ديالكتيك الفلسفة الوجودية

 

ديالكتيك الفلسفة الوجودية

د علي محمد اليوسف

تقديم

في كتاب المفكر الوجودي عبد الرحمن بدوي(الزمان الوجودي) يسعى الى اختراع ديالكتيك ثالث جديد يجمع بين المادية والمثالية التي يطلق عليها احيانا الروحانية، ويصادر كل التنظير الفكري الفلسفي حول الاختلاف بين المنهجين المادي والمثالي في الديالكتيك، والذي يحفظه لنا تاريخ الفلسفة ان ديالكتيك هيجل المثالي لا يلتقي ديالكتيك ماركس المادي، ولو كان العكس متحققا من هذا التباين والاختلاف لكنا وجدناه في موروثات فلسفية قبل اختراع عبد الرحمن بدوي ديالكتيك ثالث يجمع ما بين المثالية والمادية من منظور وجودي لم نلحظه في أدبيات الوجودية الحديثة لدى اقطاب فلاسفتها المعروفين..

الراسخ المتداول هو حقيقة أن الديالكتيك يقوم على تضاد الظاهرة الموحدة داخليا بين قطبي الشد والجذب السلبي والايجابي، أو الواقعة المادية ونقيضها على ارض الواقع وعالم مدركات الاشياء والموضوعات في نفس النوع المادي المتجانس وليس الديالكتيك الذي يقوم على الفكرة المجردة ونقيضها في استحداث ظاهرة المركب الثالث الجديد على صعيد التنظير الفلسفي الفكري المجرد في انفصال ارتباطه بالواقع، وقد أخذ ماركس على هيجل واشياعه التصور المثالي القائم على ديالكتيك الفكر المجرد وليس ديالكتيك الواقع بالمادة والحياة الاجتماعية وصولا الى التاريخ... والديالكتيك الذي لا يحمل تناقضه المادي في دواخله في تجانس طبيعي في وحدة الظاهرة , لا فاعلية له في عالم الموجودات والاشياء والمدركات، وعلى مستوى اكثر شمولية على مستوى التطور المادي للتاريخ الذي يقوم على التناقض الطبقي بين فئات المجتمع ومصالحها المتفاوتة بما اصطلح عليه تطور المادية التاريخية.

ديالكتيك الوجودية الثالث

من الغريب الذي لا يحمل مسوغات قبوله هو سعي عبد الرحمن بدوي اختراع ديالكتيك جديد مثالي يجمع بين ما هو مادي وما هو مثالي روحاني دليل قوله (الجوهر يصبح الذات، والمطلق يتعين روحيا مطلقا او صورة، والروح ليست شيئا وراء الجسم ولكنها هي ايضا جسم، والواحد ليس من وراء الكثير, لكنه كثير في نفس الوقت , وبهذا نقضي على النزعتين المادية والروحية ونرتفع الى نزعة مرّكب من الاثنين تقوم على فكرة التصور أو الروح المطلقة في تعينها وتحقق مضمونها).1 يظهر تأثر بدوي بمفهوم الجدل عند هيجل المثالي وليس ماركس المادي في محاولته تلبيس جدل الوجودية نوعا من الليبرالية الديمقراطية الحديثة.. رغم عدم الوضوح في الانتقالات اللغوية والربط بين التعابير غير المفهومة التي لا علاقة لها بجدل الديالكتيك الا اننا نثبت مايلي:

-         الديالكتيك أو الجدل منذ مذبحة ماركس مع هيجل كان مجال اشتغاله الحيوي المادي المنتج هو على صعيدي المادة والتاريخ، وليس هناك من جدل روحاني يلتقي المادي بأية صيغة كانت ولا بأي نوع من العلاقة الترابطية بين ما هو فكري مثالي مع ما هو مادي تاريخي.

وعندما حاول فيورباخ دونما مغادرته المنهج المادي الخروج على ديالكتيك هيجل المثالي وفق نزعة روحانية دينية لقي معارضة قوية من ماركس، في تأكيده أن الجدل الحقيقي هو مادي في مواضيع الحياة وفي المادية التاريخية. وكل ديالكتيك يخرج عن جوهر المادية فيه هو ديالكتيك زائف لا يمكن تطبيقه على المادة والتاريخ والصراع الطبقي الذي لا معنى لديالكتيك لا يعنى بهذه التطبيقات الواقعية الميدانية في الحياة.

-          يذهب بدوي الى تقسيم الجدل الديالكتيكي الى نوعين سلبي وإيجابي، والسلبي يمتاز حسب تحليله بانه يحمل تناقضات زائفة لا اهمية لها ولا ينتج عنها شيئا. أما الجدل الإيجابي فهو يمثل التناقض الصادق بالتضاد (بين ما هو موجود وما هو لاموجود) 2. لا أعتقد أن قرأ أحدا أن يكون الجدل سلبيا زائفا اذا لم يكن معبرا عن متناقضات حقيقية، كون الجدل لا يوجد ألا على صعيد الواقع والتاريخ فقط، ولا يوجد جدل يحمل الصفة السلبية لأنه لا يقود الى تشكيل مركب ثالث جديد هو الظاهرة المستحدثة الناتجة عن الجدل الذي يكون أو لا يكون وليس هناك جدل زائف سلبي غير حقيقي وجدل إيجابي حقيقي يحمل سمات تناقضية صادقة ليست كاذبة. واين يوجد مثل هذا الجدل الذي يصفه بدوي قطبيه الوجود واللاوجود؟ كيف يكون الجدل واقعة حقيقية عندما يكون بين وجود ولا موجود؟ قطبا الديالكتيك هو تناقض متضاد داخل المجانسة الموحدة للشيء وللظاهرة، بمعنى ليس هنالك جدلا لا يقوم على المجانسة التناقضية داخل الشيء الواحد أو الظاهرة الواحدة. كما أن سلبية الجدل الفكري مجال اشتغاله الفكر المثالي المجرد الذي يلغي مفهوم الجدل المادي أصلا..

-         عندما نقول ديالكتيك مادي، فهذا يعني الأخذ بمبدأ وحدة تناقض الأضداد داخل الظاهرة المتجانسة نوعيا، فالتناقض الديالكتيكي لا يكون بين شيئين او ظاهرتين لا تجمعهما المجانسة النوعية.

الوجود المادي الديالكتيكي داخل الظاهرة الواحدة لا يناقضه إلا وجود قطب جدلي آخر يجانسه المعايشة والارتباط به، فهل من المعقول والمنطقي ان يكون هناك تضاد جدلي بين موجود ولا موجود(عدم)؟ الجدل تناقض داخل النوع الواحد المتجانس في الأشياء المادية ذاتيا، يعتمل ويتطور بفعل عوامل ذاتية تهم خصائص النوع المادي وتوافر عوامل موضوعية خارجية ملائمة في تسريع التضاد الجدلي داخليا، الى ان يصل التناقض مرحلة البقاء للأصلح في تشكيل مرّكب الظاهرة المستحدثة الجديدة. والجدل طبيعة راسخة بالأشياء وليست رغبة افتعالية تحركها ارادة الانسان. الجدل لا يعمل تحت وصاية الانسان عليه، بل في استفادة الانسان من نتائج جديدة يستفاد منها.

-         الجدل الديالكتيكي الذي يحاول الجمع بين ما هو مثالي بعيدا عن الواقع لا يحقق أية نتائج يمكن التحقق منها حتى لو كانت على صعيد الروح المطلقة للتاريخ الماخوذة عن هيجل، ليس هناك روحا مطلقة للتاريخ هي بمثابة العقل المحرك للتاريخ كما ذهب له هيجل. الذي وصل به الاعجاب بنابليون كفرد يحمل كاريزما يمكنه بها تحريك تاريخ أوربا بأكمله، ولم يحقق هذا الاعجاب شيئا يذكر على الصعيد الأوربي غير التطاحن الحربي والتنازع على الهيمنة والنفوذ وضم المستعمرات الاقطاعية تحت هيمنة الأقوى..

-         الظاهرة أو الموضوع أو الشيء المدرك واقعيا ماديا هو الذي يكون مجال اشتغال الجدل عليه، وكل شيء يحمل تناقضه الجدلي بداخله كنوع، أي لا يمكن ان يكون هناك تناقض جدلي بين ماء وزيت مثلا لينتج لنا مركب ثالث لا نعرف ما هو؟ أو يكون بين وجود متناقض مادي يقابله اللاوجود (العدم).. الديالكتيك هو تناقض داخل المجانسة الخاصة بالنوع المحدد.

الجدل يكون بين قطبين متناحرين تحتويهما وحدة المجانسة النوعية. هل من المعقول أن يكون قطب التناقض الجدلي بين الوجود مع اللاوجود؟ الجدل يحدث داخل الأشياء المتجانسة بالنوع ولا مجال ان يكون الجدل بين ما هو مادي مع ما هو روحاني حسب تعبير بدوي. ثم إذا كان المقصود تناقض الوجود مع اللاوجود ممثلا بالمركب أو الظاهرة الجديدة الناتجة عنهما فهذا أمعان أكثر بخطأ التفكير.

المركّب الثالث الذي يتخلق عن تناقض جدلي لا يكون طرفا تناقضيا داخل جدل عنصرين متضادين والمرّكب الثالث هو ناتج غير متحقق ولا موجود الا بعد انتهاء صراع قطبي المتناقضين. لأن المركب الجديد هن (ناتج) التناقض الجدلي وليس عنصرا داخليا في عملية صراع الأضداد في وحدة مجانسة واحدة يكون غريبا عنهما. التناقض الجدلي يكون داخل العناصر المتجانسة بالصفات، وليس التناقض مع عنصر ثالث يكون ناتجا لتخليق جدلي مستقبلي وليس طرفا في التناقض الجدلي الذي ينتجه.

الجدل الحقيقي الذي يدعو له عبد الرحمن بدوي هو الجدل الزائف الذي يكون مجمل تناقضاته في التفكير الذهني وخارج الفكرة الواحدة المتجانسة موضوعيا من نوعها، ومن الخطأ القاتل اسقاط مثل هذا الجدل المفتعل ذهنيا على الواقع المادي وبذلك نكون جمعنا المادي مع الروحي حسب رغبة بدوي. وليس حسب تعقب ناتج التناقض الطبيعي الذي يقود لطفرة نوعية هي الظاهرة المستحدثة الجديدة التي يطلق عليها بدوي المرّكب الثالث.

-         حين نقول الجدل تناقض نوعي مادي بمعنى يمتاز بميزتين هما أولا انه يتم داخل موضوع متجانس في النوعية المادية، وثانيا الجدل لا يعمل برغبة الانسان في اختراعه له, فهو اي الجدل تناقض طبيعي يتحدد بالنوع والاستقلالية الذاتية في موجودات وظواهر بعيدة عن رغائب الإنسان، ولا يخضع الجدل الى وصاية الانسان وارادته، بل يمكن في استثناءات جدلية معينة يتدخل الإنسان كعامل موضوعي في تسريع التناقض في الظاهرة على صعيد التناقض الطبقي مجتمعيا، كي ينبثق ويتخلق عنها المركب المستحدث الجديد الذي بدوره يحمل تناقضه الداخلي الى مدى وصول انحلاله وظهور المركب الثالث المستحدث الجديد وهكذا الى ما لانهاية له من التطور الدائم الذي يقوم على التناقض الذي يعقبه استحداث مركب جديد.. لذا الجدل لا ينوجد برغبة انسانية ولا يحقق نتائج يرغبها الانسان سلفا، فهو عملية طبيعية فيزيائية مادية بعيدا عن المؤثرات الخارجية باستثناء العوامل الموضوعية المساعدة في تسريع عملية الجدل وتعميقها.

-         من المفروغ منه ان كل ظاهرة مادية بالحياة لا تتطور بغير تناقضها الجدلي الداخلي كنوع والتناقض المسمى جدليا لا يمكن إسقاطه من الفكر على تطور المادة بمعنى تداخل الفكر في التناقضات المادية، وكل جدل زائف يكون مجاله الفكر بمعزل عن الواقع في التفكير المجرد ولا قيمة مادية تترتب عليه.

-         في الوقت الذي يفهم هيجل الديالكتيك على انه مسار تراكم كمي طبيعي لا تتخلله الطفرات النوعية، نجد كيركجارد ذهب عكس ذلك في اعتباره الديالكتيك في جوهره وحقيقته يقوم على الطفرات الكيفية (النوعية), وان مسار الديالكتيك الطبيعي هو مسار منفصل بقطوعات على شكل (وثبات قافزة نوعية) على الدوام تعجل وتسرّع في مسار التناقض الجدلي وتنقله الى مركبّات جديدة يحققها بالطفرات النوعية، وبهذا النقد لكيركجارد لديالكتيك هيجل يكون أرسى وفتح المجال امام ظهور الجدل الماركسي الذي يقوم على ديالكتيك الطفرات النوعية في تطور التاريخ وتقدم الحياة والا يكون الديالكتيك فقد كل معنى له حين يكون مسارا طبيعيا لا تتخلله طفرات نوعية. والديالكتيك الذي ينتج عنه قفزة نوعية سببها وصول التراكم الكمي مرحلته الاخيرة التي يجب بالضرورة الحتمية الملزمة انتقاله الى ظاهرة نوعية جديدة ومغادرته صفة التراكم الكمّي.

-         حين سعى فلاسفة المادية ادانتهم ديالكتيك هيجل وتخليصه من عقدة الفكر المجرد يعلو الوجود، في تماهيه مع ديكارت في أنا أفكر اذن انا موجود حيث " صار الفكر مضادا للوجود، وانه كلما زاد الفكر قل الوجود، وكلما زاد الوجود قل الفكر.. وإذا نحن بدأنا مع هيجل من الفكر كي نصل الوجود فستكون النتيجة اننا لن نصل الى شيء كما برهن كانط على ذلك "3.

الحقيقة الواضحة أن الجدل الديالكتيكي بالفكر المجرد هو جدل كاذب سطحي ولا يقودنا تحقيق شيء جوهري بالحياة، بينما يكون ديالكتيك الواقع مليء بالتوترات والتناقضات والتضادات التي تؤدي بنا الى معايشة تحولات وطفرات كيفية نوعية في التغيير المتواصل، والقول كلما زاد الفكر قل الوجود مصدرها انعزال الفكر عن الوجود حيث يكون الفكر هو الوجود ولا يكون تمثيلا تعبيريا عما يدور في المجتمع والحياة.

ديالكتيك الذات

في الفلسفة الوجودية نجد محددات متفق عليها في تخليص الذات من السلبية المطلقة بعد ان أغدقوا عليها مواصفات تكون بها ذاتا فاعلة غير الذات التي جعلها ديكارت عملية انتقال تموضعي فكري لها في الاشياء بدلا من سجن التجريد الذهني لها بالفكر دونما الانتقال من الفكر الى الواقع، إذ لا توجد الذات حسب ادبيات الوجودية الا في ملازمة الإرادة مع حرية الفعل، والذات التي تجد نفسها مقيدة الارادة في حجب الحرية عنها تكون ذاتا هامشية لا قيمة حقيقية لها ولا قيمة تقدر منحها لغيرها.

ونجد المحددات الوجودية للذات الحقيقية التي وردت بتعبير بدوي الوجودية تنطلق من "الحرية تقتضي الإمكانية، لان الحرية تتضمن الاختيار وكل اختيار بين ممكنات، فاذا كان جوهر الذات هو الحرية، فماهيتها تقوم اذن بالإمكانية." 4

هذا التدرج التوصيفي الذي يبدا بالرغبة مرورا بالإمكانية والحرية والتحقق والاختيار، هي مفردات انقاذ الذات من السلبية الى حالة السيرورة الحيوية التي تقوم على الاستقلالية والمسؤولية حسب اجماع فلسفي استعاره بدوي. وهذه المقومات التي تجعل من الذات قطبا في الديالكتيك الجدلي مع مواضيعها يعبر عنها كيركجارد " ان الحرية ديالكتيك في منحيين هما الامكان والضرورة "5، ويفسر بدوي هذه المقولة بضوء الفهم الهيدجري الوجودي أن الضرورة هي إلزام تحقق الامكانية على هيئة وجود - في- عالم. وإن جوهر الذات هو امكانية ما تريد تحقيقه لها.

كما يفسر بدوي الوجود الماهوي للذات حسب الفهم الوجودي في القدرة الممكنة التي تمتلكها في تحقيقها لرغائبها ضمن عالم يمور ويعج بمختلف العديد من الموضوعات. تلازمها الحرية فيه بشكل مطلق فالذات التي تفقد حريتها انما تفقد سلسلة الترابطات المتعالقة بها بما يجعل منها ذاتا غير فاعلة ولا تمتلك حيوية الوجود.. كما يربط بدوي تحقق ماهية الذات بمقدار اشباع رغباتها بما تريده بحرية تامة ولم يميز بين تلك الرغبات. غرائزية أم مكتسبة؟

أن الماهية الوجودية للذات لا تذهب الى هذا المعنى الاشباعي الغريزي لما ينتاب الذات من رغائب بيولوجية استهلاكية زائلة، بينما الماهية الذاتية عند الانسان هي جوهر ثابت يتم انشائه كبنية تحمل خصائص انفرادية عابرة لإشباع غرائز الجسد والنفس. الى ذات تتحمل مسؤوليتها المجتمعية ضمن عالم حسب تعبير هيدجر. والذات في انعزالها المنفرد تغادر حقيقتها الاصيلة في الوجود، وتكون نوعا من الاغتراب السلبي الذي يرى المشاركة بصنع الحياة مضيعة للوقت لا تنّجي الانسان من مصيره المحتوم بالموت والفناء.

الفهم الوجودي للذات والماهية

تذهب الفلسفة الوجودية إلى أن فهم الذات هي المرادف المتطابق مع الماهية، وعندما نقول ذات نعني بها ماهية. وهذا الفهم يتبنى الطرح الذاتي عند ديكارت في ربطه الفكر بتحقق الوجود في الكوجيتو، كما تذهب الوجودية أن الامكانية المتحققة للذات في الحرية والإرادة والاختيار والاشباع المادي والروحي، انما هي تثبيت لمعنى الذاتية الايجابية الاصيلة في تحقيقها لماهيتها.

طبعا هنا سوف لا نهتم بان هذا الفهم في تأكيد الذاتية في الوجودية واعتبارها تحقق الماهية, لا تمتلك مسوغات الحضور والاهتمام الفلسفي حين بلغت الذات اوج قمتها في الحداثة واستمرت لقرنين اكثر او اقل في بلوغ عصر التنوير وتقدم التكنولوجيا والعلوم قاطبة في القرن العشرين, لتاتي ما بعد الحداثة ممثلة بالفلسفة البنيوية وما تلاها من فلسفات مثل التفكيكية والتأويلية والتحليلية والعدمية جميعها تمحورت حول مركزية فلسفة اللغة في إنكار أن يمتلك الانسان ذاتا ولا ماهية جديرة بالبحث والدراسة فقد وصلت فيما بعد عصر الأنوار الطريق المسدود الذي ركن الذات الانسانية والعقل في خندق الميتافيزيقا.

اذن كي لا نخرج عن صلب موضوعنا سوف نناقش ما تطرحه الوجودية حول الذات والماهية بنفس تعبيراتها المتزامنة معها وليس بتعابير ما وصلته فلسفة اللغة باعتبارها فلسفة العقل والمعنى هو الفلسفة الاولى في القرن العشرين، ونهمل النتيجة التي وصلتها اليوم.

الأمر الواجب توضيحه أن تأكيد الذات لوجودها الحيوي الذي ارادته الوجودية تخليصا منقذا للذات وتخليصها من اختزالها الديكارتي في دوران تسييجها في التفكير الذاتي المجرد الذي يمنحها الوجود لا بل تكون هي ماهية الانسان كما ذهبت الوجودية له.

الوجودية لم تميز أن توكيد ذاتية الانسان لا يعني توكيد ماهيته. الوجودية صحيح اخرجت الذات من سجن ديكارت الانفرادي الذي اختزل وجودها الحقيقي هو في التخارج الجدلي ما بين الفكر والوجود. وأن وعي الذات الانفرادي كان ديكارت سبق الوجودية بتحققها بالفكر المجرد في سبق تاريخي يحسب له بعد مجيء هيجل، وكل ما اضافته الوجودية انها اعتمدت مقولة برينتانو منبع الافكار الوجودية حين جعل من كل وعي ذاتي ينحصر بكينونة الفرد الانفرادية هو وعي زائف غير حقيقي ما لم يرتبط ب(قصدية) هادفة له على الاقل لتحقيق ذاتيته الحقيقية ولمجتمعه. وقصدية الذات في تحقق اصالتها الوجودية سرعان ما تلقفها هوسرل ومن بعده هيدجر وسارتر وجبرييل وصولا لفلاسفة امريكا المعاصرين جون سيرل وريتشارد رورتي.

هؤلاء الاخيرين طوروا القصدية الذاتية في الوجودية في تركيزهم دراسة اهمية الوعي المتعالق بالذات، التي رأت تحقق الذات في وجودها الاصيل انما يكون (في عالم) وهو تعبير هيدجر، ولم يعيروا أدنى اهتمام للماهية التي اعتبروها نسخة مصورة عن تحقق الذات بصفاتها المدركة. وبقيت إشكالية فهم الذاتية بمعزل عن الماهية مدار نقاش ترجع أصوله الى كانط حين قال لا تتعبوا انفسكم في البحث عن الماهية التي هي وجود بذاته لا يمكن ادراكه ومعرفته، على خلاف من تحقق الذات فينامينالوجيا على انها وجود مكتف لذاته والاخرين ولا يشترط امتلاكه ماهية. حيث تكون معرفة إفصاحات الذات عن الصفات الخارجية المدركة كاف كي لا نضيع الوقت في افتراضية البحث عن الماهية كموجود او غير موجود. وحتى الفلسفات المادية مثل الماركسية أخذت بهذا المنهج الفلسفي اعتبارها الصفات المدركة هي الماهية. حين انفرد سارتر في خروجه عن تعميم كانط والوجودية وقال أن مالا يمكن ادراكه لا يعني عدم وجوده، وتبقى الماهية تصنيع ذاتي لكينونة انسانية تلازم الانسان طيلة حياته كان وحيدا بالساحة الوجودية. الذي يحمل حقيقة فهم الماهية فهما فلسفيا متفردا.

الذات المتحققة ضمن قصدية هادفة تكون اكتسبت وجودها الحيوي الفاعل بالحياة، وهذا التحقق الذاتي في عالم لا يعني أن ماهية الانسان أصبحت ذاتيته المفصحة عن نفسها بما تمتاز به الذات، الذات بالفهم الوجودي الفلسفي ومعه المادي ايضا ينظر للذات كمدرك في دلالات إفصاحاته الخارجية بالحياة، وهو ما لا ينطبق على الماهية كونها ليست موضوعا مدركا، بل الماهية مخزون نوعي يدّخره الانسان كبنية نوعية خاصة. الماهية تخليق دائمي يرافق الانسان بشكل مستمر وهو جوهر لكينونة وجودية هي الانسان ولا يشترط ربط توكيد الذات لوجودها الاصيل في عالم نكون به وصلنا معرفة ماهية الانسان التي هي ليست إفصاحاته الذاتية وإنما هي مدّخراته التي يعيها بالقدرة والامكانية والحرية والضمير ولا تكون موضوعا مدركا من غير صاحبها حاملها وحده فقط.

الوجود الاصيل المتحقق للذات ضمن عالم لا يمثل بالضرورة التبعية الماهية كمدرك، بل تبقى الماهية كينونة بذاتها، أو موجود بذاته حسب تعبير كانط يصعب الاستدلال عليه معرفيا بخواص مدركات المنظومة العقلية للأشياء والمواضيع. صفات الذات ليست منفصلة عن الماهية، وقد تشكل بعض ماهية الإنسان وليست ماهيته كاملة تماما. الماهية هي الاحساس المتمايز المنفرد بعدم المجانسة مع الاخرين الذي تكون مجانستهم بالصفات المشتركة بينهم كنوع واردا. والماهية ليست مجموع صفات الشيء المدركة ولا حتى ذاتيته المتحققة في عالم من الوجود الاصيل. وتحقيق اصالة الذات لا تسحب معها تحقق أصالة الماهية.

الهوامش:

1.عبد الرحمن بدوي /الزمان الوجودي/ ص 28

2. المصدر نفسه ص 10

3. نفسه ص35

4. نفسه ص 41

5. ننفسه ص 41 ايضا

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس