التطورانية
في العلم: كارل بوبر نموذجا
مقدمة
تعتبر الابستمولوجيا مبحثا فلسفيا ينصب اهتمامه على المعرفة العلمية من خلال تتبعها والنظر في أسسها ونتائجها ومحاكمتها بطريقة نقدية، ونعني
بالنقد هنا، التحليل وبيان المكونات والحدود. و لعل من أبرز القضايا التي فرضت
نفسها بقوة داخل هذا الحقل مسألة التقدم في العلم و المنطق الذي يحكمه، حيث نجد
عدة مقاربات تطرقت لهذه الإشكالية و نذكر على سبيل المثال لا الحصر المقاربة
التطورانية التي يمتلها في هذا المقام
كارل بوبر[1]،
وسنحاول من خلال هذا العرض تسليط الضوء على تصوره الذي بدوره سيقودنا إلى إثارة
مجموعة من القضايا الابستمولوجية التي لا بد من الوقوف عندها حتى يتسنى لنا استيعاب
تصوره، و يمكن في هذا السياق أن نسترشد بما كان قد انطلق منه هذا الأخير عندما
يقول: " قد أكون أنا على خطأ، و أنت على صواب، و ببذل الجهد قد نقترب أكثر من
الحقيقة". من هنا يبدو واضحا أن بوبر يتميز بعقلانية نقدية منفتحة بخلاف كل
المذاهب الدوغمائية التي لا تتقبل أي تصويب أو تعديل أو تطوير وتؤمن باليقين
القاطع المنغلق الذي لا يتسع لأي نقاش أو رأي آخر. وهذا ما جعل الابستمولوجي
النمساوي يشق طريقا مغايرا لما اعتمده التجربانيون في تفسيرهم لمنطق تقدم المعرفة
العلمية موجها سهام نقده للمبدأ الأساسي الذي اعتمده هؤلاء في بناء المعرفة
العلمية ويتعلق الأمر بالمنهج الاستقرائي.
ونقده للمنهج الاستقرائي لا
ينفصل بدوره عن تصوره لتطور المعرفة العلمية. فإذا كانت الحقيقة غير مطلقة، ولا
تتمثل في مطابقة الواقع لأفكارنا فكيف يتصور كارل بوبر النظرية العلمية الحقيقية؟
وبعبارة أخرى كيف يتأتى للعلماء الحكم على صدقها؟ وما المنطق الذي يحكم تقدم
المعرفة العلمية، هل هو منطق التبرير أم الكشف؟ وهل من سبيل للتمييز بين العلم
والعلم الزائف؟
نقد كارل بوبر للمنهج الاستقرائي:
انشغل بوبر بمشكلة الاستقراء
في إطار اهتمامه بمسألة التمييز بين العلم وما سواه، إلى درجة أنه خصص لها حيزا
كبيرا من حياته العلمية وقد عبر عن ذلك قائلا: «سبق لي، خلال شتاء 1920-1919،
أن قمت بصياغة وحل مشكلة الفصل بين العلم والعلم الزائف، ولم أكن مقتنعا بكونه
(الحل) صالحا للنشر. غير أنني، وبعد أن قمت بحل مشكلة الاستقراء، اكتشفت وجود
تداخل بين هاتين المشكلتين؛ وهذا ما جعلني أولي أهمية لمشكلة الفصل. لقد شرعت في
الاشتغال على مشكلة الاستقراء سنة 1923 ووجدت حلا لها حوالي سنة [2]1927.
وقبل التطرق إلى تجليات نقد بوبر للمنهج الاستقرائي، لابد من تعريفه والوقوف عند
دلالاته فالاستقراء" يعرف لغة: هو التتبع لمعرفة أحوال الأمور. أما اصطلاحا:
فيعني الحكم على الكلي لثبوت ذلك الحكم على الجزئي، ولذلك فهو استدلال صاعد يبدأ
من ملاحظات جزئية تجريبية ليصل إلى حكم كلي يصاغ في شكل قانون عام، يقوم هذا الحكم
على خاصية التمثيل، التي تجعل الحكم صادقا في جميع الحالات المتماثلة أينما وقت
ووقتما وقعت، كما ينتج عن هذا التعميم إمكانية التنبؤ العلمي"[3].
ويعرف أيضا بكونه انتقالا من ملاحظات مفردة إلى قوانين عامة أو، بلغة المنطق،
انتقال من عبارات مفردة Enoncés singuliers إلى عبارات شاملة Enoncés
universels . وبهذا
المعنى العام، يعتبر الاستقراء آلية علمية راسخة في القدم، إذ نجدها معتمدة من قبل
أرسطو نفسه. صحيح، لقد أولى هذا الأخير أهمية خاصة للقياس بوصفه ربطا للحد الأصغر
بالحد الأكبر بواسطة الحد الأوسط، لكنه لم يهمل الاستقراء. إنه يعتبر أول من
استعمل كلمة استقراءEpagôgê ، كما أنه أكد مرارا أن مقدمات القياس تبلور عادة بواسطة
الاستقراء. فلا علم، حسب أرسطو، إلا بالكليات التي ليست إلا تعميمات استقرائية.
وأخيرا، نشير إلى أن الفيزياء الأرسطية اعتمدت كثيرا على الاستقراء؛ ذلك أن معظم
إقراراتها هي، في نهاية المطاف، تعميم لمعطيات الملاحظة المباشرة[4].
وبشكل عام فالاستقراء هو الانتقال من قضايا
جزئية إلى قضايا عامة تتخذ صيغة قوانين عامة. ولكن هذه التعميمات الواسعة ستطرح
مشاكل لوجود حالات خاصة قد لا ينطبق عليها القانون العام. لهذا عمل بوبر على نقد
المنهج الاستقرائي نظرا لمجموعة من الاعتبارات يمكن تلخيصها كالتالي:
على مستوى الملاحظة: اعتبر بوبر أنه
لا وجود لملاحظة خالصة، فكل ملاحظة تكون دائما مؤطرة بأفكار مسبقة ووجهة نظر
محددة. حيث دخل بوبر ذات مرة على طلبته وقال لهم خذوا قلما وورقة، ولاحظوا بدقة
ودونوا ما تلاحظونه، فسألوه ماذا سنلاحظ"، يدل هذا المثال أن كل ملاحظة ليست
موضوعية بالمطلق كما اعتقد التجربانيون فالعلم كما يقول برنار مطالب أن يكون كألة
التصوير بمعنى ينقل ما تمليه عليه الطبيعة وهذا مستحيل، فلا توجد ملاحظة نقية ففي
كتابه منطق البحث
العلمي كتب: "إن الاعتقاد
بأننا نستطيع أن نبدأ بملاحظات خالصة فقط، دون الاستعانة بشيء له طبيعة النظرية،
هو اعتقاد سخيف… تكون الملاحظات دائما انتقائية. إنها في حاجة إلى موضوع وإلى مهمة
محددة وهدف معلن ووجهة نظر ومشكلة".[5]
أما على مستوى التجربة: يرفض بوبر
الموقف التجرباني الذي يؤمن بإمكانية قيام تجربة نقية ومحايدة، تسند إليها مهمة
الحسم النهائي في الفرضيات العلمية. فمن جهة أولى، لا وجود، حسب بوبر، لتجربة نقية
خالية من أية شوائب نظرية. فكل تجربة تتم وفق خطة معدة سلفا. ولذلك، فضل استعمال كلمة
تجريبExpérimentation بدلا من كلمة
تجربة. فالتجريب هو تجربة مؤطرة نظريا. ومن جهة أخرى، أكد على استحالة قيام تجربة
حاسمة. فعلاوة على كون التجربة الواحدة تقبل تأويلات مختلفة، فإنها تعجز عن إثبات
صدق الفرضية المقترحة.[6] كما أن كل تجربة تتأسس على عدة مفاهيم ليست من صميمها
كالسببية، ومبدا اضطراد الظواهر، الحتمية، الاحتمالية، الزمان، المكان،
التنبؤ.....،ورغم ذلك فبوبر لا ينكر أهمية التجربة بحيث يعتبر أن نسقا لا يمكنه أن
يكون علميا إلا إذا كان قابلا لاختبارات تجريبية [تكذيبية]، غير أنه يختلف مع
الوضعانيين بخصوص الغاية من التجربة، فإذا كان هؤلاء يراهنون على التجربة من أجل
التحقق من صدق النظرية العلمية فإن بوبر على العكس من ذلك يلجأ إلى التجربة من أجل
التكذيب. .
وعلى مستوى القفزة التعميمية (القانون):
فالقانون المستنتج من التجربة ليس مطلقا وعاما على جميع الظواهر كما اعتقدت
التجربانية، ذلك لأنه لوجدت حالة واحدة ستكذب التعميم والقانون، هذا بالنسبة
للاستقراء الناقص، أما الاستقراء الكامل لا يمكن أن يحدث لأن العالم لا يمكن أن
يعد جميع اجزاء وحالات ظاهرة معينة. وسنقدم أمثلة على ذلك: يحاول بوبر أن يدحض
ثلاثة من أهم الشواهد الاستقرائية على عدم صحة التعميم الاستقرائي.
أولا: "الشمس تشرق مرة كل أربعة وعشرين
ساعة". ثانيا: كل الناس فانون. ثالثا: " الخبز يغذينا ".
لقد تم
إبطال القانون الأول باكتشاف أن الشمس تشرق في منتصف الليل في البحر المتجمد، أما
بالنسبة للقانون الثاني فيرى بوبر أن المترجمين قد أساؤا ترجمة لفظ ( ثنيتوس Thnétos )، الذي تكون ترجمته الدقيقة، في نظره هي صائر إلى الموت، أو قابل
أن يموت وليس فان، وهكذا فعلى الرغم من مليارات الحالات التي تؤكد هذا القانون،
فإن اكتشاف البكتيريا عن الانقسام الذاتي لا يؤدي إلى موتها، ومن ثم فإن الكائن
الحي بصفة عامة ليس صائرا إلى الموت، واخير ينقض القانون الثالث بمثال لديفيد هيوم
عن قمح زرع في إحدى المزارع الفرنسية، إذ عوض أن يطعم الناس سممهم[7].
تصور كارل بوبر لتطور العلوم:
يتبني كارل بوبر منطق الكشف العلمي، ويؤمن بالتقدم في المعرفة العلمية
بخلاف التصور الوضعاني الذي يتبنى منطق التبرير، أي تبرير علمية المعرفة من خلال
وضع معايير تضمن أوصافها، مثل الموضوعية والدقة والصرامة والصدق، وتستهدف هذه
المعايير إما التحقق، أي مدى مطابقتها مع الواقع، وإما التحليل اللغوي لعبارات
العلم. معتمدا في ذلك منهجا فرضيا استنباطيا ومعيار القابلية للتكذيب. وقد لاحظ أن كل فلاسفة العلم منذ جون ستيوارت مل، بل كل فلاسفة المعرفة
التجريبية منذ ديفيد هيوم حتى ماخ الوضعانيين فهم ينظرون إلى المعرفة العلمية
بوصفها حقائق مثبتة مؤسسة، فينشغلون بتبريرها. وصمم بوبر على ً إحراز الخطوة
الأبعد، وأكد أنه على عكسهم جميعا لا يُعنَى البتة بتبرير المعرفة العلمية أو حدود
صدقها وصحتها، بل يُعنَى فقط بمشكلة نمو المعرفة وكيفية تقدمها، فيصوب الأنظار إلى
منطق الكشف العلمي، الذي يحكمه منطق التكذيب والتفنيد.[8]
يظهر من خلال هذا الكلام أن التصور الوضعاني
لتقدم المعرفة العلمية يؤمن بمبدأ التقدم التراكمي بغية فهم العالم والقبض على
حقيقته، غير أن بوبر يذهب عكس هذا لأن العالم في نظره لا يمكن الإمساك بحقيقته، بل
فقط الاقتراب منها. لذلك نجده يقول:"لا يعود الفضل في التقدم العلمي إلى التراكم
المستمر لإدراكاتنا الحسية ولا إلى تعلمنا مع الزمن باستعمال حواسنا على نحو أمثل.
إن أخذ إدراكاتنا الحسية على عواهنها لا يؤدي بنا بتاتا إلى العلم، مهما بذلنا في
تجميعها وترتيبها. إن وسيلتنا الوحيدة لوعي الطبيعة هي الأفكار وهي التوقعات اللامبررة
والتأملات الجسورة التي لا نتوقف لحظة عن طرحها والرهان عليها: إن من لا يعرض
أفكاره لخطر الدحض لا يشارك في لعبة العلم. والفكر هو الذي يقود أيضا فحص الأفكار
عبر الاختبار: إن النظرية هي التي تخطط العمل المخبري وتسيره. إننا لا نعثر في
اختباراتنا ولا ندعها تجرفنا كالتيار وأننا نحن الذين نصنعها، نحن الذين نصوغ الأسئلة ونطرحها على الطبيعة على الدوام
منتظرين الإجابة عنها بدقة بنعم أو لا ـ فالطبيعة لا تجيب إن لم تسأل ـ إلا أننا
نحن الذين نعطي الجواب في نهاية المطاف بعد أن نكون قد تفحصناه بعناية وبعد أن
نكون قد بذلنا ما في وسعنا لدفع الطبيعة للإجابة "بلا" بجلاء وبدون
لبس."[9] إذن فالتقدم العلمي ليس مسارا خطيا تراكميا متصل من خلال تجميع
وترتيب إدراكاتنا الحسية في شكل نظريات، وإنما العكس حسب بوبر فالأفكار أولا ثم
التجربةـ لأن الطبيعة لا تفصح عن نفسها من تلقاء ذاتها ولا تبوح بأسرارها من
خلال الملاحظة الدقيقة فقط، فالطبيعة لا
تجيب إن لم نسألها ونلقي عليها بأفكارنا، لذلك فنحن دائما نقترب من حل لغزها، فالنظريات
العلمية هي بمثابة شباك نلقي بها على ما نسميه العالم من اجل القبض عليه، وفي كل
مرة نجتهد في تضييق هذه الثقوب.
معيار علمية وصلاحية النظريات العلمية.
تستند
فلسفة بوبر بأسرها على أن الخاصية المنطقية المميزة للعلم التجريبي هي إمكانية
تكذيب عباراته، هي قابليته المستمرة للمواجهة مع الواقع والوقائع، للنقد والمراجعة
واكتشاف الأخطاء وبالتالي التصويب والاقتراب الأكثر من الصدق، التقدم المستمر.
بهذا علَّمنا كارل بوبر كيف تكون فلسفة العلم هي منطق قابليته المستمرة للتقدم[10].
وبالتالي فالنظريات العلمية تتطور على مبدأ المحاولة والخطأ كما تتمثل في صياغته
الشهرية «م1 – ح ح ـ أ أ
م2 ).وفي هذا السياق يقترح العالم والإبستمولوجي كارل بوبر معيارا للتمييز بين العلم
وما سواه يسميه التفنيذية أوالقابلية للتكذيب، بحيث تكون نظرية ما علمية إذا كانت
قابلة أن تحدد أمثلة من التجربة تبين كذبها، أما المذاهب التي لا تقبل التكذيب
فإنها تظل خارج دائرة العلم، وفي ذلك يقول:" يجب أن يكون بالإمكان بالنسبة
لنسق علمي تجريبي أن يفند بواسطة التجربة"[11]،ففي
نظره لا ينطلق البناء العلمي من أحكام تجريبية، بل من فرضيات، فالقوانين العلمية
حسبه تصاغ في صورة أحكام كلية، وإذا تمكنا من تعيين مثال مضاد واحد فقط أي حكما
جزئيا واحدا لا يدخل في الحالات الإيجابية للقانون فذلك يدل على أن هذا القانون
قابل للتفنيد، لأن نقيض الحكم الكلي الموجب هو الحكم الجزئي السالب.
وبشكل عام فالمعرفة بدورها ليست إلا نشاطا لحل مشاكل معرفية. لذلك
يبدأ أي موقف بمشكلة محددة لتكن «م1 «لتأتي محاولة حلها «ح ح»، لكن لا بد من
مناقشة أو اختبار الحل و«استبعاد الخطأ» «أ أ»، وإلا لن تستمر الحياة، بعد حذف
الخطأ يبرز موقف جديد، وأي موقف يحتوي على مشاكل؛ لينتهي إلى مشكلة جديدة «م2
«هكذا نجد الصورة المنهجية لأية محاولة: «مشكل1 – محاولة الحل – اقصاء الخطأ – مشكل2.« وقد تُقترح كثرة
من الحلول تُختبر جميعها من أجل الوصول إلى أفضل حل «م2«. ويمكن التعبير عن ذلك وفق الخطاطة التالية:
إذن نلاحظ من خلال الخطاطة أن المشكل المطروح تقترح له عدة حلول متنافسة فيما بينها ولكن الحل الأنجع هو الذي يبقى، وهذا لا يعني أنه حل نهائي ومطلق بل فقط مؤقت لأنه يحمل في نفسه الخطأ وعدم الاكتمال أي القابلية للتكذيب، وبالتالي سيظهر عنه مشكل جديد وهكذا دواليك، مما يعني أن العلم عبر تقدمه يحاول الاقتراب من الصدق، ولا يمكنه أن يدعي أنه وصل إلى الحقيقة المطلقة، فلا وجود لنظرية علمية مؤسسة بشكل نهائي ومطلق، فكل نظرية قابلة للتكذيب والتجاوز.
الخلفية النظرية لتطورانية بوبر:
إن
الخلفية النظرية لإبستمولوجية كارل بوبر تنبني على النظرية التطورية لتشارلز
داروين، التي تتلخص في: "أن كل أنواع الكائنات الحية لها أصل واحد، هو
الكائنات الحية البدائية، بحيث تكون بينها علاقة وراثة، وقد تطورت الأولى عن
الثانية بناء على فعل الانتخاب. الذي يكون إما اصطناعيا واما طبيعيا ومفاد
الانتخاب هو أن الكائنات الأصلح والأكثر تكيفا هي التي تستمر في الحياة، فتنتصر في
الصراع من أجل البقاء، بحيث لا تبقى إلا الأنواع التي أبانت عن قدرتها على التكيف
أكثر من غيرها"[12].
وقد لاحظ بوبر أن هناك تماثل إلى حد كبير
بين نظرية داروين المشار إليها أعلاه والتقدم العلمي، فالمعرفة قد بدأت بفروض
بدائية وأولية كانت عبارة عن مشكلة تتطلب حلا، فاقترح لذلك حلا أو حلولا فأثبت أحد
جدارته وتفوقه على منافسيه لأنه الأنجع، ونظرا لتضمنه إمكان الخطأ فقد ظهرت مشكلة
جديدة، مما يعني أن العلم يتكون من تلك النظريات التي أثبتت ملاءمتها وتكيفها مع
المشاكل، وبالتالي صمدت أمام النقد (الصراع من أجل البقاء) وصمودها وبقاؤها
يوازيها استبعاد نظريات أخرى أقل قيمة أو خاطئة. لأن العلم عند بوبر هو محاولة لحل
المشاكل فنجده يقول:" إن المعرفة لا تبتدئ بإدراكات أو بملاحظات، أو بجمع
معطيات أو أحداث لكنها تبدأ بمشاكل، فلا معرفة بدون مشكلات، لكن أيضا لا مشكلة
بدون معرفة، وهذا يعني أن المعرفة تبتدئ بالتوتر بين المعرفة واللامعرفة: فلا
مشكلة بدون معرفة ـ لا مشكلة بدون معرفة، إذ أن كل مشكل ينبثق عندما نكتشف تناقضا
داخليا بين معرفتنا المفترضة والوقائع، أو معبر بطريقة ربما كانت صحة أو باكتشاف
تناقض ظاهر بين معرفتنا والأحداث المفترضة.[13]
إذن ولحدود
الان فكارل بوبر نظر إلى المعرفة العلمية وفق مقاربة بيولوجية، ولكنه يركز على
نقطتين أساسيتين ألا وهما:
أولا: فلكي
تكون النظرية جديدة يجب أن تدخل في صراع مع النظرية التي تسبقها، أي يجب أن تطيح
بها، كما يجب أن تكون النظرية الأولى قد اكتملت بشكل نهائي.
ثانيا: فمهما
كانت النظرية الجديدة ثورية، فهي محافظة بمغزى معين، لأنه يجب لزاما عليها دوما أن
تكون قادرة على تفسير سائر ما نجحت سابقتها، وفي كل الحالات التي نجحت فيها
سابقتها، وأن تفضي إلى نتائج أفضل من الأولى.
وبالتالي
على الأقل نملك معيارا للفصل بين أفضل النظريات في تطورها، وبهذا يصير التقدم
عقلانيا.[14]
عوائق التطور العلمي حسب كارل بوبر.
يلخص كارل بوبر عوائق التقدم العلمي في عوائق
ذات طبيعة اجتماعية ويمكن تقسيمها إلى قسميين: العوائق الاقتصادية والعوائق
الايديولوجية.
فمن
الناحية الاقتصادية يعتبر بوبر أن الفقر من بين العقبات الأساسية التي تحول دون
تقدم المعرفة العلمية، ولكنها ليست خطيرة بالمقارنة مع تغير روح العلم.
أما فيما يخص العوائق الايديولوجية فتتمثل في
التعصب الايديولوجي والديني والدغمائي، والافتقار إلى الخيال وخير مثال على ذلك هو
استشهاد جوردانو برونو ومحاكمة غاليليو، فالخوف من الكفر حسب بوبر عائق حقيقي أمام
العلم الذي يشترط الحرية كأساس لتقدم العلم، ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة من خلال
ما تعرض له العلماء من محن ناتجة عن تسلط الكنيسة.
خلاصــات:
لقد كان تصور كارل بوبر ثورة على جميع
التصورات المنغلقة على نفسها، خصوصا الوضعانية سواء منها الكلاسيكية أو الجديدة،
لذلك فهو قام بهدم أساسها المتمثل في المنهج التجريبي من خلال إبراز حدوده وإمكانياته.
وبالمجمل يمكننا أن نخلص إلى النقاط التالية:
·
المنهج التجريبي لا يمكن أن يكون معيارا للفصل بين العلم واللاعلم،
لأن النظرية العلمية لا تطابق الواقع بشكل مطلق، كما أنه يبقى استقراء ناقصا لا
يصدق على جميع الحالات، ولا يمكن أن نقوم باستقراءات كاملة لجميع الحالات،
بالإضافة إلى أنه لا وجود لملاحظة خالصة من النظرية.
·
التطور العلمي عند بوبر هو تطور للاقتراب من الصدق، أي بتجاوز
النظريات التي تعجز عن الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها المشاكل الجديدة الناجمة عن
تقدم العلم، بمعنى أن النظرية الأصلح هي التي تبقى كما هو الشأن بالنسبة لنظرية
الانتقاء الطبيعي التي تقول أن البقاء للأصلح، و أن الكائنات التي تتكيف و تقاوم
الظروف الطبيعية الجديدة هي التي تتمنكن من البقاء.
·
النظريات العلمية الجديدة قد تكون ثورية ولكن لا يمكن أن
تتخلى عن سابقتها، فهي تفسرها وتتجاوزها، وتحل مشاكل أكثر منها مثلا فإذا كانت
النظرية السابقة تحل مئة مشكل فيتعين على التي تجاوزتها أن تحل مئة وواحد مشكل، وهذا
لا يعني أنها غير قابلة للتنفيذ بل تحتوي الخطأ في ذاتها، مما يعني أن العلم يتقدم
بطريقة جدلية تركيبية.
·
من عوائق التقدم العلمي هو تسييج العلم بالايديولوجيات (دينية،
سياسية، اقتصادية، اجتماعية...).
المــراجع:
1.
كارل بوبر: منطق البحث
العلمي، ترجمة وتقديم محمد البغدادي، مركز دراسات الوحدة العربية،2007.
2.
كارل بوبر: أسطورة الإطار،
في دفاعه عن العلم والعقلانية، ترجمة يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، عدد 202،
أبريل مايو 2003.
3.
بناصر البعزاتي: الإستدلال
والبناء، بحث في خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان،
الرباط، ط 1،1999.
4.
محمد سبيلا ـ عبد السلام بن عبد العالي: الفلسفة الحديثة، نصوص
مختارة، إفريقيا الشرق، ط 2 ـ 2010.
5. يمنى طريف
الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الأفاق المستقبلية، مؤسسة
هنداوي،2014، ص 309
6.
الأستاذ عبد النبي ماخوخ: مشكلة الاستقراء لدى كارل بوبر، ثقافات مجلة
إلكترونية، ركن خاص بالفكر، 17 نونبر 2017.
7.
يوسف تيبس: تاريخ
العلم: النفي محرك العلم، نموذج كارل بوبر، مجلة عالم الفكر، العدد 1، المجلد 35، يوليو
ـ سبتمبر 2006، ص 263.
8.
الأستاذ يوسف تيبس: منهج العلم، مجلة رؤى تربوية، العدد الثلاثون.
[1] ولد كارل ريموند بوبر في فيينا، في 28 يوليو عام 1902م، لأسرة
نمساوية خليقة بأن تنجب فيلسوفًا، الأب حاصل على درجة الدكتوراه وكذا أخواه، وكان
أستاذًا للقانون في جامعة فيينا ومحاميًا، ويبدو أنه كان مثقفً ا ثقافة رصينة، حتى
إننا لا نجد — كما يخبرنا الابن كارل بوبر — حجرة واحدة في منزله غري مكتظة بالمراجع
الكبرى وأمهات الكتب الفلسفية وآيات التراث الإنساني، باستثناء حجرة المعيشة كانت
بدورها مكتظة بمكتبة موسيقية تحوي أعمال باخ وهايدن وموزار وبيتهوفن ... وبوبر
يعتز كثريًا بأنه يمتلك نسخة من طبعة القرن السابع عشر لكتاب لجاليليو، ونسخة من
طبعة القرن ً الثامن عشر لكتاب لإيمانويل كانط فيلسوفه الأثري. وقد كان الأب حريصا
على تنشئة ابنه، ومنذ نعومة أظفار الصبي كارل بوبر، ووالده يحفزه على قراءة الكتب
الفلسفية الكلاسيكية، ويُناقشه في مشاكل اللامتناهي والماهية والجوهر، وحينما
تعييه حذلقة الصبي يعهد به إلى عمه ليستأنف المناقشة) مقتطف من كتاب فلسفة
العلم في القرن العشرين ليمنى طريف الخولي، ص 314).
[2] الأستاذ
عبد النبي ماخوخ: مشكلة الاستقراء لدى كارل بوبر، ثقافات مجلة إلكترونية، ركن خاص
بالفكر، 17 نونبر 2017.
[3] الأستاذ
يوسف تيبس: منهج العلم، مجلة رؤى تربوية، العدد الثلاثون، ص 73.
[4] الأستاذ
عبد النبي ماخوخ، نفس المرجع.
[5] المرجع
نفسه.
[6] المرجع
نفسه.
[7] يوسف
تيب، نفس المرجع، ص86.
[8] [8] يمنى طريف
الخولي، نفسه، ص 310.
[9] كارل بوبر: منطق
البحث العلمي، المرجع نفسه، ص 299.
[10] يمنى طريف
الخولي: فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الأفاق المستقبلية، مؤسسة
هنداوي،2014، ص 309.
[11] بناصر البعزاتي: الاستدلال والبناء، بحث في
خصائص العقلية العلمية، المركز الثقافي العربي، دار الأمان، الرباط، ط 1،1999، ص104.
[12] يوسف
تيبس: تاريخ العلم: النفي محرك العلم، نموذج كارل بوبر، مجلة عالم الفكر، العدد 1،
المجلد 35، يوليو ـ سبتمبر 2006، ص 263.
[13] محمد سبيلا ـ عبد السلام بن عبد العالي: الفلسفة
الحديثة، نصوص مختارة، إفريقيا الشرق، ط 2 ـ 2010، ص217.
[14] كارل بوبر: أسطورة الإطار، في دفاعه عن العلم والعقلانية،
ترجمة يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة، عدد 202، أبريل مايو 2003، ص 45 ـ 46.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق