه غيره به، التي أصبحت قضية فلسفية محورية أكدها كانط وهيجل ومن بعدهما الفلسفتين الماركسية والوجودية بخاصة في الفينامينالوجيا عند هوسرل، وكنت تناولتها في أكثر من مقال أن ماهية الشيء هي ليست صفاته الخارجية، ومجموع الصفات في الأشياء المدركة من غير الانسان تكون معرفة كافية للماهية أو الجوهر تعويضيا عن عدم معرفة ماهياتها كجوهر متمايز عن الصفات. لكن هذا لا ينطبق على الإنسان الذي يمتلك ماهية هي غير صفاته التي يشاركه بها غيره من البشر. الماهية عند الانسان هي تحقق الذات، هي الضمير الذي يقود سلوك الإنسان، هي الجوهر الذي يمتاز به الانسان عن غيره من نوعه وعن غيره من الكائنات في الطبيعة. والماهية هي تصنيع الإنسان لذاتيته الموجودية المتمايزة.

فلاسفة الماركسية أدانوا مقولة الاشياء تمتلك ماهيات أو جواهر هي غير صفاتها الخارجية المعلنة المعروفة. وليس هناك حاجة للبحث عن ماهية الشيء بعد معرفتنا صفاته الخارجية. وبقيت مسألة هل تمتلك الموجودات في الطبيعة ماهية أو جوهرا خاصة بها كنوع أم لا تمتلك بقيت بدون حل. وفلاسفة الوجودية كانوا مؤيدين للمنهج الماركسي حول هذه القضية باستثناء سارتر حيث كان له رأيا منفردا عن بقية فلاسفة الوجودية في النقاط التالية:

-         الإنسان فقط هو من يمتلك ماهية أو جوهرا من بين جميع كائنات الطبيعة الحيّة وغير الحيّة منها.. التي لا تمتلك جوهرا مثل الإنسان. ماهية الحيوان والكائنات الحية الاخرى صفاتها الخارجية تكفي لمعرفة ماهيتها. لذا الحيوانات لا تمتلك ذاتية تعي نفسها وفقدان الوعي بالذات لا يترتب عليه امتلاك ماهية أو جوهر هو غير الصفات الخارجية ولا يقوم الحيوان تصنيع ماهيته كما يفعل الانسان تصنيع جوهره ذاتيا والسبب أن الإنسان يمتلك الوعي الذكي في إدراك ذاته وإدراك كل موجودات الطبيعة من حوله..

-         ليس مؤكدا وجود الجوهر من عدم وجوده في جميع الكائنات بالطبيعة ما عدا الانسان فهو يمتلك ماهية متفردة في غنى عن تجربة التأكد منها. أشار سارتر أيضا الى أن الإنسان هو الوحيد من الكائنات في الطبيعة يمتلك جوهرا أو ماهية كونه الوحيد الذي يدرك ذاته ويعي وجوده الفردي ووجود العالم الخارجي والطبيعة من حوله. وماهية الإنسان ليست مجموع صفاته الخارجية التي يتساوى فيها مع غيره من الناس. كما أن ماهية الإنسان أو جوهره هي عملية تصنيع ذاتي فردي، وهي بنية متطورة يقوم الانسان ببنائها في داخله بعد إحساسه التام بوجوده القبلي الذي يسبق ماهيته أو جوهره. فالماهية بنية يحتويها الوجود المادي للإنسان هي صيرورة دائمية من تراكم الخبرة الشخصية المكتسبة من الحياة. وهي تابعة لوجود الانسان القبلي عليها.

دلالة الوجود

التأكيد الأرسطي الذي يعتمده العديد من الباحثين في علوم اللسانيات أحداها" الوجود- حسب أرسطو – ليس فقط أن نقول ما هو موجود، وإنما أن نقول من أي نوع من الوجود، فكل عنصر من المقولات العشر – المقصود مقولات ارسطو – هي نوع من الوجود." 4

نفهم الوجود هو مفهوم مطلق يتعين موضوعيا بدلالة موجوداته الداخلية ونوعها وخصائصها ومميزاتها. لذا يوجد تفريق مهم ذهب له بإسهاب كبير مارتن هيدجر في كتابه الكينونة والزمان تفريقه الملتبس بين الوجود والموجود. بين الوجود كمفهوم لا يمتلك تعيّنا انطولوجيا وبين الموجود الذي هو شيء متعيّن وجوده الانطولوجي كونه أحد مكونات الوجود.

اختلاف الوجود كمفهوم فيزيائي يختلف نوعيا بدلالة اختلاف موجوداته، لذا لا يمكن تصنيف الوجود كمفهوم الى نوعيات من الوجود. الوجود كمفهوم كلي شمولي لا يقبل القسمة ولا يقبل التقطيع نوعيا بغير دلالة موجوداته التي هي متّعينات موجودية داخل الوجود يمكن أدراكها ويمكن تصنيفها نوعيا كما نشاء.

عليه يكون اختلاف الوجود هو في حقيقته اختلاف محتوياته الموجودية داخله، لذا تكون نوعية الوجود تقوم على نوعية موجوداته ولا يتقبل الوجود التوصيف النوعي بغير دلالة تصنيف نوعية محتوياته من الموجودات داخله. ولا يمكننا معرفة نوع الوجود وأدراكه الا بدلالة محتوياته. والوجود كمفهوم ميتافيزيقي كما هو مفهوم الزمان حتى وأن جرى تمييزه نوعيا بغير دلالة موجوداته فهو يبقى بلا معنى ولا أهمية له تجريديا. بمختصر العبارة يعرف الوجود بدلالة موجوداته، لكن هذه الموجودات لا تعرف بدلالة الوجود الذي يحتويها.


الهوامش:

 1. سيليفان أورو، جاك ديشان، جمال كوغلي، ت: بسام بركة ص209/2. نفسه ص 213/ 3. نفسه ص 210/ 4. نفسه ص 224

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس