نظرية
المعنى في فلسفة العقل واللغة
11 ماي 2020
د علي
محمد اليوسف
الفكر
والحركة
الفكر هو حركة الجسم حسب تعبير هوبز بمعنى أن
الفكر هو حركة تغيير مستمر من الصيرورة والانتقالات المتطورة ضمن مدرك قانون قالبي
الزمان والمكان العقليين التي لا تستنفد فيها حركة الفكر طاقتها المتغيرة
التوليدية الذكية بسهولة ما دام الفكر ملازما الانسان في كل لحظة من حياته.
والفكر هو بشكل وآخر وعي قصدي ناتج عن توليد
العقل له في تعبيره اللغوي عن موجود معيّن أو كموضوع. وخاصية العقل هي اللغة ذات المعنى
في إدراك الموجودات والأشياء في العالم الخارجي، وخاصية تفكير العقل الجوّاني
الصامت المستمد من مخيلة الذاكرة هو أيضا لغة صورية هي ذاتها اللغة الصورية في
تعبير العقل الحسّي عن الموجودات في الطبيعة وعالم الاشياء والمحيط، والصمت لغة تأمل
العقل لمواضيعه الداخلية المستمدة من الخيال تفكيرا صوريا. عليه تكون جميع ادراكات
العقل الحسية والخيالية لا تتم عقليا بغير تمّثلات العقل لها صوريا لغويا.
واللغة بلا موضوع لا معنى لها واستحالة عقلية
تلغي ذكاء الانسان في الوعي القصدي المنظّم لإدراك الأشياء، ولا يمكن للعقل
التعبير تجريدا لغويا بمعزل عن موضوع يدركه. اللغة بمفهومها المتداول في التعبير
عن المدركات العقلية هي لغة صورية واحدة تقوم على أبجدية الحروف والمقاطع وأصواتها
ومن ثم تليها الكلمة وتليها الجملة كألفاظ عن مدلولات بغية توصيل المعنى المطلوب
عن مواضيع الادراك الخارجية ومواضيع الادراك المستحدثة من خيال الذاكرة على
السواء. الإدراك العقلي لأي شيء في الطبيعة أوفي الخيال لا يمكن التفكير والوعي
العقلي به من غير تمّثّلات اللغة له تجريدا صوريا.
وما لا يدركه العقل لا يمتلك لغة الافصاح عنه
كموجود أو كموضوع. ولا يعني هذا مجاراة الخطأ المثالي المعروف لدى بعض الفلاسفة ما
لا يدرك عقليا غير موجود.. فوجود الشيء في العالم الخارجي مستقل عن أدراكه الحسي
والتعبير اللغوي عنه. وجود الشيء لا يتلازم مع ضرورة أدراكه كما أن إدراك الشيء لا
يعني معرفته فالإدراك هو الوعي بالشيء الذي يمّثل اولى درجات معرفة ذلك الشيء فقط..
ومعرفة الشيء تماما هو سلسلة مترابطة من الادراكات المتتالية.
وحين يكون الفكر ملازما لحركة الجسم حسب هوبز
فهو يعنى بالإنسان في حركته الدائبة المستمرة غير الثابتة ولا المستقرة بمكان
وزمان معينين لذا يكون الفكر المعبّر عن هذه الحركة والانتقالات لا يستنفد طاقته
بثبات زائف كخطاب ينهي تأويل ملاحقة المعنى اللغوي بالإضافة المستمرة له ومعرفة
الشيء...الفكر حيويته الحركية في مواكبته التغيرات الحاصلة في حركة الانسان التي
هي السلوك الطبيعي تجاه ما يصادفه بالحياة من مواقف وأمور تتطلب أعمال العقل بها
ومعالجتها واتخاذ الموقف اللازم بشأنها. والفكر حركة لغوية متغيرة ملازمة للسلوك
الفردي والسوسيولوجي.
فتعبير اللغة الخالي من المعنى لا يكون ناتجا
عن مدرك عقلي لموجود في عالم الاشياء ولا عن موضوع مدرك في عالم الخيال، فالموضوع
يلزم عنه لغة التعبير عن تعيينه الانطولوجي والافصاح التام عنه وعن معناه والا كان
لا موضوعا مدركا عقليا. وتكون اللغة أيضا في غياب موضوعها لا معنى ولا قيمة لها لا
بل غير موجودة أصلا في عطالة وعي العقل للأشياء.. واللغة التي هي توليد عقلي مقصود
لا يمكنها التعبير عن لا شيء غير محدد فيزيائيا أو غير محدد خياليا كموضوع. فاللغة
التمّثلية التعبيرية هي وعي ادراكي قصدي عقلي بموضوع سواء أكان موضوعه خارجيا في
عالم الاشياء أم داخليا بخصوص الاحساسات التي مصدرها عمل أجهزة الجسم ويسمى هذا
النوع من الادراك الوعي الاستبطاني الجوّاني.
واللغة لا تعّبر عن الفكر تجريديا من فراغ
بلا موضوع يدركه الوعي القصدي للعقل... وهنا تنتفي حاجة اللغة أن تكون وسيلة عقلية
في الاستدلال المعرفي في غياب موضوع العقل المدرك لتصبح اللغة الفاظا صوتية لا
معنى فكري إفصاحي ينتظمها ولا تكون لها قيمة تواصلية من أي نوع من وسائط التواصل. اللغة
فعالية متفردة نوعيا يمارسها الانسان بذكاء قصدي بالحياة...
أن شرط
امتلاك العقل تفكيره السليم الذكي التوليدي هو في امتلاكه ملكة اللغة وخاصية استعمالها
في التعبير القصدي عن شيء وألا كان تفكير العقل لا معنى له أو معدوما أصلا، واللغة
لا تمتلك تعبيرها كاملا في التعبير عن الشيء كون الفكر واللغة المرتبطان بالحركة
والوعي القصدي يكونان محكومين بالتغيير والسيرورة المستمرة ويكون الفكر تابعا
للحركة وليس خالقا لها.. وفي هذه الخاصية الديناميكية في تحولات وانتقالات الفكر
واللغة تصبح أهمية التأويل المعّبر عنه لغويا مطلوبا على الدوام من أجل معرفته
الموضوع المعّبر عنه جيدا والوقوف على معناه اللغوي تماما. كما تكون الحركة سابقة
على الفكر المعّبر عنها ووجود الشيء سابق لكليهما معا الحركة والفكر..
بحسب أمبرتو ايكو الشيء الصحيح هو ما لا
يمكننا شرحه. ويقصد به الشيء الصحيح الذي لا يمكننا شرحه هو الشيء الذي يكتسب
مشروع تأويله المستمر ويتقبّل القراءات المتعددة ولا يتوقف معناه في تعبير لغوي
مقفل مستنفد طاقة الفضاء المفتوح الفائض عن محتوى لغة التعبير عن الشيء دوما، ولا
يقصد بالصحيح الذي لا أمكانية لشرحه وتوضيحه أنه الذي قد أمتلك ناصية الصحيح
المطلق الناجز في استنفاده فائض المعنى القيمية التي يدّخرها الشيء الصحيح في لغة
التعبير اللغوي عنه دوما.
نستثني من هذا التعميم في حال أن يكون الشيء
الصحيح الذي لا يقبل التفسير حسب عبارة ايكو هو البديهي الثابت في معرفته
الادراكية عن الاشياء والمواضيع التي لا يحتاج معها تأويلا فائضا عليها.. كما هو
الحال في القوانين الطبيعية العلمية التي تحكم الحياة والانسان كالجاذبية مثلا. أو
فيما يعرف بالكلمات والتعابير الشيئية التي تكون اللفظة اللغوية فيها مغلقة بالإشارة
لشيء اكتسب الصفة التامة في ادراكه التي لا يحتاج بعدها لتوضيح في تطابق اللفظة
معه كشيء وموجود حسي ماثل. والصحيح الذي لا يقبل الشرح هي البديهيات المعرفية
العقلية فقط.
فالصحيح بداهة يكون قد أكتسب صفة التسليم
المطلق به في تعبير اللغة عنه أو تعبير علامات المعادلات الرياضية العلمية
والمسلمات المختبرية العلمية ومطابقتها الموجودية للإدراك العقلي والابستمولوجي
للشيء الصحيح الذي يكون نسبيا حتى في مجال العلم وأكثر منه في مجال المعرفة عامة ..
ولا يكون الشيء مكتسبا حقيقته الصادقة في
تعبير اللغة عنه لمرة اولى واحدة في خطاب أو نص لغوي لا يحتاج بعدها تفسيرا،
فاللغة تبقى دائما تأويل مؤجل لقراءات لاحقة متتالية متعاقبة...اللغة هي الادراك
المتطور باستمرار في التعبير عن الحياة بمجملها صغيرها وكبيرها معا. بمعنى اللغة
هي ظاهرة جوهرية في فهمنا الوجود والحياة ولا حدود نهائية تقف عندها تحكمها. فتوليد
اللغة للأفكار يكون في انفتاحها على فضاءات واسعة من الانتقالات والتحولات والتأويلات
التي لا حصر لها ولا يمكن الالمام التام بها فهي سيرورة متغيرة من جهة ومعقدة على
التحليل من جهة أخرى.
وفي هذا المعنى تبقى اللغة مشروع تأويل تعددي
مفتوح النهايات ولا يكتسب الشيء صوابه في عجز اللغة تفسيره وتوضيحه من المرة
الاولى في تعبيرها القاصر عنه. اللغة قدرة وملكة تأويلية لا تستنفد طاقتها في
أقفالها المعنى على موضوع أكتسب صدقيته القطعية اليقينية الثابتة التي لم تعد
بحاجة لتوضيح وتفسير لاحق يتعذّر القيام به بل اللغة في سعيها القرائي تحقيق
المعنى دوما أنما تكون فضاءا تأويليا لا يتوقف بحدود معينة من التعددية والاختلاف.
هذا المعنى نجده في الفكر الهرمسي (أن اللغة
بقدر ما تكون غامضة متعددة بقدر ما تكون غنية بالرموز والاستعارات وهو ما يجعلها
قادرة على تعيين الله الذي يحتضن بداخله كل المتناقضات ومع ذلك فما يشكل احتفاءا
بتطابق المتناقضات هو ما يؤدي إلى انهيار مبدأ الهوية حين يكون كل شيء مرتبط
بغيره) 1.
هنا في التعبير الهرمسي الثيولوجي الاسطوري
الديني المزدوج عن مفهوم التناقض أن الله يحتضن التضادات بداخله ولا يفتقد هويته
الكلية في ضمّه تلك المتناقضات وجعلها من خصائصه الهوياتية ولا يحتاج محاولة معرفة
هذه التناقضات بالإحالة على لاحق يليها ولا على سابق يتقدمها فليس غير (الله) من إحالة
مرجعية تليه هي وجوده اللامتناهي وهذا فهم ديني ميتافيزيقي يصطدم باستحالة تعميمه
ماديا على شؤون الحياة والوجود الانساني فالحياة لا تقوم على مفردة اللاهوت الديني
فقط..
عندما تكون المتناقضات التي نعيشها بالحياة
هي تهديد مباشر في انهيار هوية كل شيء بالإحالة اللغوية التأويلية المستمرة على
لاحق غيرها يليها. هوية الخالق أو الله هي جملة مواصفات وقدرات ذاتية ليست مكتسبة
ولا هي متغيرة غير ثابتة، أما مفهوم الهوية في الحياة والتاريخ فهي بنية تكوينية
مستمرة دائمة التغيير البنائي تقبل الاضافة المتجددة لها..
اللغة والهوية
ونعود الى مركزية موضوعنا في تعالق فضاء
اللغة اللامحدود بفضاء التأويل اللاحق عليه غير المحدود هو أيضا. فالموضوع الذي
يعجز التعبير اللغوي عنه ومعرفته هو الموضوع الذي يحمل معه فائض المعنى الذي لا
تحيط به لغة التعبير تماما كاملا لا في المعنى ولا في المعرفة به. وفائض المعنى
المدّخر هو تأويل لغوي أضافي قادم في تعدد القراءات له.. وصدقية وصواب الشيء
المعبر عنه لا يقعده الثبات في تعطيل معطياته المختزنة داخل معانيه المتعددة التي
لم يطالها التأويل التعاقبي بعد.. فالتأويل أضافة نوعية متجددة في ملاحقة المعنى
غير المعلن غير المفصح عنه لغويا.. والفكر لا تحده الهوية لأن الهوية تشكيل بنائي
متطور متغير على الدوام يواكبه الفكر عبر الانتقالات والحركة والتغيير والسيرورة
الدائمة له. كما لا يحد الفكر منتهى المعنى الذي تدّخره اللغة.
ويبقى الصحيح العصّي على التفسير كونه سيرورة
مطردة من التغيير التكويني له.. القراءات المتعددة في لغة التعبير عن النص أو
الاشياء هي تأويل لقصدية ملاحقة فائض المعنى.. ونجد تعبير أمبرتو ايكو يقارب هذا
قوله (البحث عن عمق تأويلي يشكل وحدة كليّة تنتهي اليها كل الدلالات سيظل حلما
جميلا من أجله ستستمر مغامرة التأويل حتى وأن كان الوصول الى هذه الوحدة مستحيلا)2.
التأويل في حفريات النص يؤكد ما ذهب له أمبرتو
ايكو من منطلق استحالة أن يحمل النص أو الخطاب هوية دلالية ثابتة بل يحمل انحلالات
تفكيكية تأويلية إضافية متشظية لا يبقى معها للهوية معنى ولا وجود..
الهوية بالمنظور التأويلي لها هي لغة محايدة
لا تنهي تعدد القراءات، ولا يمكن أن يكون الفهم الاجتزائي تعويضا عن مدّخرات النص لفائض
المعنى اللامحدود. وعدم قدرة الوصول الى الحلم الجميل في تحقيق عمق التأويل في
وحدة كلية تنتهي بها ومعها كل الدلالات..
النص والتأويل
النص
اللغوي أو الخطاب هو مشترك استقبالي متعدد في لغة مفتوحة يعبّر عنها التأويل
اللغوي الذي يكون فعالية تراكمية في المعنى لا محدودة النهايات فهو يمنح المعنى
للنص ولا يأخذه منه بل يكتسبه منه ويعيده ثانية إليه وحسب تعبير تودوروف (المؤلف
يضع الكلمات ليأتي القراء بعده بالمعنى ) وبعبارة كارل بوبر (التأويل لا يستند الى
أي معيار من معايير العامة ).فالتأويل فعالية لغوية ذاتية لا تضع امامها محددات
العالم المعيش بل تضع سعيها الوصول الى الحلم الجميل في صنع عالم خاص يقوم على تأويل
التفكيك كنظام لغوي بلا نهاية حتى وأن كان الحلم مستحيلا تحققه حسب أمبرتو ايكو
وتكفي عندها لذة المغامرة.
التأويل
اللغوي فعالية انفرادية وما هو ذاتي لا يصح تعميمه على حساب تغييب التعدد
والاختلاف في التلقي وفهم المعنى الذي يقوم أساسا في البحث المفتوح على التجديد
والاضافة اللغوية للمعنى المطلوب....وبضوء عبارتي بوبر وأمبرتو نفهم تأويل النص هو
عملية تشّظي متتالي للفكر واللغة في ملاحقة المعنى والتحرر من الشد المرجعي الذي
يعيق التفكيك المتتالي ولا تدور تشظية التفكيك بفلك مركزية مرجعية ميتافيزيقية
ثابتة مثل العقل المصنّع المنتج التوليدي للغة لذا يصبح النص متحررا من الهوية
المائزة في تأكيده حضور التعددية والتناقضات والدلالات المتعالية التي يختزنها
دوما فيه.
التعددية والاختلاف والتشظي وفقدان الهوية
كلها دلالات لا تستجمعها كليّة التأويل المركزية التي توقف طاقة التأويل
اللامحدودة في دينامية تعدد ملاحقة فائض المعنى. وخلاصة ذلك حسب تعبير أمبرتو ايكو
(التأويل غير محدود في محاولة الوصول الى دلالة نهائية ومنيعة مما يؤدي به فتح
متاهات وانزلاقات دلالية لا حصر لها).3
بضوء هذا المعنى نستطيع القول أن التأويل
اللغوي المتشّظي لا يحمل محدودية فضاءاته الشاسعة ولا يحمل بالضرورة الهوية التي
هي الاخرى تشكيل بنائي متراكم متطور وليس بنية مركزية ثابتة. الهوية حتى على
المستوى الحضاري التاريخي وليس على صعيد التأويل الفلسفي للنص هي صيرورة من
التشكيل البنائي المفتوح على المستقبل وليست ميزة تكتسب صفاتها من قراءتها في
ماضيها وحاضرها ولا يطالها المستقبل بالتغيير البنائي المتجدد، بل أن الهوية
الفاعلة هي تشكيل لا يخرج عن أهمية المستقبل له وحاجته الماسّة في أن يكون هوية في
المستقبل وليس هوية متحفية في الماضي تعيش ماضيها خارج مستقبلها..
ما ينبغي التركيز في معرفته هو أن الهوية
تراكم معرفي ثقافي حضاري بنائي متجدد على الدوام وعلى صعيد النص والخطاب المؤول
فلسفيا أيضا، فالهوية ليست بطاقة شخصية يحملها النص كما هي البطاقة الشخصية التي
يعرّف الفرد نفسه بها ويحملها على الدوام معه كوثيقة لا تتقبل التبديل ولا التغيير
ولا الاضافة.
هوية النص تأويل دائم متغير ومتشظي على
الدوام لذا يكون تأويل كل نص او خطاب لا يقي من الانزلاقات التحذيرية والمتاهات
التي لا حصر لها التي هي تحصيل حاصل النواتج العرضية التي يتمخض عنها التأويل
القصدي الهادف في البحث عن المعنى من دون السعي نحو تلك النواتج العرضية غير
المقبولة.
إذا ما فهمنا عملية التأويل اللغوي طاقة لا
محدودة من التعدد والاختلاف والحركة والتجديد الفكري البعيد عن التوقف والثبات في
مرحلة معينة. فالتأويل لا يحمل أي نوع من الدوغمائية أو اليقينية التي تعجز لغة التأويل
عن الاضافة التجديدية لها. والتأويل على صعيد التفكيك لا يصنع ولا يقيم هويات خاصة
ثابتة بل يعمد تفكيكها وهدمها على الدوام في محاولة بنائها..
اللغة والعقل
العقل نوس nous عند افلاطون هو الملكة الموّلدة للأفكار،
وعند ارسطو العقل هو الذي يمكننا من التعرف على جواهر الأشياء. (وعلى النقيض من
ذلك سيكون النوس – العقل في القرن الثاني الميلادي ملكة للحدس الصوفي والاشراق
اللاعقلاني, وسيصبح ملكة للرؤية المباشرة ولا يعود الكلام والنقاش والحجاج من
الامور الضرورية )4 .
لم يكن افلاطون مجانبا الصواب في اعتباره
العقل جوهرا منفصلا عن الجسد موّلدا ذكيّا للأفكار فهذه النظرة العلمية الفلسفية
الثاقبة لا تزال صحتها قائمة الى اليوم. باختلاف أن العقل اللافيزيائي هو الذي
يحتوي الجسم الفيزيائي ويقيم وصايته عليه. فالعقل هو ملكة اللغة في التعبير عن
مدركاته للأشياء في العالم الخارجي. كذلك لم يكن ارسطو مخطئا ايضا في تعبيره أن
العقل وسيلة معرفتنا جواهر الأشياء، على اعتبار العقل عند ارسطو لا يكتفي بمعرفة
الصفات دونما الجوهر في عملية استبطانية كانت مثار جدل في ذهاب بعض الفلاسفة بدءا
من كانط عدم امكانية العقل المجرد معرفة الجوهر.. والفرق بين الاثنين افلاطون
وارسطو معروف أن أرسطو حاول انتشال أفكار افلاطون من النزعة المثالية المتعالية في
عالم المثل في السماء، وسحبه الفكر الفلسفي الى واقع حياة الانسان والوجود الارضي.
وواقعية ارسطو في إنزال الفلسفة من تجريد ميتافيزيقا السماء الى وجودها الارضي في
مركزية الوجود والانسان المتعالق مع الطبيعة..
ونقيض هذين المنهجين الفلسفيين نجده في عبارة
أمبرتو ايكو السابقة في تعبيره عن الصوفية اعتمادهم العقل وسيلة اكتشاف واستبطان
كل ما هو غير مدرك ماديا لذا يكون تعبير العقل ليس وسيلة اللغة بل وسيلة تصميت
اللغة وتخريسها في تعطيلها عن الكلام والحجاج الذي لا مجال أن يكون موضوعا ملحقا
في تعبير اللغة عن التجربة الصوفية بدلا
من صمت التعبير اللغوي في تعطيل العقل الحسّي خارج الزمان والمكان الذي يحدّهما
الادراك الطبيعي ولا يعملان في مجال التجربة الصوفية...فالزمان والمكان قانون
الطبيعة الذي يحكم الاشياء التي يدركها العقل حسيا أما في التجربة الصوفية فالزمان
والمكان في الادراك العقلي التصوفي معّطلان وتغييبهما خرق فاضح وتقويض للقوانين
التي تحكم الطبيعة علميا.
أن مستويات التفكير العقلي في عبارة أمبرتو
ايكو التي اشرنا لها لا يتحدد بوظيفة تعبير اللغة في بعد ومجال واحد في معرفة
العالم والاشياء ودواخل النفس فوعي العقل قصدي وغير محدود مفتوح في تعدد مناهج
البحث عن حقائق الاشياء ومعرفة الموجودات واللغة أحدى تلك الوسائل المنهجية التي
يكون تعطيلها متعمدا مقصودا في استبعادها كما في مثال تعطيلها العمد نقل التجربة
الصوفية...
ماهية العقل
يعرّف ديكارت العقل بأنه (جوهر) منفصل عن
الجسم ماهيته التفكير وهو تعريف يتماهى مع أفلاطون تعريفه العقل جوهر ماهيته ملكة
فطرية ذكيّة في توليده الافكار وجوهر منفصل عن الجسم كجوهر فيزيائي مادي أيضا.
والعقل لدى أغلب
الفلاسفة هو جوهر لامادي وغير فيزيائي لا يمتلك معايير تحديده الانطولوجية في
تبيان خصائصه المادية الفيزيائية، ويكون العقل جوهرا ماديا بالفكر المنتج عنه وليس
ماديا بالمفهوم الفلسفي المنفصل عن الجسم.
وربط بعض
الفلاسفة العقل بالنفس لإسباغ صفة خلود العقل كما خلود النفس بخلاف ربطهم العقل بفناء
الجسم ومماته، كون العقل جوهرا غير فيزيائي لا يطاله العدم بما يناقض فيزيائية
الجسم الفانية التي يحكمها العدم. وهو تفكير ميتافيزيقي يحتاج أدلة وبراهين صحة
صوابه والاخذ به..
أما فلاسفة
العقل المحدثين لعل أبرزهم جلبرت رايل (1900 – 1976) الفيلسوف الانكليزي فهو يعتبر
العقل لا شيء على الاطلاق يتعدى وظيفته أن يكون العقل استعدادا أوليا للسلوك
القصدي.. ويحاول بعض الفلاسفة الاخرين المعاصرين ربط الذكاء الاصطناعي بالعقل من
منطلق السعي لمنح الكومبيوتر ذكاءا اصطناعيا ذاتيا توليديا يجاري خاصية العقل
الانساني في الذكاء التوليدي الذاتي للأفكار.. ولكن تبقى العقبة الكبيرة أمامهم أن
العقل جوهر توليدي ذكي ذاتيا لا تستطيع الآلة امتلاكه، وأبرز خاصّية يمتلكها العقل
في الذكاء التوليدي هو اللغة التي يعجز عنها الذكاء الاصطناعي توليدها بالذكاء
الذي لا تمتلكه ويمتلكه الانسان فقط..
ويبقى الاختلاف
أن العقل الانساني جوهر لا مادي ولا فيزيائي تصعب السيطرة عليه اصطناعيا من قبل
العقل نفسه في تصنيعه العقل الاصطناعي للآلة، والعقل جوهر ذكي مستقل ميزته الاولى
توليده أفكار اللغة على خلاف كل من الجسم والآلة اللذين يفتقدان هذه الميزة
ويكونان بالنتيجة لا جوهرين ذكيين يجاريان العقل الطبيعي غير الفيزيائي، بمختصر
العبارة العقل هو مجموع توزّعات الذكاء القصدي في السلوك الانساني والحياة.
أسبقية
الفكر على اللغة؟
أذا أخذنا في نفس السياق ارتباط العقل بالفكر
واللغة مقولة فينجشتين ودي سوسير وغالبية علماء وفلاسفة اللغة أجماعهم (اللغة هي
الفكر) فيكون معنا أدراك العقل للوجود والاشياء هي أسبق على أدراك العقل للفكر من
حيث أن الفكر نتاج العقل وتوليده، العقل المجرد عن ملكة التفكير بوسيلة اللغة وحده
عاجز عن تحقيق وجود الاشياء ماديا بغير وسيلة تعبير إشاري رمزي أو لغوي مفهوم
تداوليا، فمثلا عقل المجنون يفتقد وعي وجود الاشياء التي أمامه لأنه عاجز عن
التعبير لغويا عنها بعد عجزه عن أدراكها أدراكا عقليا منظمّا أولا. من حيث أن
الفكر السليم هو انعكاس تجريدي وصوري لغوي منظّم في فهم الواقع والوجود.
والعقل يسبق الفكر واللغة في أدراكه للشيء
بهما. العقل هو الذاكرة الفاعلة ومستودع الافكار ومكمن انطلاقها، لذا فأن أدراك
العقل للوجود والاشياء يسبق أدراك العقل للأفكار أو اللغة المتعالقة بالتبعية
التراتبية بالتعبير عن وجود الاشياء.
والادراك اللغوي مستمد من علائقية أدراك وفهم
العقل للأشياء. وهذا الادراك يكون قاصرا وظيفيا ما لم تسعفه اللغة كنسق منظّم في
تبيان خواص وتمظهرات الاشياء والموجودات المدركة عقليا وكذلك وجود الانسان في
الطبيعة ومحددات كينونته وجوهره.
أنه لمن المهم التذكير أن الوجود المادي للأشياء
نوعان، الاول موضوعات العالم الحسي الخارجية، والثاني موضوعات الفهم الوجداني
الخيالي التي لا تدرك حسيّا مثل الاحساسات الداخلية الناتجة عن تكوينات اجهزة
الجسم الحيوية التي ينتج عنها غرائز الشعور بالألم، الجوع، العطش، الحاجة للجنس
الخ من غرائز بايولوجية فطرية مصدرها اجهزة الحياة في جسم الانسان داخليا وهذه
غيرها المحسوسات التي يكون مصدر ادراكها العقلي خارجيا عن الاشياء والموجودات في
الطبيعة المنقولة عبر الحواس..
العقل والاشياء:
إدراك العقل للوجود والاشياء أدراك ناقص ولا
فاعلية له من دون مدركات اللغة التعبيرية الإفصاحية عنه كموضوع. الوجود يتم أدراكه
عقليا عن طريق الحواس كموضوعات مستقلة فقط قبل أدراك اللغة لها، الموجودات من غير أدراكها
لغويا وجود مكتف بذاته يفتقد الحيوية والفاعلية والتأثير، والوجود لا يدرك مباشرة
كونه مفهوم مجرد بخلاف محتوياته وتكويناته من الموجودات المادية.
اللغة كشف أدراكي عقلي للأشياء والموجودات، والوجود
الواقعي لا ندركه أدراكا واعيا حقيقيا في تجريدنا أدراك اللغة له، ومن غير الادراك
العقلي وتزامن الادراك اللغوي معه تصبح معرفتنا للوجود قاصرة غير منتجة ولا صحيحة
ايضا.
وتعجز أية فكرة مدركة عقليا، أن يكون أدراكها
مثمرا تواصليا منتجا من غير أدراك اللغة لها تداوليا تواصليا، والفكرة التي لا
تستوعبها اللغة بأرقى درجات التعبير التواصلي تبقى ناقصة ومشوّهة كفكرة أدركها
العقل ولا يستطيع البوح بها ومقيّدة لا تستطيع التعبير عن نفسها وسط وجود الأشياء.
العقل بلا لغة تفكير جوّاني أعزل، واللغة من
غير وصاية تفكير العقل عليها لا يمكنها التعبير عن نفسها، فاللغة بلا موضوع لا
قيمة لها.. والعقل من دون تعبير اللغة يبقى تفكيرا صامتا لا نستطيع فهمه فهو غير
مدرك الا من صاحبه فقط..
أن أهمية أدراك الشيء والتواصل به ومن خلاله
ومعرفته لغويا، هو أكبر من أهميته كمدرك عقلاني (موضوع) مكتف بذاته خارج فاعلية وأهمية
اللغة له، اللغة بعد العقل هي المتعيّن الوجودي لجميع الافكار في أن تكون تداولية
تواصلية ذات حيوية وأثراء نافع للحياة، والوجود من غير وسيط اللغة كتعبير دلالي لا
روح ولا حيوية فيه.
الهوامش
1.امبرتو ايكو، التأويل بين السيميائيات والتفكيكية، ت:سعيد
بنكراد ص 18
2. المصدر نفسه ص 15
3.المصدر نفسه ص 18
4. المصدر نفسه ص 19
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية
0commentaires:
إرسال تعليق