المعرفة القبلية والبعدية: العقل والإدراك

 

المعرفة القبلية والبعدية: العقل والإدراك

                                                    20 نونبر 2020

د علي محمد اليوسف



ينسب ريتشارد رورتي الفيلسوف الأمريكي لكانط أنه "قام بتحويل علم الانسان – نفهم يقصد علم المعرفة (الابستمولوجيا) وليس علم الأنثروبولوجيا، الإناسة – من علم تجريبي حسي الى مستوى (قبلي) سابق على التجربة، ويعتبر كانط أن تطابق معرفتنا الاشياء يتوافق مع الافتراض أن معرفتنا الاشياء قبلية" 1.

القول كل ما هو قبلي معرفي في الاشياء هو ميزة خصائصية معرفية ناجزة لا تحتاج العقل الإدراكي لها، أمر يحمل الكثير من المجازفة الجدالية غير المحسومة نقاشيا، وهذا جلبرت رايل يقاطع هذا الفهم الكانطي قوله "الطبع – يقصد انطباع صورة الأشياء في الذهن - هو في جعل الحقائق مدركة حسيا، هذا إذا كان لذلك من معنى، لأن طبع شيء على العقل من غير أن يدركه أمر غير مقبول."2 مقولة صحيحة كنت أشرت لها أكثر من مرة في بعض كتاباتي قبل استشهادي الاقتباسي بها الآن في هذه المقالة.

لتوضيح بعض المعنى نقول محاولة كانط تحويل علم المعرفة من علم تجريبي حسي إلى علم إنساني معرفي قبلي موجود سابق على إدراك العقل، لا يمكننا تمريره إلا بفرضية ومشروعية الخلط القائم الذي يرى في الأشياء المستقلة تمتلك حمولة خاصيتها المعرفة القبلية ذاتيا قبل إدراك العقل الحسّي المعرفي البعدي لها الذي لا حاجة ملزمة للأشياء إدراكه لها. من حيث وفق هذا المعنى تكون المعرفة القبلية بالأشياء التي يدركها العقل هي نفسها المعرفة البعدية التي ينشدها العقل من حيث الصفات الخارجية وليس الجوهر الجوّاني.

الفرق بين معرفة الشيء القبلية العقلية ومعرفته البعدية تقوم على التحولات والانتقالات في ذلك الشيء الذي يدركها العقل بعديا. أما في حالة أن تكون معرفة الشيء القبلية لا تختلف عن معرفته البعدية  تحدده الموجودية الانطولوجية الساكنة لذلك الشيء الذي لا يتحرك ويتحول في ثبات صفاته الخارجية.

الإدراك الحسي والتجريد

كيف يستقيم معنا تنحية العقل جانبا حين لا يمتلك حمولة معنى خاصية الادراك الحسّي للموجودات؟ لا تكون هناك معرفة قبلية للأشياء ولا معرفة بعدية لها بغير دلالة العقل الادراكية قبليا وبعديا لها. القبلية المعرفية في الاشياء كمدرك هي تصنيع عقلي فيها كخبرة مكتسبة مخزّنة تمتلكها الاشياء بواسطة العقل الادراكي لها، وليست المعرفة القبلية خاصية يكتشفها العقل بالأشياء تكوينيا بعديا فيها لم يكن أدركها سابقا باستثناء جواهرها سواء أكانت تلك الجواهر موجودة أو غير موجودة.

قبلية المعرفة المدركة بالأشياء هي المعرفة التي أدركها العقل وأصبحت مخزونا بالذاكرة التي يكون مخزونها المعرفي تحت وصاية وهيمنة العقل سحبها من الذاكرة في تفسيره المعرفة القبلية بالأشياء. بهذا المعنى تكون قبلية معرفة الاشياء هي خزين الذاكرة العقلية التجريدية عنها. ولا توجد معرفة قبلية بالأشياء هي جزء من تكوينها الانطولوجي الذي يدركه العقل ولم يسبق له ادراكه كخزين ذاكراتي.

هذا الفهم يلغي بحسب تعبير كانط أن العقل لا يدرك بالأشياء غير معرفته القبلية فيها، مما يرتّب عليه أن كل مدرك عقلي بعدي هو ليس تجاوزا تجديديا يستطيعه العقل. الحقيقة التي لا يمكننا الاعتراف بها فلسفيا أن جميع المعارف القبلية الموزعة التي تنسب للأشياء هي في حقيقتها معارف عقلية مجردة مخزنة بالذاكرة وليست خصائص تكوينية موجودة بالأشياء. إدراك العقل للأشياء هو خبرة تراكمية يمتلكها هو وليست تجديدا يخترعه العقل موجودا بعديا بالأشياء. مقولات العقل الصادرة عن الشيء بعديا هي تخليق مجدد لمدركات صفات الشيء التي تتغير ولا تتسم بثبات انطولوجي كما هو الجوهر.

نفس هذا المعنى نجده متحققا في فرضية تموضع اللغة في تكوين الأشياء، فإدراك العقل لغة الشيء القبلية الموجودة فيه هي لغة الذاكرة العقلية المخزونة عن ذلك الشيء التي تكون الذاكرة فيه هي بنك المعلومات العقلية في فهم العقل لموجودات ادراكه.. بمعنى الموضعة اللغوية بالأشياء هي الخبرة التراكمية التي اودعها العقل في الذاكرة في التطابق مع موضعة اللغة في الاشياء. بتعبير اوضح كما أن إدراك العقل لأنطولوجيا الاشياء في وجودها الخارجي المستقل هو وعي لغوي تجريدي كذلك يكون الحال مع إدراك موضعة اللغة بالأشياء وعيا تجريديا ايضا.  

بمعنى افتراض اكتشاف قبلية المعرفة بالأشياء سابق على بعدية الادراك العقلي اكتشافها خطأ ورد نقرأه في عبارة كانط السابقة. إذ لا يمتلك العقل معرفة قبلية عن شيء ما هي بالنسبة لإدراكها بعديا لا يضيف لها شيئا جديدا. وإذا كانت قبلية المعرفة يعرفها العقل مسبقا فما الفائدة المرجوة من أدراكها المعرفي بعديا.؟ وما الجديد بها أو المضاف لها؟ تفكير العقل البعدي في شيء لا يكون تجديدا الا في حال أن يكون ذلك الشيء في حالة صيرورة من انتقالات متحولة يمكن تداخل العقل بها، وليست وجودا انطولوجيا محددا بإبعاد هي من بديهيات العقل مثل الطول والعرض والارتفاع والزمن التي هي ثبات مواصفاتي لا يطاله التغيير.

المعرفة القبلية في الأشياء في حال تسليمنا الاقرار بصحتها الموجودية التكوينية فيها لا تحتاج العقل الادراكي البحث في معرفتها البعدية. المعرفة القبلية بالأشياء هي معرفة لا يدركها العقل بذاتيتها كخصائص مستقلة وجودا ولا يدركها العقل إلا كموضوع معرفي في قبليتها وفي بعديتها معا وفي كلا الحالتين ما يدركه العقل هي صفات خارجية يكتشفها ولا تستطيع صفات تلك الاشياء الافصاح ذاتيا عن نفسها قبل إدراك العقل لها ومن غيره..

وهذا الافتراض الاستقرائي لا يلغي احتمالية أن كل الأشياء تدّخر ذاتيا باستقلالية عن العقل في موجوديتها الأنطولوجية معرفة قبلية هي (جواهر) لا يصلها العقل ولا تستطيع هي التعبير عنها من غير دلالة العقل الإفصاحية الادراكية لها، فلا يوجد معرفة قبلية لا تحتاج إدراك العقل الحسّي لها كصفات وألا انتفت عنها حقيقة كونها موضوعا يدركه العقل.. تذهب معظم الفلسفات منها الماركسية والوجودية باستثناء سارتر أن إدراك صفات الشيء الخارجية حسيّا يحمل معه ضمنا أدراك جوهره ويحتويه إذا كان موجودا أم غير موجود. وليس هناك جواهر لا يدركها العقل.

كل الأشياء والموجودات الموزعة في الطبيعة إنما هي معارف ساكنة لا تمتلك وسائل التعبير عن نفسها بقدراتها الذاتية المعطلة بمعزل عن الإدراك الحسي لها والتعبير اللغوي التجريدي عنها الذي هو خاصية عقلية بعدية. العقل لا يقصد المعرفة البعدية في الاشياء في اقرارنا الافتراضي أنه يعرفها قبليا مسبقا حسب فرضية عبارة كانط. كون مطابقة المعرفة البعدية مع المعرفة القبلية المفترضة بالأشياء لا أهمية له ولا سبب يوجبه. فالإدراك العقلي للأشياء هو كيفية (نوعية) وليس إدراك يسعى مطابقة الاشياء مع قصدية ساكنة، بمعنى الادراك الحقيقي للأشياء هو لماذا يدركها وليس كيف يدركها.

وفي التماهي مع عبارة كانط نجد أننا حصرنا قابلية العقل الادراكية تكون فقط في معرفته القبلية للأشياء وليس في معرفته البعدية لها كموجودات مستقلة في العالم الخارجي... حينها نقع في خطأ تكون فيه المعرفة القبلية هي منتجة لمعرفة العقل البعدية وليست ناشئة عنه وناتجة توليديا منه وهو ما لا يمكننا تصور حدوثه الحسي. العقل الإدراكي للأشياء ومعرفتها لا تبنيه الخصائص الذاتية في الاشياء قبل تعبيره المعرفي عن ماهية موجوديته.

الاستعداد المعرفي القبلي الذي تدّخره الأشياء بكينونيتها الموجودية في وجودها الصفاتي لا يغنيها عن حاجتها لإدراك العقل المعرفي الحسّي المجرد لها. ولا يلغي حاجة معرفة إدراك العقل لها مكتفية بخصائصها الوجودية المعرفية من غير دلالة العقل الإدراكية لها.. المعرفة القبلية في الاشياء لا يمنحها أمكانية أملاء شروطها على العقل من غير سطوة العقل الادراكية عليها، فالمعرفة القبلية تستمد حيويتها الوجودية من إدراك العقل لها حتى في حال فرضية أن العقل هو قدرة استيعابية محدودة في الإدراك الكلي الشامل للأشياء الواصل له عبر الحواس والاحساسات الناقصة في تمثيلها الاشياء الواردة إليه. كما أن المعرفة القبلية والبعدية كلاهما تصنيع عقلي. والخصائص الذاتية بالأشياء لا تملي معرفتها على تصنيع العقل الذي أوجدها فيها ليس بخلقها بل بتصنيعها كموجودات صفاتية.

حين نتصور أمكانية المعرفة القبلية في الاشياء الاستغناء عن إدراك العقل في خلعه عليها خصائص صفاتية جديدة يبتدعها لم تكن قبل الادراك العقلي تمتلكها فهنا يكون انتفاء الحاجة المعرفية (البعدية) للعقل التي تجعل من المعارف المستقلة عن العقل قبليا هي التي تقود العقل في أن تكون حقيقتها معارف تمتلك خصائصها الذاتية المكتفية بنفسها التي لا تحتاج العقل معرفتها بل العقل يحتاجها ولا يستطيع ادراكها. وبذا تكون تلك الأشياء لا قيمة معرفية إدراكية عقلية لها فهي اشياء لا تدرك المعنى الحقيقي من ادراكها العقلي لها...

كل معرفة قبلية أو بعدية هي تصنيع عقلي لا تمتلكه الاشياء كمعطى وجودي يلازمها من دون معرفتها العقلية وهذا ما لا ينطبق على التسليم بصحة عبارة أن العقل يستمد معارفه قبليا من الاشياء وليس بعديا لها. يعني ما يدركه العقل بعديا معرفيا يكون هو ما أدركه قبليا معرفيا فيها. فالعقل لا يدرك ما لا قيمة له زائفا غير حقيقي في وجوده ايضا. وفي هذا نتوزع في مفترق طريقين فحقيقة المعرفة القبلية في الاشياء هي الصحيحة تجعل من كل معرفة بعدية عقلية لها زائفة لا معنى لها، وبالعكس إذا اعتبرنا معرفة العقل البعدية عن الاشياء هي المعرفة الصحيحة الحقيقية عندها يكون معنا كل ما هو قبلي معرفي بالأشياء زائفا ولا معنى الاهتمام به. والخروج من هذا المفترق هو أن كل معرفة قبلية مشروطة بمعرفة بعدية لها وكلاهما تصنيع عقلي واحد. وهنا يكون العقل لا يناقض نفسه في إدراكه الشيء قبليا مختلفا عنه بعديا من غير امتلاك العقل طاقة ترابطية تجمعهما بمنطق نسقي نظامي موحد يكون فيه إدراك العقل سليما..

 وإذا نحن سلمّنا فرضا وجود معرفة قبلية في الاشياء سابقة على بعدية العقل أدراكها، فيكون معنا تحصيل حاصل أن كل معرفة قبلية سابقة على إدراك العقل بعديا أنما هي في جوهرها خبرة متراكمة جرى تنميتها التخليقية بجدلية الادراك العقلي لها وليس في امتلاك الاشياء لها كمعطى تحصيلي بقواها الذاتية اكتسبتها كخصائص معرفية قبلية خبراتية خارج تداخل العقل الجدلي معرفيا معها..

المعرفة القبلية هي الإضافة الإدراكية المستمرة العقلية التجديدية لها بعديا، فقبلية المعرفة المكتسبة كخبرة مخزنّة داخلها هي في حقيقتها خبرة مخزّنة بالذاكرة العقلية، ولا تصبح خاصية تكوينية للأشياء من غير سابق تداخل جدلي عقلي معها في تخليقها، كل معرفة قبلية تحاول فرض نفسها سابقة على تداخل العقل الجدلي معها تكون بالضرورة لا تمتلك قدرة بناء معرفتها القبلية بخصائص ذاتية لها منفصلة إدراكيا ولم يكن للعقل إسهاما قبليا وبعديا في تخليقها. وهذا ينطبق حتى على الذاكرة التي هي خزّان المعارف المكتسبة كتخليق عقلي تجاربي خبراتي متراكم فيها وليست خصائص ذاتية موجودة فيها سلفا. بمعنى بنك معلومات الذاكرة من المجردات التراكمية المعرفية كخبرات هي حصيلة العقل لا معنى لها بغير الارتباط الدائم به.

القبلي بين الإنسان والأشياء

لا يوجد ما هو معرفي قبلي في الأشياء يبني نفسه ذاتيا بقدرات غير مستمدة من جدل العلاقة مع المحيط بتوسيط العقل الذي يجعل ما هو قبلي في الاشياء والمعارف خبرة تراكمية مكتسبة وليست معطى فطريا يحوز ماهية منفردة وصفات خاصة به يجهلها العقل قبليا ليكتشفها بعديا. حتى جواهر الأشياء التي لا يدركها العقل كما يدرك صفات الأشياء الخارجية هي ليست طبيعة قبلية بالأشياء إذا كانت تمتلكها، فالوجود المادي للأشياء يسبق كل صفة ماهوية أو خاصية ذاتية كجوهر. العقل لا يستطيع الجزم بوجود جواهر بالأشياء لا يمكنه ادراكها غير مؤكد وجودها.

لا حاجة نجدها ضرورية تأكيد أن جوهر الانسان بمعنى تحقيق ذاته يقوم على تصنيعه بمتراكم الخبرة المستمدة من الحياة، أما القبلي المعرفي بالأشياء فهو الاخر ليس خارج تصنيع العقل في حقيقته قبل اكتسابه صفة المعرفة القبلية التكوينية في الأشياء، القبلي الذي لا يدركه العقل بالموجودات من الاشياء لا وجود له جوهرا ماهويا متحققا العقل من إدراكه، فالجوهر الماهوي بالأشياء لا وجود له سواء أدركه عقل الانسان أم لم يدركه كون وجود الجوهر غير مؤكد. الجوهر في حقيقته المعرفية هو حدس تخميني افتراضي لوجود لا يحمل وثوقيته كموضوع يدرك. لذا يكون الجوهر والماهية في الاشياء غير موجودة بدلالة العقل الذي لم يسهم تصنيعيا بها من تراكم الخبرات العقلية المكتسبة كما يفعل مع صفات الأشياء وتكويناتها المدركة خارجيا من قبله. ولا يمكن أثبات وجود معرفة قبلية لم يصنعها العقل في مدركاته سوى البناء التكويني الفطري الجيني الموروث في الكائنات الحية وليس في الموجودات غير العاقلة في الحيوان والنبات أو غير الحيّة في الجمادات.

الصفات الجينية الموروثة هي معطى فطري بالولادة لم يكن للعقل دورا في بنائها التكويني ولا في زرعها بالمخلوقات الحيّة ولا بالأشياء. ولو أجرينا تنقيبا حفريا بيولوجيا جينيالوجيا في البحث عن تلك الخصائص النوعية في الكائنات والموجودات لوجدنا في جينالوجيتها البيولوجية خبرة تراكمية مكتسبة قبل اكتسابها صفة التوريث الجيني الفطري وهي صفات مكتسبة من متراكم التجربة التي استقرت أحقابا تاريخية تلازم الكائن الحي حتى أصبحت بحكم تكرارها الزمني موروثات جينية فطرية باختلاف جوهري عن الانسان في علاقته مع بناء ذاته وتصنيع ماهيته الجوهرية.. الإنسان يدرك جوهره الذي هو ماهيته الذاتية التصنيعية لان العقل بانيها ومكونها. جوهر أو ماهية الانسان هو صيرورة من تراكمات الخبرة البنائية في تكوينه الذاتي غير المنظور وغير الممكن اثباته بالتجربة العلمية.

العقل يدرك ما هو قبلي في الأشياء الصفات التكوينية الخارجية التي هي من ابتداع العقل ذاته في خلعه عليها محتوى وصفات تشكيله لكل معرفة قبلية بالأشياء، وما يكون موجودا قبليا بالأشياء لم يكن من تصنيع العقل يكون هو جواهر وماهيات تلك المدركات القبلية التي لم يقم العقل بتخليقها ولا يوجد ما يؤكد وجودها داخل تكوينات تلك الأشياء من عدمه.

كون الجوهر أو الماهية هي خاصية لا يمتلكها الحيوان ولا الاشياء غير العاقلة لا بالفطرة التوريثية ولا بالاكتساب الطبيعي كون الجوهر تخليق ذاتي يعي كينونته الوجودية.. وتصنيع الماهية عند الانسان هي تراكم خبرة لا تسبق وجوده الانطولوجي إنما ترافقه في التكوّين بعديا حتى وصوله نهايته في مرحلة الفناء العدمي بالموت.

جواهر الأشياء غير العاقلة المشكوك بوجودها التي لا يدركها العقل هي ملازمات تلك الأشياء تتصف بالثبات كخصائص محجوبة عن إدراك العقل ولا تجري عليها قابلية التصنيع العقلي الإنساني ولا الحيواني لها في متراكم الخبرة، بخلاف جوهر الإنسان الذي يتصف بالنمو والتطور المستمر في اكتسابه الخبرة التراكمية بالوعي العقلي النوعي للإنسان في سعيه بناء ذاتيته الماهوية التي يكون وجوده سابقا عليها. الجوهر عند الانسان هو تصنيع ذاتي يقوم به العقل الذكي، بينما نجد الحيوان لا يمتلك ذاتا تصنيعية يدركها عقله ولا يدركها عقل الانسان، وسبب ذلك فارق وعي الذات الذكي بين الانسان والحيوان... الاختلاف بين جوهر الانسان عن جوهر الحيوان وغيره من الكائنات، أن جوهر الانسان هو ما يمثل مجموع تصنيع صفاته بنفسه في طفرة مغايرة تدعى الضمير أو الماهية او الذات أو الوعي الذكي، بخلاف الحيوان فجوهره يكون مجمل صفاته البيولوجية الخارجية الثابتة التي تنعدم معها قفزة النوع كضمير ووعي وذكاء وشعور بالزمن. بمعنى صفات الحيوان المدركة خارجيا هي جوهره، بينما صفات الإنسان الخارجية المدركة من غيره لا تمثل جوهره المحجوب خلف صفاته.

هل الجوهر مدركا موجودا؟

من الجدير ذكره أن قضية وجود الجوهر في الأشياء الذي لا يدركه العقل أنما هي مسألة خلافية قيد الجدل الفلسفي الذي لم يخرج منها بنتيجة، ولعل أبرز الفلاسفة الناكرين لوجود جوهر الاشياء هو  وهيجل ونيتشه والفلسفة الماركسية وديفيد هيوم, أما أبرز مخترعي وجود جواهر الأشياء التي لا يدركها العقل هم كانط وديكارت واقطاب الفلسفة الوجودية هوسرل وهيدجر، باستثناء سارتر الذي أعتبر الجوهر هو ماهية يجري تصنيعها بالخبرة التراكمية المكتسبة من الحياة وليست الماهية أو الجوهر معطى انطولوجي جاهز يلازم الموجود الانسان (بذاته) حسب التسمية التي أطلقها كانط وتداولها هوسرل بالفينومينولوجيا.

سارتر لا يعتبر جوهر الإنسان معطيات فطرية يولد الطفل مزودا بها، بل يعتبرها تصنيعا ذاتيا يتطور بمرور حياة الانسان. أي الانسان بجهوده بالحياة وسط مجتمع يحقق ذاته ويبني ماهويته بإرادته الحرة المسؤولة... كما يميّز سارتر بين جوهر الانسان وجواهر الاشياء بغض النظر من عدم تاكيد وجودها أو وجودها. فجوهر الانسان صيرورة حياتية يصنعها الوعي الذاتي بفرادة الانسان كموجود.

قبلية المعرفة بين العقل والجسم

من المهم التنبيه كما يعبر توماس ريد أن عمل العقل يشابه عمل الجسم في ميكانيكية أداء وظيفته بمحرك سابق عليه كما يذهب له العديدون. وحسب تحليلنا العبارة نذهب الى أن بيولوجيا وظائف الجسم لا تكون قبلية في اكتسابها الخبرة التي تكون في كل الاحوال مستمدة من العالم الخارجي، فالجسم يفهم ما هو قبلي عليه لا يسبق أمكانية معرفته السطحية له بدلالة العقل الحسّي وليس بدلالة مدخرات الخصائص المعرفية القبلية في الأشياء. كذلك العقل يختلف بأن مجمل ادراكاته ليست مستمدة من قبلية الاشياء معرفيا في سبقها إمكانيته البعدية في تحقيقه تلك المعرفة وجودا أنطولوجيا حيّا بتصورات مضافة جديدة لكل ما هو مدرك قبلي شيئي أو معرفي كموضوع.

إدراك قبلية المعرفة هو نفسه أدراك بعدية المعرفة من حيث الآلية والإدراك العقلي لها. ومن غير المعقول أن العقل يدرك المعرفة القبلية بالأشياء بمعزل عن معرفته الادراكية البعدية لها. وفي غير هذا المعنى نذهب نحو الخطأ الذي يرى المعارف القبلية بالأشياء هي التي تزود العقل بما يجب أن يكون هو عليه وليس ما يجب أن تكون المعرفة القبلية هي عليه من حيث حقيقة انطولوجيا المواضيع التي يدركها العقل جدليا بعديا لا يكتفي بمعرفتها السطحية كصفات غير قابلة للتخارج الجدلي معها بغية تطويرها.. نؤكد مقولتنا السابقة ليس مهما معرفتنا كيف يدرك العقل الأشياء ونترك تساؤلنا الصحيح لماذا يدرك العقل الأشياء؟

مقولة جورج ريد الصحيحة التي مررنا بها كل مالا يدركه العقل لا يمكن تمرير التسليم به كمعرفة قبلية لا علاقة إدراكية تصنيعية للعقل بها, من حيث أن كل حلقة في منظومة الادراك العقلية هي إدراك حسي تجريدي، فالعقل اذا لم يدرك ما ينطبع بالذهن لا يستبقه ادراك بدئي بما تنقله الحواس من أحساسات عبر الجهاز العصبي وما ينطبع بالذهن يعطي معنى الوعي المرتبط بالعقل ويعطي دلالة الفكر واللغة حول موضوع الادراك في التعبير عنه، وهذه السلسلة تأخذ معناها الفيزيائي الادراكي من خلال ارتباطها بتفكير العقل في تسيّده منظومة الإدراك العقلية كاملة..

ودلالة العقل الإدراكية الحسّية التجريبية تلغي تماما أن تكون المعرفة هي قبلية مستقلة بذاتها ولا تنقاد للعقل في الادراك والتفسير لها. كل ما هو قبلي غير مدرك لا أهمية يمتلكها ما لم يتوفر عليه إدراك عقلي بعدي على ما هو قبلي في الموجودات هو من صنع العقل في الاشياء. بمعنى أن الأشياء المدركة عقليا لا تمتلك معارفها القبلية من غير مرورها بمصفاة العقل التوليدية لها كصفات بالأشياء وليست جواهرا أو ماهيات سواء في افتراض تلك الجواهر موجودة أو غير موجودة.. العقل في معرفته الإدراكية للشيء أنما يخلع عليه مدركاته الصفاتية الخارجية عنه ولا يزرع الجوهر في باطنه الداخلي.

لا شيء أقرب للعقل من العقل...ديكارت

هذه العبارة المكتنزة المعنى فلسفيا ترى في كل موجود يحمل قبلية معرفية أو لا يمتلكها لا يمكن تمريره كانطباع ذهني قبل معرفته بدلالة العقل ذاته في تمريره، وهي نفس عبارة جورج ريد التي سبق لنا الاستشهاد بها مع فارق تعبير اللغة.

وما يدركه العقل وما لا يدركه لا يكون بمعزل عن دلالة العقل له في تمريره كموضوع أدراكي.. حتى الاحساسات المنقولة عبر الحواس لا تمتلك جواز مرورها الا بعد ادراك العقل لها، وكذا نفس الحال ينطبق على الاحاسيس التي يستشعرها الإنسان استبطانيا جوّانيا عبر أجهزة تكوين الجسم لا يمكنها أن تكون انطباعات ذهنية لتلبية استجابات غريزية لها من غير فلترة العقل إجازة مرورها ويصار تلبية اشباعها كما في شعور الانسان بالعطش او الالم او الرغبة الجنسية أو الجوع أو الافراغ وهكذا. ونفس التعميم مع كل حلقة ترتبط بمنظومة العقل الادراكية. فالوعي هو ادراك عقلي حدسي كونه غير موضوع يدركه العقل، ولا يستمد الوعي قدرته الإدراكية من غير تعالقه بالذهن والذاكرة والمخيلة والجهاز العصبي الناقل لتفكير ومخارج العقل، وأخيرا يأتي تعبير الفكر واللغة في خلاصة تعبير العقل عن الاشياء وكل حلقة خارج هذه المنظومة العقلية لا معنى لها بغير دلالة العقل لها أدراكا حدسيا في انتظامها الادراكي وليس ادراكا حسّيا منفصلا كونها حلقات معرفية استدلالية مجردة مهمتها نقل تعبيرات وإفصاحات العقل ولا تشكل موضوعات إدراكية متعينة مادية للعقل..

عليه يكون كل موجود معرفي مدرك وغير معرفي لا مدرك هو حالة قلقة في فرضية امتلاكه معرفة قبلية مدخّرة مستقلة عن بعدية الادراك العقلي لها.. وقبلية المعرفة المستقلة ذاتيا يجعل العقل منها معرفة بعدية لذا لا تمر الانطباعات العقلية بالذهن الا من خلال المرور عبر حاجز الادراك العقلي الذي يكون مصفاة لما يمكن أدراكه من عدمه بما يستقبله من أحاسيس داخلية وإحساسات خارجية. ...

في عبارة ديكارت أقرب شيء للعقل هو العقل تعني لا يمكننا إدراك معرفة قبلية بمعزل عن بعدية تناولها العقلي. وأقرب رقابة على عمل العقل المعرفي الادراكي هو العقل ذاته. وعي العقل لذاته هو وعيه لموضوعه معا. وعي العقل قبلية المعرفة هي الوعي البعدي لها.

كما يشير ارسطو أن المعرفة تتمثل في التطابق مع الشيء المعروف الذي عبّر عنه فلاسفة العرب القدامى مطابقة ما في الإذهان مع ما في الاعيان. رغم أن تعبير ارسطو وقدماء الفلاسفة العرب لمعنى التطابق الادراكي مع الاشياء كما في العبارة السابقة هو فهم سطحي لا يحمل أكثر من دلالة حسيّة مباشرة في مطابقة دلالة المنطوق أو المعبّر عنه باللغة مع المدلول الشيئي الذي يعنيه ويقصده..

المهم ما نستقرؤه من فهم التطابق عند ارسطو أن كل مدرك معرفي تتوقف حقيقته الوجودية في تطابق العقل له كشيء معروف أي كموجود انطولوجيا في عالم الاشياء الخارجي... ولم يتطرق ارسطو لمصطلح المعرفة القبلية التي هي مقولة إبستيمولوجية مستحدثة عصريا بالفلسفة انوجدت مع كانط... والحقيقة التي لم يتطرق لها ارسطو ولا فلاسفة العرب القدامى أن مصطلح تطابق العقل مع الوجود الانطولوجي للأشياء ليس كفيلا إعطاء المعرفة الحسية حقيقيتها الخاصة بها. إنما هو تعبير ناقص ليس دقيقا فالعقل صحيح يعطي مدركاته حقيقتها الانطولوجية في تطابقه الشيئي معها، لكن العقل لا يدرك الاشياء في قصدية التطابق الساكن معها لتعيين وجودها الأنطولوجي الذي يتطابق فيه الفكر الإدراكي الذهني مع الشيء المتعين انطولوجيا فقط... بل في تخليقها العقلي الجدلي من جديد بإضافات معرفية عليها صادرة عنه وبغير هذا الفهم لا يبقى قيمة لا للعقل ولا للأشياء المدركة اذا كانت مهمة التطابق تنحصر بين تكامل العقل مع الشيء بعلاقة ليست تخارجية جدلية تجعل فكر العقل والوجود يتطوران بديالكتيك من العلاقة المتبادلة المتطورة بينهما.. الادراك العقلي للأشياء هو تخليق انبعاثي تجديدي جدلي غير ساكن لها ومعها. وبمقدار تحقق الادراك العقلي للأشياء يجعل كلاهما يتطوران جدليا كفكر تجريدي معبّر عن الشيء، والشيء كموجود انطولوجي أدركه العقل بالتغيير وليس في قصدية المطابقة معه بما يمنحه وجوده الحسّي فقط.

الهوامش:

1.ريتشارد رورتي، الفلسفة ومرآة الطبيعة، ت: د. حيدر حاج اسماعيل ص 212

2. المصدر أعلاه ص 218


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس