تدريس الفلسفة: أية أدوار؟ أية أهداف؟

 

تدريس الفلسفة: أية أدوار؟ أية أهداف؟

                                                               07 نونبر 2020

محمد بنوي: باحث في التربية والمجتمع

مدخل عام  

يعتبر تدريس الفلسفة وتعليمها وتعلمها من الإشكاليات القديمة قدم الفكر الفلسفي نفسه وعرفت شدا وجذبا بين أنصار الفكر الحر ومناهضيه، وهو في الحقيقة صراع بين فريقين وقطبين يمثلان مرجعيتين فكريتين مختلفتين، واحدة تنظر إلى الإنسان ككائن أعلى يستحق أن يعيش حياة إنسانية تليق به ككائن عاقل وواعي ومفكر واجتماعي وثڨافي وأخلاقي... ومن حقه أن يتطلع دائما إلى ما هو أفضل ومرجعية أخرى، مهما تعددت مظاهرها وتجلياتها فهي لا تعترف ولا تريد أن تعترف، رغم المسافات الطويلة التي قطعتها البشرية عبر التاريخ، بقيمة الإنسان الحقيقية لينعم بقيم التعايش والتساكن والتسامح رغم كل الاختلافات العرقية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... ليعيش الجميع في سلم وسلام في حياة هي ملك للجميع. وهكذا يمكن اعتبار تعليم الفلسفة وتعلمها جزءا من الصراع بين نمطين من التفكير مع استبعاد النمط "الثالث المرفوع" كما يقول المناطقة، فالمنطق يفرض التموقع مع هذا الفريق أو ذاك: إما مع الفكر العقلاني الحر المتنور القائم على التحليل والفهم والاقناع والاقتتاع والنقد والأخذ "بعلل وجود الموجودات" كما يقول الفيلسوف الكبير أبو الوليد بن رشد 1126م- 1198م)، أو مع الفكر الآخر النقيض الذي يحارب بشتى الوسائل كل ما هو متميز وجميل في الإنسان. أما القول ب"الحياد الفكري" وعدم الانتماء لهذا أو ذاك فان ذلك يعتبر- في نظري- جبنا فكريا لا يخدم في النهاية سوى دعاة الجهل والتجهيل واعداء العقل والتنوير. انطلاقا من كل هكذا يمكن القول أن تدريس الفلسفة وتعليمها للناشئة يعد أمرا ضروريا وملحا أكثر من أي وقت مضى خاصة في هذا الظرف الراهن الذي يمر منه مجتمعنا كجزء من هذا الكون الذي اضحى صغيرا مع انتشار التكنولوجيا الحديثة ومختلف وسائط التواصل الرقمي المتطور. فأي دور يمكن أن يلعبه تدريس الفلسفة وتعلمها في هذا الزمن المضطرب؟ ما هي الأهداف المنتظرة من ذلك؟  كيف يمكن للفكر الفلسفي عبر المدرسة والثانوية والجامعة أن يلعب دوره التاريخي في التعبير عن حقيقة الإنسان الفكرية والاجتماعية والثقافية والاخلاقية؟ ماذا ينتظر وينتظر من مؤطري واساتذة الفلسفة وكل "محبي الحكمة " من مهام وتحديات لمحاربة كل ما هو لامدني وغير متحضر في تفكير وسلوك الانسان

 الحذر والخوف من الفلسفة.

يلاحظ كل من يشتغل ويهتم بمجال الفلسفة أن فئات واسعة من المجتمع ومن كافة الأعمار تحمل تمثلات وتصورات خاطئة عن الفلسفة والفلاسفة وحتى عن مدرسيها وقرائها وكل من يبدي إعجابه بهذا النمط الفكري المتميز. انها تشكل في مجموعها احكاما مسبقة وجاهزة انتجها ولا زال ينتجها من يشكل هذا الفكر العقلاني المتنور خطرا على مصالحه الخاصة ولا تهمه مصلحة المجتمع والانسانية جمعاء.

لاشك أن أي مدرس عندما يبدأ أول درس في الفلسفة من خلال رصده  لتمثلات وتصورات المتعلمات والمتعلمين للفلسفة والفلاسفة سوف يسجل مجموعة من الاجابات القبلية التي يحملونها في أذهانهم والمأخوذة مما هو  مشاع بين عامة الناس، فالفلسفة حسب هذا الرأي المشترك هي كثرة الكلام الفارغ الذي لا يعني أي شيء وهي ايضا عبارة عن أقوال وكلمات غير مفهومة تتحدث عن اشياء بعيدة عن الواقع وبأن الفلاسفة واتباعهم من الاساتذة والطلبة وكل من يقرأ الفلسفة هم مجموعة من الكفار والملاحدة والعلمانيين لا يؤمنون بوجود الله ولا يتعبدون ولا يعترفون ولا يحتفلون بالأعياد  الدينية ويعيشون في عالم من الخيال وفي عزلة عن الاخرين ولا يتزوجون ولا يكونون الأسرة واخلاقهم فاسدة إنهم منافقين يشاركون العامة من الناس في المناسبات الدينية والاجتماعية حفاظا على علاقاتهم الاجتماعية وخوفا على مصالحهم وهذا ما يجعلهم يبطنون الكفر والإلحاد ويظهرون الإيمان حتى لا يؤدي بهم ذلك إلى التهميش والاقصاء الاجتماعي وهذا ما يجعل - حسب هذه التمثلات دائما_ الكثير يعيش   ازدواجية وانفصام في الشخصية وقد يتطور الأمر إلى الإصابة بالحمق والجنون.  

هذه هي الصورة التي يسعى أعداء الفلسفة ترسيخها في أذهان الناشئة منذ الصغر وعبر جميع المراحل العمرية والدراسية حتى تبتعد وتنفر من دراستها لكيلا تتعرف على مزاياها واهميتها في حياة الإنسان. فكيف يمكن لكل من يحمل هذا الفكر المتفرد اولا أن يصحح ويمحو تلك الصورة السلبية السائدة عن الفلسفة في المجتمع ولدى بعض النخب التي تحارب بوعي أو بلا وعي كل ما هو عقلاني ومتنور؟ ثانيا: كيف يمكن لمن يتحمل مسؤولية تدريس الفلسفة أن يترك أثرا ايجابيا في عقول وسلوك المتمدرسين والطلبة؟  إلا يمكن لدروس الفلسفة أن تساهم بقوة في تحقيق إحدى الأهداف الرئيسية لمنظومتنا التربوية في تكوين المواطن الإيجابى المتشبع بالقيم الوطنية والانسانية؟ 

 رغم كل العوائق فان التساؤل الفلسفي يحطم كل شيء.

أ- نقد التمثلات  

بما أن الفلسفة، عبر تاريخها، تعتمد على الحوار والتساؤل والنقد فانه من الضروري على من يعلم ويتعلم التفكير الفلسفي أن يسلك هذه الاليات الثلاث المترابطة فيما بينها، فالحوار يستدعي التساؤل والجواب يوجب الشك والنقد من اجل الفهم بالحجة والدليل. على سبيل المثال لا الحصر يمكن الجواب على البعض من التمثلات الخاطئة عن الفلسفة وروادها بالتساؤلات التالية: هل جميع الفلاسفة كفار وملاحدة؟ الا يوجد من بينهم من يؤمن بالله ويدين بإحدى الديانات السماوية؟ وهل جميع الكفار والملاحدة والعلمانيين فلاسفة؟ الا يوجد من بين هؤلاء من ينتمي الى تخصصات فكرية وعلمية أخرى من غير الفلسفة؟ وهل جميع الفلاسفة" حمقى ومجانين"؟ وهل جميع من نعتبرهم او يحكم عليهم المجتمع بالحمق والجنون فلاسفة او من مدرسيها وقرائها؟ هل كل من يطعن في المناسبات الدينية والعادات والتقاليد الاجتماعية له علاقة بالفلسفة؟ هل كل من اختار حياة العزوبة او فرضت عليه، لسبب من الأسباب، ينتمي الى الحقل الفلسفي؟  إلى غير ذلك من الأسئلة النقدية التي تحمل في طياتها تفنيدا ودحضا لكل التصورات الخاطئة عن الفلسفة والمشتغلين في حقلها.

ب - من أجل استثمار فعال للدرس الفلسفي

إن الدرس الفلسفي لا يهدف فقط إلى إعداد المتعلمات والمتعلمين والطلبة الى الامتحانات والتعامل مع مادة الفلسفة كمادة تعليمية تخضع للتقويم والتقييم في نهاية كل دورة او كل سنة دراسية وان كان هذا من الأهداف الرئيسية للكثيرين بل ان للدرس الفلسفي أدوارا اخرى تنتظر منه أن يؤديها من داخل المؤسسات التعليمية إذا تسلح المدرسون بالعدة البيداغوجية  والديداكتيكية الضرورية وامتلكوا مهارات تدريسية كافية لنقل الفلسفة من المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية وتقريبها الى الاذهان لتترك أثرا ايجابيا لدى المتلقي وتتجسد في سلوكه اليومي.

وهكذا يمكن التأكيد على مجموعة من الخطوات التي يمكن سلوكها في تدريس مادة الفلسفة في الأفكار. العناصر التالية

_ من البديهي القول ان شخصية المدرس(ة) بشكل عام وفي القسم بشكل خاص تؤثر سلبا أو ايجابا في   المتعلم(ة). انه يمثل المادة المدرسة(الفلسفة)، فمن المفروض أن يتحلى بصفات تعبر عن المبادئ التي تحملها الفلسفة ليكون قدوة للآخرين نذكر منها: ا_ _الانضباط في العمل واحترام الزمن الدراسي، نهج أسلوب الحوار مع ما يتطلبه من انصات واقناع واقتناع وقبول الاختلاف مع التسامح والاعتراف بالخطأ مع الاعتذار إذا اقتضت الضرورة ذلك، معاملة الجميع بالمساواة وتكافؤ الفرص.

- بما ان المعرفة الفلسفية تتسم بطابع نظري مجرد تعرض افكارها بلغة خاصة تحتوي على جهاز مفاهيمي مختلف عن انواع اخرى من المعرفة وغير مألوف لدى المتلقي فان مهارة المدرس(ة) تكمن في مدى قدرته على ممارسة النقل الديداكتيكي بشكل يتيح الفهم بنوع من البساطة والتبسيط مع ممارسة جميع أنواع الحجاج خاصة حجتي المثال والمقارنة دون إغفال الحجاج الأخرى التي تفرضها طبيعة الدرس. أن متعلم(ة) اليوم، ولأسباب مختلفة، يعاني من نقص في اللغة العادية وبالأحرى اللغة الفلسفية بالإضافة إلى فقر في المعارف والمعلومات وهذا ما يفرض على المدرس(ة) مجهودا كبيرا واستثنائيا يبتدئ بتحفيز المتعلمين واثارة انتباههم وجعلهم في حالة من الاستعداد للانخراط والمشاركة في جميع مراحل الدرس .

- استحضارا للمجزوءات المقررة في السلك الثانوي التأهيلي وما تتضمنه من افكار ومعارف فيمكن استثمار مضامينها المعرفية في توجيه المتعلمين إلى إدراك مفهوم الانسان ككائن طبيعي، عاقل، مفكر فعال ومبدع يعيش وضعا بشريا معقدا ومتشابكا تجعله يدرك ذاته في علاقته بالآخرين من اجل العيش في تعايش وتساكن رغم كل الاختلافات بنوع من التعاون والتضامن والتسامح.

- أن دروس الفلسفة وما تحتويه من افكار ومعارف مؤهلة أكثر من غيرها (دون اغفال دور المواد الدراسية الاخرى) لتكوين مواطن (ة) المستقبل المسؤول والملتزم بقضايا الانسان في بعدها المحلي الوطني والكوني.

خلاصة 

إن تدريس الفلسفة وما تحمله من مبادئ سامية وقيم نبيلة يفرض نفسه في عالم اليوم الذي يعيش عدة أزمات أثرت بشكل سلبي على الإنسان وجعلته يعيش وضعا مقلقا في حاضره متسائلا بنوع من التخوف على مستقبله .

 

         

         

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس