الوعي الفلسفي

 

الوعي الفلسفي

                                                  10 دجنبر 2020

د علي محمد اليوسف



يذهب أحد الفلاسفة تعريفه " الوعي أنه الفكر الإنساني، وحيث لا وجود لوعي لا وجود لفكر ولا للغة" 1. الوعي هو تجسيد تفكير العقل لمدركاته بوسيلة تعبير الفكر واللغة في تلازمهما تحقيق قصدية الوعي. الوعي من غير قصدية هو تغييب للفكر واللغة وإدراك المحيط وفقدان السلوك المجتمعي. وفي عجز هذه الحلقات التعبيرية الايفاء في الافصاح عن موضوع الوعي. والشيء الأهم أن قصدية الوعي هي ليست من اختراع الوعي ولا خاصية ذاتية له حتى إذا انتسبت إليه، فالقصدية هي السمة التي يخلعها تفكير العقل على الوعي كي لا يكون تهويما عبثيا لا قيمة يحملها ولا حدود معرفية تحده. الوعي هو تفكير العقل القصدي المعبّر عنه بالفكر واللغة بموضوع.

يوضّح هوسرل صاحب مقولة قصدية الوعي التي أخذها عن استاذه برينتانو، "أن القصدية هي من عمل الوعي وحده"2، وهذا التعبير الالتباسي يجعل من الوعي حامل دلالة المعاني التأويلية الخاطئة التالية في حال اعتبار هوسرل القصدية صفة ذاتية للوعي وليست صفة يكتسبها الوعي من ترابطه بمنظومة العقل الإدراكية:

-         الوعي هو الذي يحدد القصدية وليس تفكير العقل يخلق الوعي القصدي في تعبير الفكر واللغة عنه في مدركاته التي يعيها موضوعات له..

-         الوعي ليس ناتجا عن تفكير عقلي، بل الوعي تخلقه الادراكات الحسية وغير الحسية خارج منظومة العقل الادراكية..

-         والوعي يسحب فكره ولغة تعبيره بملازمتهما معه باستقلالية عن تعالقه بمنظومة العقل الإدراكية.

هذه بعض الاخطاء التعريفية التداولية في معنى الوعي الذي هو خاصية انسانية يحوزها الانسان الفرد على مستوى ادراكه لذاته ولموضوعه، وعلى مستوى الجماعة في تعاملهم الادراكي مع مواضيع الوعي كلا من وعيه الخاص به. الوعي صفة انفرادية يمتلكها كل انسان سوي طبيعي في افصاحه عن موضوع.

من الامور التي أغفلها هوسرل أن قصدية الوعي لا يحددها الوعي بمعزل عن الافعال والردود الانعكاسية التي يصدرها تفكير الدماغ عن الشيء الحسي أو عن الموضوع المدرك، كما أن الوعي لا يمتلك تجريد الفكر واللغة المصاحبتين له اللتين هما تصنيع عقلي ذهني، فالوعي ناتج ترابط تجريد الفكر مع تجريد اللغة بما تمليه عليهما منظومة العقل الإدراكية بمجملها التي إحدى حلقاتها الوعي. الوعي تجريد يكتسب كل خصائصه الادراكية من منظومة العقل.

الوعي هو تجسيد إدراك العقل بوسيلة تعبير الفكر واللغة، والوعي حلقة ترابطية لا تكتسب محتواها إلا من خلال إدراك العقل لموضوعاته، رغم ما يحمله الوعي من تجريد فكري لغوي، من حيث فهمنا الوعي هو محصلة إدراك تعبير الفكر واللغة عنه.

الإدراك والوعي

الإدراك مرحلة متقدمة بدئية على الوعي مصدره الاحساسات لم يكتسب القيمة الإفصاحية التي تصدر عن العقل ولا يخلقها الوعي ذاتيا في الإدراك، فالإدراك هو الاحساسات الاولية الصادرة عن الاشياء الواصلة على شكل انطباعات تصورية بالذهن... والوعي هو الحصيلة النهائية لمنظومة العقل الادراكية في البوح عن تلك الخلاصة بتعبير الفكر واللغة... بمعنى الوعي هو آخر مرحلة ادراكية صادرة عن العقل عليه نستطيع القول أن الوعي هو المرحلة الاخيرة من سلسلة المنظومة  الادراكية في حقيقة تمثيل الوعي لإرادة العقل النهائية حول موضوع أو شيء.

بمعنى الوعي الذي يشترك تجريديا مع الذهن والذاكرة كحلقات ترابطية معه في سلسلة الادراك العقلي الا أنه يتقدمهما بالإدراك المستمد من العقل. هذا لا يعني أن الوعي لا يتشارك الفهم الاندماجي المتداخل والمعنى المتبادل مع الذهن والذاكرة والفكر واللغة.. لكنما نجد الوعي يتقدمهما بالإفصاح الفكري اللغوي الملازم له. وربما يتشكل الوعي من إدراك عقلي فكري صامت لا يحتاج لغة التعبير الإفصاحي عن محتواه ويبقى تفكيرا استبطانيا لا يبوح عن نفسه ولا يعبر لغويا عن موضوع تفكيره..

الحواس وما تبعثه من احساسات حسيّة خارجية، ومنظومة الجهاز العصبي الناقل والمستلم لردود الافعال الدماغية الواردة والصادرة الانعكاسية، وصور ما ينطبع بالذهن من أحساسات صورية عن المدركات الخارجية، والذاكرة بنك معلومات تخزين الخبرات التراكمية المكتسبة، والفكر واللغة في تعبيرهما عن المدركات, من مجموع هذه الحلقات يخرج تفكير العقل بمقولاته التي لا رجعة ولا تعديل يطرأ عليها ليجسدها (الوعي) لا غيره في الافصاح عن مدركاته، بهذا المعنى من أهمية الوعي يكون هو استنساخ ادراكات تفكير العقل ونقلها حسب المطلوب منه عقليا بتعبير اللغة والفكر. ورغم كل هذه الميزات التي يحملها الوعي فهو ليس موضوعا يمكن إدراكه عقليا منفردا. الوعي خاصية ذاتية يعرف بها الانسان حقيقة نفسه وإدراك موضوعاته لكنه لا يكون موضوعا مدركا لغير حامله كخاصية انفرادية.

حلقات منظومة العقل الادراكية هي تجليّات ترتبط بيولوجيا بدماغ الانسان لكنها تبقى في حقيقتها الترابطية تجريدا لا معنى لواحدة بانفصالها المستحيل عن هيمنة العقل ورقابته التكاملية لجميع الحلقات الإدراكية التي تتصل به.

الذهن أو الذاكرة أو الوعي تبقى حلقات تستمد قيمتها من ارتباطها بمنظومة العقل الادراكية لكنها لا تمتلك الاستقلالية البيولوجية عن تلك المنظومة في احتفاظها بالصفة التجريدية فقط. عندما نقول (وعي) فلا يمكننا تصور ماذا يعني الوعي من غير اعتباره حلقة ادراكية ترتبط بيولوجيا بالدماغ وتعبر عن نفسها بتعبير الفكر واللغة المجردتين أيضا عن موضوع.

الوعي خاصية يمكن للفرد حاملها إدراكها لكنها من المستحيل أن تكون موضوعا مدركا من غير صاحبها. بمعنى الوعي يعي ذاته ويعي موضوعه لكنه لا يكون موضوعا لغيره قبل تعبير الفكر واللغة عنه. ثمة مقارنة تقريبية تفيدنا كيف يحمل الوعي صفتي البيولوجيا والتجريد معا، فالوجود حسب تعريف كواين هو أن توجد قيمة متغير متصل. ولو نحن حاولنا أسقاط هذا المعنى على مفردات متصلة متغيرة مجردة مثل الذهن والذاكرة والوعي فلن نتمكن من اكسابها صفة الوجود – البايولوجي العضوي ولا المادي المستقل – فهي موجودات غير وجودية تستمد قيمتها في متغيراتها الاتصالية بتفكير العقل لكنها لا تكتسب صفة الموضعة العضوية كموجود بالمعيار الذي حدده كواين، وتبقى هذه الانواع من التجليّات الادراكية تحمل صفتي الارتباط البيولوجي مع مجردات منظومة العقل الادراكية التي تبدأ بالحواس وتنتهي بالدماغ لكنها في حقيقتها ليست مواضيع مدركة بل هي تجريدات في منظومة العقل المعرفية..

الوعي الذات والأنا

على حد تعبير أحد فلاسفة اللغة يعتبر الوعي هو وعي شيء ما، وكل وعي هو وعي الذات بنفس وقت وعي لشيء آخر. لو نحن أمعنا التدقيق التأويلي في العبارة لوجدنا حين يكون الوعي مجردا من قصديته فهو لا يعدو كونه أدراكا بلا معنى أكثر من تمثيله انعكاسا ماديا لصور الاشياء المدركة بالانطباع في الذهن الاستقبالي لها. والذهن ليس مرجعية الوعي في فهم المدركات، الذهن لا يفكر بالإحساسات الواردة اليه المنطبعة فيه بمعزل عن تفكير الدماغ أو بالنيابة عنه. الدماغ هو الذي يمنح قبول مرور انطباعات الاحساسات بالذهن بعد فلترتها بأهميتها أم لا.

الوعي القصدي هو خاصية إنسانية يتفرد بها الفرد، وقصدية الوعي التي أعتمدها هوسرل لم تعد هي القصدية التي أعتمدها جون سيرل، ولا هي وعي الانا التي أعتمدها كانط باعتباره الانا نوعا من الوعي القصدي المتسامي المتعالي الذي لا يتحدد بموضوعه الادراكي. وفي تجاوز كانط للفهم الديكارتي في الكوجيتو لمعنى (الوعي بالذات) أشار الى أن الذات المتسامية التي هي الانا العليا لا يمكن أن تكون موضوعا بتاتا. وهو ما لا يمكن نكرانه في انطباقه كمعيار فلسفي يطال الوعي مقبول منطقيا فلسفيا..

هذا الاشكال الذي وضعه كانط في معنى وعي الذات القائم على تسامي الأنا، يسحبنا مضطرين الى مناقشة متى كان وعي الذات (الأنا) موضوعا كي لا تكون الأنا العليا موضوعا؟ الا في حال ربط الوعي الذاتي بالانا المتعالية المتسامية كما يرغبه كانط، وعي الذات سواء بالتعالي الأنوي أم بغيرها فهو خاصية انفرادية يمتاز بها الانسان، ولا يمكن أن يكون الوعي موضوعا، لأنه لا يدرك الا من صاحبه فقط... الموضوع موجود مستقل خارج وعي الانا له وإدراكه، وموجود خارج الإدراكات التي لا تكون وعيا تفكيريا عقليا به.

وبالتأكيد لو لم يكن الوعي هو وعي بموضوع آخر لما توفرت الحاجة الى أن يكون الوعي قصديا مشروطا بتلك الخاصية الهادفة تحقيق معرفة معنى موضوعه. وعي الذات يقود الشخص الى سلوكية قصدية خاصة بصاحبها. الانا هي اساسا وعي ذاتي لا يمكن أن يكون موضوعا مدركا من غيره. ويوجد العديد من اشكال وعي الانا التي يحتازها ويمتلكها الانسان ولا تكون موضوعا مدركا من غير صاحبها مثال ذلك الضمير، النفس، العواطف، الإحساسات، الأحاسيس، السلوك، الرغبات، الغرائز، الماهية وهكذا. جميع هذه الموضوعات الإدراكية وغير الادراكية تبقى تجريدات مفاهيمية مطلقة لا معنى لها إلا من خلال الوعي الإدراكي بها والتعبير عنها بفكر ولغة تحمل دلالة المعنى عنها كمواضيع وليس كمفاهيم مطلقة مجردة.

الوعي: المجتمع والحاسوب

الوعي ليس إدراك تعبيري قصدي متجرد عن معنى قصديته الواقعية. بل هو ذلك الوعي القصدي الذي يقود صاحبه الى سلوك مجتمعي يجعل من الانسان جزءا فاعلا بالحياة. "والكيان الذي لا يملك الادراك من حيث هو علاقة مع العالم، والذي لا يقدر على التفاعل الاجتماعي هو كيان غير قادر على القيام بسلوك لغوي بشري حتى لو كان إنسانا" 3

أن عجز الحاسوب أن يكون كائنا لغويا مستنسخا تماما عن لغة الانسان لا يصبح انسانا في امتلاكه خاصية اللغة، ليس لأن الحاسوب لا يمتلك روحا وإنما لعدم امتلاكه جسدا يجعله يعيش داخل مجتمع يؤثر فيه ويتأثر به.4

نلاحظ هنا تأكيد أن الوعي القصدي هو فعالية حيوية مكتسبة من العقل، ولا فائدة منها ما لم تكن سلوكا ضمن مجتمع، أي حسب تعبير هيدجر وعي الذات حقيقته هي وجود- في – عالم. هذه المقولة الهيدجرية التي نتداولها على أنها تمثل انتهاء الوعي الى استقرار انطولوجي محسوم ممثلا في الوجود في عالم يتفاعل معه وبذلك يجد الوعي دلالته الطبيعية في قصدية وصوله الاندماج في عالم هو عالم الناس والمجتمع.. أنه لمن الغريب أن يعود هيدجر في نفس كتابه الكينونة والزمان ليدحض المعنى الشكلي الظاهري للعبارة في محاولته التماهي مع مقولة كانط في الانفراد المتعالي للذات في الانا العليا التي لن تكون موضوعا بتاتا، مؤكدا هيدجر تصحيح الفهم الخاطئ الذي يقوم من خلال عبارته أن قصدية الوعي في تموضعها الوجودي في عالم يعني أن وعي الانسان هو أصلا خارج العالم. بهذا التعبير اراد هيدجر حل مشكلة أوقعنا بأكبر منها.

بتلك العبارة المزدوجة المعنى يضع هيدجر الانسان في منطقة محصلة التجاذب الصفر في وجود الانسان الذي يتقاذفه اللاوجود بين عالمين وجود (في) داخل مجتمع ووجود(خارج) ذلك المجتمع بنفس الوقت ...هذا الخلط الازدواجي مصدره عدم التفريق بين جوهرين متلازمين لكنهما لا يمثل أحدهما الاخر بايولوجيا، فالوعي هو تجريد ملازم للإنسان منفصل عنه وملازم ومتحد فيه. فكيف يكون الانسان كينونة وجودية هي داخل مجتمع ومنفصلة عنه خارجيا بنفس الوقت؟؟ الانسان وجود بايولوجي فيزيائي يحمل خصائص عديدة أحداها هو (الوعي) وحينما يكون هذا الوعي مندمجا في وجود مجتمعي، فهذا الوعي يكون تجريدا صادرا عن انسان فرد منعزلا بطبيعته البايولوجية عن مجتمعه ككيان فردي. بعبارة أكثر توضيحا كما أننا لا يمكننا اختزال كينونة الانسان باللغة والفكر فقط، فيكون هنا معنا نفس الشيء لا يمكننا اختزال كينونة الانسان بمفردة الوعي الإدراكيية التي تتموضع بالأشياء بمعزل عن التأثير الوجودي في صاحبه الذي هو الانسان.. الوعي هو سلوك انساني تسيّره الارادة الانسانية المعنية به. والسلوك الاندماجي التكيّفي مع المجتمع الذي يقوده الوعي لا يجعل من كينونة الانسان ذائبة بهذا التواصل الاندماجي عبر التواصل السلوكي، وإنما الاندماج يطال الوعي ولا يطال الانسان إذا جاز الفصل بينهما.

أفلاطون واللغة

إنه لمن العبقرية حقا أن يعتبر افلاطون النص المكتوب لغويا ليس سوى صورة مشوّهة للسلوك البشري، وعلى نفس هذه الفكرة أنكر جون سيرل فيلسوف العقل والوعي القصدي المعاصر وفلاسفة آخرين معه "ان المعالجة التي تتم في الحواسيب ليست هي بالفعل سلوكا لغويا بشريا" 5، لنفس الاسباب التي كنا مررنا عليها سريعا ونؤشرها الان هي:

-         لغة الحاسوب هي ليست لغة مجتمعية بمعنى امتلاكها كل خصائص لغة التواصل الطبيعية، كون الحاسوب لا يمكنه أن يكون كيانا يعيش ضمن مجتمع يتفاعل معه كما يفعل الانسان..

-         لغة الحاسوب في تمكينها خاصية توليد الاشتقاقات اللغوية ألا أنه أي الحاسوب لا يستطيع التحكم في العبارة التي أوصلت المعنى للمتلقي أم لا، بمعنى الحاسوب لا يمتلك وعيا إدراكيا يجعله يتحكم بطول وقصر عبارة اللغة في مخاطبته الاخر تواصليا تحاوريا. بمعنى التكافؤ الندي مع الآخر. لغة الحاسوب لا تمكنه من اختيار السلوك اللغوي المندمج مع المجتمع. ولا يتمكن امتلاك العواطف والضمير والقيم الاخلاقية والدينية وغير ذلك.

  - لغة الحاسوب تفتقد أهمية الالتزام بما يترتب على الجملة والعبارة الصادرة عنه كما هو عند الانسان في تحديده موعد لقاء مثلا واين ومتى؟ وكذلك الايفاء بالوعود التي يقطعها الحاسوب على نفسه من خلال لغته ولا يعرف معنى الالتزام بما يترتب عليها من تنفيذ أجرائي مستقبلي.

ولعل تعبير كوندياك في تناوله أصل اللغة يشير الى مثال في غاية الدلالة عن السلوكية اللغوية قوله " الصرخة التي تنطلق من شخص ليست متمثلة في وعي الشخص، وأنما متمثلة في وعي الشخص المتلقي الذي يراقب الصرخة. وليس هناك لغة فردية ولا بد من وجود مجتمع كي تولد اللغة " 6 هذا يقودنا التسليم بصحة الفهم السوسيولوجي المنحدر عن تأصيل اللغة أنثروبولوجيا.

الختام مع هيدجر

في كتابه "رسالة حول الإنسانوية" يذهب هيدجر الطعن وادانة اللغة التواصلية الطبيعية أن تكون وسيلة تعبير فهم الانسان عالمه ووجوده قائلا "ليست اللغة في جوهرها الوسيلة التي يكشف الكائن الحي بواسطتها عن نفسه، وهي ليست ايضا التعبير عن كائن حي، لهذا السبب نحن لا يمكننا التفكير بطريقة تتلاءم مع جوهر اللغة انطلاقا من قيمتها كإشارة ولا حتى قيمتها كدلالة، فاللغة هي السبيل الموضح للوجود نفسه والمواري له في آن واحد" 7

ومن غرائب تحقق الوعي الذاتي عند هيدجر نجده لا يقوم على منطق اللغة بل على ما أطلق عليه (الوجدانية) التي تقوم على حوار ما بعد معنى اللغة التي هي رمزية بها يصل الكائن البشري الى الواقع. ومؤكدا هيدجر أن الخطابية اللغوية التي هي الميزة الخاصية بالإنسان الذي من خلالها يتموضع وجوده في الخارج أصلا. وبالوجدانية التي تتجاوز تعبيرات اللغة الشكلية تنفتح أمام الكائن العيني (الانسان) أبواب العالم الذي يعتبر تحليل شكل اللغة محاولة في غير محلها.8

لنا التعقيب التالي:

-         الاقتباسان يحتويان على تناقضات لا يمكن لفيلسوف مثل هيدجر تصدر عنه ويقترفها. ويمكن لأي قارئ لتلك العبارات التوقف عند متناقضاتها التي لا يمكنه تمريرها. ولا نجد حاجة تكرارها فهي واضحة لا تحتاج توضيح.

-         كيف تكون اللغة" هي السبيل الموضّح للوجود نفسه، والمواري له – يقصد إخفاءه - في آن واحد؟؟ ما معنى اللغة التي أجملها هيدجر بالإشارة أن تكون وسيلة سحرية تلبس طاقية الاخفاء في حجبها الوجود عنا تارة والتعبير عنه تارة اخرى بنفس الآن؟ هل من الممكن أن تكون اللغة تعبيرا عن وجود هو غير موجود؟ بمعنى هل تمتلك اللغة خاصية غير تجريد الفكر المعبر عن موضوع.؟ ماهي الوسيلة التعبيرية التي نزيح عنها اللغة كي تعّبر هي عن وجود حقيقي يمكننا التعامل معه كما يرغبه هيدجر؟

 من المقبول فلسفيا أذا قلنا أن اللغة ليست تعبيرا امينا دقيقا عن موجودات الوجود، في تركها خلفها نقائص في النص أو أي خطاب لغوي هي فراغات تتوزع بنية النص المخفي والمسكوت عنه والمراوغة والاحتجاب، فراغات تحتاج ملء تأويلي نقدي يحمل فائض معنى قرائي لها، فيكون كلامنا أن اللغة ليست بريئة في تعاملها المخاتل وهو ما يجمع عليه فلاسفة اللغة واللسانيات اليوم. أما أن يعتبر هيدجر اللغة ليست وسيلة تعبير عن الوجود بنفس وقت إخفاءها هذا الوجود فهو طرح يحتاج توضيح فلسفي من صاحبه هيدجر وألا وقع تعبيره الفلسفي في منطق اللامعنى الذي لا قيمة له..

-         ما هو بديل اللغة التي هي ليست وسيلة الانسان في فهم وجوده والعالم والطبيعة من حوله الواردة في تعبير هيدجر "ليست اللغة في جوهرها الوسيلة التي يكشف الكائن الحي بواسطتها عن نفسه، ولا هي وسيلة التعبير عن كائن حي " هل يمتلك هيدجر وسيلة غير لغوية تساعدنا التعبير عن أنفسنا وعن الاخرين؟ يعني في إعدامنا اللغة المتاحة طبيعيا لنا هل نتوفر بمساعدة هيدجر على منطق فلسفي لغوي أو غير لغوي يضعنا أمام حقيقة فهم أنفسنا والعالم من حولنا؟ بالتأكيد لا.

-         إذا اعتبرنا على خلاف رغبة هيدجر أن ما هو أعلى من اللغة والمتجاوز المتعالي عليها يمثل (الوجدانية) كما اشار له في عبارتيه السابقتين، معتبرا هذه الوجدانية أسمى من جوهر اللغة الاشارة التي نتعامل بها بلا معنى ولا فائدة. وتعقيبنا على هذا التخريف هو حقيقة اللغة هي جوهر شمولي مطلق وخاص أشمل من كل مفردات علم النفس، الوجدانية التي يرغبها هيدجر بديلا متعاليا على اللغة لا تكون في حقيقتها غير لغة خرساء لا تمتلك لغة التعبير عن نفسها قبل التعبير عن حاملها. عليه نجد ما هو متاح لفيلسوف بوزن هيدجر التفلسف في نطاق منطقي يقبله العقل بدلا من تخاريفه الفلسفية المليء بها كتابه الزمان والكينونة.

-         كيف تكون خطابية اللغة بلا وجدان حينما تجعل الإنسان يتموضع وجوده في الخارج أصلا على حد تعبيره، ويضيف " الوجدانية التي تتجاوز تعبيرات اللغة الشكلية تفتح أمام الكائن العيني الانسان أبواب العالم الذي يعتبر تحليل شكل اللغة محاولة في غير محلها " لا أجد فيلسوفا واحدا يستطيع الخلاص من هذه التعبيرات التي لا معنى ترابطي لها ولا هي جديرة حتى بالوقوف عندها. أنها بعض من اسطورة ملابس الامبراطور الجديدة التي لم يسبق لأحد شاهدها ولا سمع بها ولا أكتشف غير عرّيها الفاضح.

الهوامش

1.      فلسفة اللغة، سيلفان أورو، جاك ديشان، جمال كوغلي، ت: د. بسام بركة ص 310

2.      نفسه ص311

3.      نفسه 321

4.      نفسه 321

5.      نفسه 321

6.      نفسه 321

7.      نفسه ص 353

8.      نفسه ص 351

 

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس