وعي الذات بين الوجودية والفينامينالوجيا

وعي الذات بين الوجودية والفينامينالوجيا
06 شتنبر 2019      



د علي محمد اليوسف/ الموصل
              



      توطئة
تناولنا في مقالة سابقة متعالقة مع عنونة هذه الورقة مفهوم الوعي الفلسفي عند ديكارت مرورا بهوسرل وهيدجر وسارتر وكذلك ميرلوبونتي، وناقشنا بتفصيل غير مسهب مفهوم الوعي بذاته في الموجودات غير العاقلة واختلافه الجوهري عن الوعي الخالص عند الانسان كما طرحه سارتر، وعلاقة الوعي التبادلي التواصلي الحواري بين الناس كنوع.. كما تناولنا تعالق الوعي بكل من اللغة والصمت، ونستكمل في هذه المقالة جوانب أخرى تهم محتوى هذه الورقة البحثية التي يعتبر وعي الذات من المباحث الفلسفية الاشكالية التي شغلت الفكر الفلسفي عصورا طويلة ولا زال المبحث بحاجة الى معالجات من زوايا رصد جديدة لعلنا نكون موفقين في مقاربة تفسيرية توضيحية لبعض تلك الرؤى..
 وعي الذات بين هوسرل وسارتر
 نرى وجوب عقد مقارنة بين عبارة ميرلوبونتي التي ناقشناها من وجهة نظرنا في جزء سابق من هذه الورقة قوله (أنه لا فكر خارج العالم أو الكلمات) وعبارة سارتر ذات العلاقة (أن الوعي الخالص هو فينامينولوجيا جامعة تذهب الى ما يقصد اليه الوعي من أشياء ). (1) ولنا هنا وقفة حوارية أوسع في هذا المجال.
ميرلوبونتي في عبارته لم يكن موفقا في اشتراطه سببيا الجمع بين الفكر في العالم الخارجي ومثله في الكلمات كتعبير صامت في الذهن أو في إفصاح معبّرا عنه باللغة في أدراك ومعرفة الأشياء في وجودها المادي الخارجي...
الفكر في الذهن داخل العقل هو غيره الفكر المعبّر عنه في إدراك العالم الخارجي خارج العقل بلغة تواصل قد تكون اللغة التداولية المعهودة أو تكون غيرها من وسائل التواصل التي تعتمد حركات الجسد الإيمائية الموحية.. الفكر داخل الذهن هو تفكير تجريدي لا يعوّل كثيرا على تعبير اللغة.. والفكر خارج العقل هو تفكير لغوي ناجز في تعبيره عن المدركات في وجودها الخارجي المستقل... وهنا بضوء تأويلنا معنى عبارة ميرلوبونتي يكون تداخل الفكر بالعالم الخارجي هو إفصاح تعبيري لغوي مرة أو إفصاح تواصلي غير لغوي مرة أخرى بغية إثبات إدراك وجود الأشياء ومعرفتها، فليس باللغة المنطوقة أو المكتوبة فقط يتم التعبير عن الموجودات المدركة عقليا المادية منها والخيالية.. فالصمت والحركة لغتان تواصليتان سيميائيا موحيتان بالمعنى التواصلي المطلوب أيضا لكنهما غير منطوقتين ولا مكتوبتين بتعبير اللغة... أما أن الفكر لا يكون خارج الكلمات حسب تعبير ميرلوبونتي، فهو خطأ في الفكر قبل خطأ تعبير اللغة المخاتل، ناقشنا عدم صحته في سطور سابقة من الجزء الأول، أذ يمكن أن يكون الفكر خارج الكلمات المنطوقة والمكتوبة، في فعالية العقل التفكيرية بالأشياء والمواضيع تجريدا خياليا مثل الفكرة الصامتة في الذهن المستمدة من الواقع الخارجي أو من واقع التخييل من مصدره الذاكرة، أو التفكير الصامت المعبّر عنه في إيحاءات وإيماءات وحركات الجسد الذي لا تلازمه اللغة أو الكلمات المنطوقة ولا يحتاج ملازمة اللغة التعبيرية عنه وإنما يحتاج صور الأشياء المفكر بها وترجمتها بلغة الجسد إيحاءا تواصليا حركيا في حمولته المعنى اللامحدود ...
واستحالة انعدام الكلمات يكون عندما يراد التعبير عن الأشياء والموجودات تواصلا اجتماعيا في تبادل الأفكار بلغة الكلام الشفاهي لمعرفة الواقع المدرك الذي هو موجودات العالم الخارجي حيث تكون الكلمات وسيلة تواصل وحوار من دونها يبقى إدراكنا للأشياء حبيس الذهن فقط. وما يتعلق بلغة الجسد وفعالية الذهن المفكر الصامت فلا تمتلك لغة الكلمات تلك الضرورة في وجوب حضورها.. فالذهن لا يفكر بالكلمات التعبيرية عن المدركات بل يفكر بالأفكار وصور الأشياء المتمثلة فيه.. ومن المفارقة المعقدة في تفكير الذهن التجريدي أنه لا يمكن التفكير بصور الأشياء وتمثلاتها تجريديا داخل الذهن من غير اقتران ذلك باللغة الصامتة.. وبهذا المعنى تكون اللغة هي الفكر حسب تعبير ريكور وبالعكس أيضا.
سارتر والوعي الخالص
أما مفهوم سارتر أن الوعي الخالص هو ما يقصده الوعي من أشياء، هو وعي إدراكي قصدي غرضي هادف كما هو عند هوسرل، فسارتر أراد بهذه العبارة التوفيقية إخراج الإنسان من عدمية الوجود إلى نوع من الوعي المطلوب وجوديا هو الوعي (لذاته) بدلا من الوعي الخالص الذي هو الوعي السلبي بذاته إلى وعي مفارق إيجابي هو الاندماج في الكليّة المجتمعية بحرية مسؤولة، كي لا يخرج سارتر عن فهم هوسرل للذات المشروطة بالقصدية والهدف المسبّق للإدراك بالذهن.... ويلتقي مع فهم هيدجر أيضا أن وعي الذات يمتلك ديناميكية شغّالة تربطها بالأشياء والعالم الخارجي في تخارج جدلي مفروض على الوعي الذاتي الوجودي. ونجد من نافل القول هنا الإشارة أن وعي الذات عند الفيلسوف الأمريكي جون سيرل هو السعي لإشباع قصدي يحتاجه الشخص المدرك لوعيه الذاتي ولموضوعه.. وهذا الإشباع نوعان: إشباع غريزي بيولوجي وإشباع قصدي معرفي..
إن الوعي (الخالص) الذي قصده سارتر يبقى في تناقض واضح مع مفهوم ميرلوبونتي أن الوعي لا يوجد خارج كلمات لغة التعبير، بل وجوده مفروض عليه أن يكون جزءا من العالم الخارجي وفي الطبيعة وفي المجتمعية الانسانية أمر لامجال الغنى عنه... الوعي الخالص الذي قصده سارتر لا يتحدد وجوده في صمت اللغة في إدراكها الأشياء والموضوعات تأمليا تجريديا خياليا في الذهن... الوعي الخالص أن لا يكون الانسان نومينيا، أي أن لا يكون وجودا (بذاته) فقط مثل وجود صخرة أو شجرة أو نهر الخ. الوعي الخالص الذي أراده سارتر عند الانسان هو الوعي الذي يتسامى فوق مدركات وقدرات الشخص العادي الذي يعيش حياته بالاندماج في الكلية المجتمعية ويتناسى حقيقة وجوده الأصيل كما يرغب هيدجر، لذا يعتبر تحقق الوعي الخالص استحالة انطولوجية أبعد من التجربة الصوفية لا يمكن للإنسان بلوغها ولا يمكنه الافصاح عنها، الوعي الخالص هو فوق مرحلة صوفية غير متحققة في الطموح والتجربة والتطبيق ولا يمكن تحققها بالحياة الواقعية والعملانية.. لذا أشار سارتر إلى صرف النظر عنه - عن الوعي الخالص -  حاله كما في دعوته وجوب مغادرتنا أنا أفكر لديكارت ....
سارتر في فلسفته العدمية السوداوية أراد إنقاذ وتدارك الوجودية أن تميت الانسان ألف مرة وتقعده عن ديناميكية الحياة، وهو منعزل عن الآخرين الذين هم الجحيم، لذا عمد إلى مهادنة الماركسية والفلسفات المثالية في البنيوية في إقراره الصاغر بأن الوعي الخالص لا ينطبق على وجود إنساني الا بانتسابه لمنظومة اجتماعية تحتويه شاء أم أبى ذلك.. متغاضيا سارتر عن حقيقة أن الوعي الخالص لا يمكن تحققه في مجتمعية تحتويه بل في انفرادية تمايزية سلبية عن غيره يعيشها بشل قدراته إراديا في فهمه العميق لا جدوى ولا معنى الحياة.... ولا يمكن تحقق الوعي الخالص إلا في مدركات عقلية منفردة لا علاقة تربطها بالمحيط المجتمعي.. وفي هذا استحالة وجودية.. للموجود/ الدزاين على حد تعبير هيدجر..
يدرك سارتر جيدا أن الوعي الخالص في محاولة وعي الانسان لذاته خيالا عقليا مجردا عن أي انتماء أو موضوع يتخارج معه هو محال واستحالة لا يطيقها الإنسان فقال عبارته الشهيرة (يتوجب علينا مغادرة أنا افكر إذن أنا موجود)، وأدرك هوسرل قبله هذه الحقيقة قائلا وعي الذات يقترن ب(قصدية) كما أدركها بعده هيدجر قائلا وعي الذات الحقيقي يقترن ب(الديناميكية) في وجود الذات متحققة - في - عالم.
ما عدا فلاسفة المثالية، جميع فلاسفة الماركسية والوجودية والبنيوية باستثناء فيلسوفا التفكيكية والعدمية ( جاك دريدا، وجياني فاتيميو) خرجوا على الكوجيتو الديكارتي، في إقرارهم صاغرين بأن التفكير عقليا في صمت اللغة كوسيلة إدراكية لا يمكنها تحديد أو فهم الوعي الخالص، بمعزل عن اقتران ذلك الوعي بهدف يجعل منه جزءا من منظومة اجتماعية وجودية تعيش الحياة بأي شكل من الأشكال... لكنهم ابتدعوا مثالية ابتذالية جديدة (تفكيكية دريدا) بما لا يقاس مع الفلسفات المثالية، تلك هي فلسفة اللغة باعتبارها معضلة مركزية يتوقف عليها حل جميع إشكاليات الفلسفة التي كانت اللغة سببها في سوء استخدامها متناسين أن قصور وعجز فكر الفلسفة كتفكير منطقي تجريدي هو المبتدأ والمنتهى، واللغة في كل الاحوال هي وعاء الفكر الذي لا تمّثل اللغة كل الفلسفة فيه ولا يمثل الفكر كل اللغة أيضا...خطأ الفكر يسبق خطأ اللغة من حيث أن الفكر فعالية عقلية يحتاج قالبا إدراكيا يحتويه في التعبير هو اللغة.. عليه يكون خطأ المضمون(الفكر) لا ينسحب على تخطئة (الشكل)الذي هو اللغة..
في هذا المنحى نجد هيدجر أراد أن يخرج وعي الذات من المجرد الفكري داخل منظومة العقل، إلى إثبات الوعي وجودا وكينونه في وعيه الأشياء كمتعّين أنطولوجي خارج العقل، فلا يمكن إدراك الذات من غير وعي العالم الخارجي وإدراكه ... فوجود الأشياء في العالم الخارجي لا يرتبط بعلاقة مع الفكر، من دون أن يجعل الوعي منها وبها تفكيرا إدراكيا لوجودها، موضوعا وكينونة متعيّنة مدركة عقليا وذهنيا في أسبقية الفكر على اللغة إن جاز مثل هذا الفصل الافتعالي بينهما... للتوضيح أكثر نقول لا يمكن انفصال الفكر عن اللغة في التعبير عن مدركات الأشياء خارج العقل في حين يكون مثل هذا الفصل الافتراضي واردا في معالجة العقل للأشياء ذهنيا داخله في صمت اللغة وفي تفكير الذهن صوريا لا لغويا تعبيريا في وصف مدركاته معرفيا..
سارتر وميرلوبونتي ولغة الصمت
إن الانسان العاقل يفكر ذهنيا وهو صامت، ويفكر صامتا وهو نائم، ويفكر صامتا وهو حالم، والصمت لغة حوار العقل اللاشعوري مع ذاته داخليا في الموضوعات على اختلاف تنوعاتها، فالعقل لا يفكر في فراغ – سنوضح هذا لاحقا – ويكون تفكير الصمت بلا لغة تعبير تواصلي إفصاحي إيحائي لا يشترط توسّله اللغة ممكنا وجودا، عندما يكون الصمت هو تفكير في موجودات مادية واقعية تكون مادة تفكير صامت خياليا مستمدا من مخزون الذاكرة في معرفتها، أو أن مواضيع التفكير الصامت الخيالية مستمدة من انعكاس وجودها الواقعي بالذهن في وجودها المادي  كمتعينات في الواقع المحسوس والمدرك، ويتناولها العقل بالتفكير الذهني المجرد، والصمت الذي يفكر بموضوعه سواء المادي أو الخيالي لا يلغي دور العقل أو لا يستطيع الاستغناء عن الوظيفة العقلية في الوعي والتفكير بالأشياء... إن وظيفة العقل في التفكير بالمجردات الذهنية خياليا أرقى درجة نوعية منها التفكير في الموضوعات المادية التي يعقلها العقل كواقعات مادية ويدركها ظاهراتيا أو ماهويا كموجودات مادية في الطبيعة.... فالعقل في ملازمته الخيال ورقابته على اللاشعور وتداعيات التصورات الذهنية تكون مهمته أصعب من مهمة العقل في تناوله الماديات والموجودات والأشياء في الطبيعة، لكي لا ينتج عن التفكير الخيالي الذهني المجرد أصوات وهذاءات تعبيرية لا تعطي المفكّر به من موضوعات مادية أو مجردة خياليا استحقاقها الواعي الادراكي كما لا تعطي الهذاءات غير العقلية وعي الذات مصداقيتها في الإدراك.
اللغة خاصية الإنسان كنوع
يقول سارتر: ( إن مسألة اللغة تسير جنبا الى جنب مع مسألة الجسم)(2)، وهي عبارة سليمة في توكيد بديهة بايولوجية فيزيائية، أن اللغة لا تفارق جسم الانسان العاقل الناطق باعتبارها خاصية إنسانية أنثروبولوجية يتمايز بها الإنسان كنوع ويحتازها عقله لوحده من دون الكائنات الحية في الطبيعة... الإنسان وجود لغوي ينضح بإنسانيته قبل أي خاصية أخرى  يحتازها الانسان ولا يمكنه الافصاح عن وجوده الفاعل بالحياة كما تفعله اللغة..
ويقول ميرلوبونتي (الكلمة أيماءة حقيقية لأنها تحمل معناها, وليست عشوائية أو طبيعية ) (3)
الانسان في جنبة محورية جوهرية من كينونته الطبيعية هو أنه وجود عقلي مفّكر لغوي تواصلي ... فالإنسان يفكر وهو يتكلم ويفّكر وهو صامت ويفّكر لا شعوريا وهو نائم، ويفكر وهو في حلم اليقظة، ويفكر وهو ماشيا لوحده أو مع مجموع... وفي كل حالات الصمت يحتاج الإنسان التعبير اللغوي أو الكلامي ألشفاهي عن بعض الأشياء والموضوعات مادة تفكير الذهن، ويكتم أو يستعصي عليه التعبير عن بعضها، أو يتعّذّر عليه الافصاح التواصلي في بعضها الآخر. إذن الإنسان وجود مفكر في صمته وفي الإفصاح أو الإحجام عن بعض تفكيره الصامت في الكلام أو اللغة أو الكتابة... والانسان هو كينونة عقلية إدراكية تفكيرية، ولغوية ناطقة، وخيالية تجريدية، تحتويها كل خصائص الإنسان المادية وجودا... والإنسان كائن لغوي في وجوده الانثروبولوجي الفاعل...
يقول ميرلوبونتي (إذا كانت اللغة كيان باطن، فان هذا الباطن ليس فكرا مغلقا على ذاته وواعيا بها).(4) إنه لمن المهم إدراكنا أن اللغة في التفكير الباطني العقلي أي الصامت داخليا، هي وسيلة العقل أن يعقل نفسه ووسيلة العقل في وعي الاشياء المادية وغير المادية أي الخيالية تجريدا ذهنيا...كما أن العقل هو الوسيلة الوحيدة في إدراك وعقلنة وفهم الوجود الخارجي ولا بديل عنه...أما أذا بقي هذا الإدراك العقلي منغلقا على العالم الخارجي، في عدم إدراك تواصله الجدلي مع الاشياء والموضوعات، فهنا يصبح الانسان كيان لغوي حواري داخلي صامت فقط ومفارقا في صمته لجوهر إنسانيته الاجتماعية، وهو محال أن يكون وضعه هذا دائميا بالنسبة لإنسان سوي عاقل وناطق أيضا سواء يعيش منعزلا أو يحتويه مجتمع... ومحال أيضا أن يكون الإنسان خارج طبيعته بخصائصها الإنسانية، أن لا يوجد ويكون جزءا من الطبيعة متفاعل تواصليا مع مظاهرها ومكوّناتها، لا أن يكون كيانا مفكرا بذاته فقط، منعزلا عن واقعه ومحيطه الاجتماعي. ولا في تعطيله لغة الحوار التواصلي مع الآخر.
الصمت حوار لغوي في تعطيل لغة التواصل المنطوقة او المكتوبة
الصمت الإنساني هو حوار لغوي داخلي يعمل في الذهن البشري المفكر، بينما يكون صمت الحيوان (عدما) غير متعيّن لا عقليا ولا ذهنيا ولا تفكيرا منطقيا ولا تعبيرا لغويا... فهو صمت يغيب عنه تفكير العقل المعقد بخلاف الانسان... وفي عجز الحيوان الصامت أن يكون صمته تفكيرا خياليا تجريديا محكوما بوعي زماني ومكاني، كما عند الانسان حيث يقوم العقل ومن ثم اللغة على تنظيم ذلك التفكير الخيالي في وعيهما أدراكات الزمن... في هذا تكون علاقة الانسان بالطبيعة إثراءا لوجوده المتطور، وبقيت علاقة الحيوان بالطبيعة إفقارا لوجوده الحيواني، وكذا مع موجودات النبات في الإفقار التدريجي الذي يقود الى اختلال بيولوجي مفزع في الطبيعة يقود إلى انقراض العديد من الكائنات الحيوانية والنباتية، ومن هنا كان الانسان كائنا وجوديا مستقبليا، أي يفكر بالزمن المستقبلي بما لا يتوفر للحيوان ذلك الا مع تدّخل الانسان بالطبيعة في جعل الذئب يرعى مع الغنم عندما تنتفي الحاجة الى القتل والافتراس الحيواني لإسكات الجوع في محميات الحفاظ على التنوع البيئي الطبيعي... في قانون وضعي لم تألفه الطبيعة هو التطبّع يروّض الطبع.
لغة التعبير الفني مثلا في النحت والرسم وفي جميع جماليات الفنون التشكيلية، هي أيضا لغة حوار داخلي صامت معبّرا عنه بوسائط توصيل هي غير لغة الكلام أو الكتابة... وتكون لغة الحوار التواصلي في الفن حالة كمون يستنطقها الانسان المتلقي للفن والجمال ويفهمها حسب ثقافته وتكوينه النفسي والجمالي...واللغة الصامتة بالفن منتج عقلي للفكر المتداخل مع تداعيات اللاشعور...أما لغة التعبير الانساني الكلام أو اللغة المكتوبة فهي منتج مصنع الحيوية العقلية الانسانية المتفردة خياليا أو فكريا تواصليا, وبذلك يصبح الانسان كائنا لغويا يفكر وهو صامت وفي مخياله حضور وعي الزمن كتحقيب ماضي وحاضر ومستقبل... وهذا النوع من الإدراك بالزمن والمستقبل لا يتوفر عليه الحيوان. فالحيوان لا يعي الزمن لا فوضويا ولا منتظما مثل الانسان، حتى وأن كان هذا الوعي الزمني يمارسه الانسان افتراضا وجوديا استدلاليا لا غنى عنه في إدراكه ومعرفته الاشياء في وجودها المكاني..
من الملاحظ أن الزمن المدرك حدسيا لم ينّظم هو حياة الانسان من الفوضى الزمنية التي يستتبعها حتما فوضى الوجود والحياة، كما أن الزمن بعلاقته بالإنسان لم يكن هو منّظما لحياته.. وإنما كان تنظيم الانسان لحياته مستمدا من تنظيم الانسان للزمن إدراكيا بدءا من اختراعه توقيتات الثانية والدقيقة والساعة وليس انتهاءا بتحقيب الزمن تقويميا في توالي الليل والنهار وتقويمات السنة والفصول الاربعة وهكذا..
وعي الذات والصوفية
الإنسان كينونة فينومينولوجية من ذات وظواهر.. وماهيته وجوهره المعبّر عنها في جميع صفاتها وكيفياتها تجعل من الانسان كائنا متمايزا في هوية جوهرية ماهوية مستقلة، وفي هذه الخاصية يتأكد استحالة الاتحاد الانساني غير القابل للتسوية بين الوجود في ذاته (الانسان)، والوجود بذاته (الله)، ومثال هذه الاستحالة تتمثل في محاولة الصوفية الاتحاد الانجذابي الاتحادي المؤقت بين الله الذي هو وجود افتراضي (بذاته)، مع الانسان الذي هو وجود (لذاته) في كيان مادي ماهوي متعيّن، الله كيفية افتراضية لا يمكن اتحادها بكيفية إنسانية مغايرة مادية هي الانسان. والله كائن نوراني خارج محدودية قوانين الطبيعة. المكان والزمان لا يدرك عقليا وغير متعيّن ماديا بالنسبة لإدراك الانسان في محدودية أدراكه في اللانهائي الكوني... وفي هذا الفارق الجوهري الكبير ممثلا في تغاير (كيفيتين) أحداهما روحانية لا يدركها عقل الانسان والاخرى مادية تتمايز ماهويا ذاتيا عنها، كما تتمايز بعلاقتها مع قوانين الطبيعة التي يتحكم بها مطلق الزمان ولا محدودية المكان...وبهذا فالإنسان كيفية لا تلتقي الا مع كيفيات أخرى تشترك معها بالصفات الجوهرية المادية من نوعها تتجانس معها في كل أو بعض الصفات والماهيات ضمن ضوابط قوانين الطبيعة...لذا يكون الادعاء الصوفي في الحلول أو الاتحاد بالذات الالهية حتى على مستوى الجوهر والماهية باطلا وعجز لا يمكن التغلب عليه..
وعي الذات جماليا
لغة التخييل الانساني هو قسمة مشتركة بين وعي ذاتها ووعي المدركات المادية وغير المادية الخيالية، كذلك مفهوم الخيال في وعي الانتاجية الفلسفية أو الجمالية، وفي نظم الشعرية الادبية والنثرية الفنية، وفي أية فعالية فنية جمالية ينتجها الانسان ويلعب الخيال الفاعل دورا مهما فيها، وفي مجمل الفنون التشكيلية والنحت والجماليات وغيرها، كذلك الحال في إبداعات الاجناس الادبية الشعر والرواية والقصة ومختلف السرديات التي تعبر عن جماليات الادب والفنون عامة... في كل ما ذهبنا له يكون الخيال اللاشعوري المنتج حاضرا.
رغم أني في عدة مقالات منشورة لي تناولت فيها علاقة التعبير اللغوي كقاسم مشترك يتوسط التعبيرين الفلسفي والشعري، الا أني أجد في نهاية هذه الورقة المرور السريع بهما... فالشعر بخلاف فلسفة افلاطون القريبة لغتها من الشعر، أكثر أنواع التعبير الانساني الذي يتعالق تواشجيا ارتباطيا بالتعبير الفلسفي كما يذهب له نيتشه وهيدجر وغيرهما.
لغة الخيال العقلي غير الانفصامي المرضي المنتج، هو قسمة مشتركة بين الفلسفة والشعر باختلاف أن لغة التعبير الفلسفي تلتقي بالشعر في ناحية أنها أيضا تتعامل بمنطق التعبير اللغوي التجريدي الذي يتداخل فيه الخيال مع الفكر، لكن التعبير الفلسفي التجريدي لا يلغي هيمنة العقل ورقابته الصارمة، على العكس من الشعر الذي يطغى فيه الخيال وتداعيات المنطق اللاشعوري في تهويمات اللغة، في الخيال اللاشعوري تكون اللغة متراخية غير متماسكة.. لأنها لا تتوّسل العقل في التنظيم اللغوي بل تعتمد تهويمات الخيال، ولا يستدعي الشعر العقل في لجم الخيال المتداخل في جوهر منطق التعبير الشعري الذي ينتهك اللغة المنظمّة ويعمل على جعلها لغة تهويم خيالي لا محدود ولا مدرك يخرج باللغة عن مألوفيتها التواصلية التداولية في ابتداع لغة خاصة خارج التنميط التواصلي العادي. في وقت ترى الفلسفة لغتها التعبيرية في حضور صرامة العقل على التفكير الفلسفي أن تكون صياغة الافكار فيها تقترب جدا من صرامة منطق العلم ورياضيات التفكير.
الفلسفة في خروجها عن التنميط اللغوي التواصلي، تذهب باللغة الى مجاهل الفهم الاستعصائي على التلقي المباشر، فهي تستدعي العقل في رقابته الصارمة أن لا يخرج التعبير الفلسفي العقلي، عن منهجية اللاشعور في غلبة الخيال في أنتاج تعبير اللامعنى وإعدام نظام اللغة التقليدي التواصلي كما في الشعر.
أؤكد ما سبق لي ذكره أن عبقرية اللغة سابقة على عبقرية الفكر، كما أن جمالية اللغة أسمى من جماليات التعابير الاخرى التي لا تتوسل اللغة قيمة عليا في التعبير. رغم أن تراتيبية إنتاجية العقل للغة لا يسبق إنتاجية العقل للفكر. وفي حال صمت الإنسان، تكون اللغة هي الفكر ولا تفريق بينهما خارج الذهن كما لا تفريق بينهما داخله أيضا. فاللغة هي الفكر داخل العقل وخارجه في ترابط لا انفكاك بينهما.
واللغة والفكر حوار داخلي غير مفارق ولا معلن، وكذلك هما خارج العقل حوار عقلي معلن لا انفكاك بينهما في استحالة فهم أحدهما بمعزل عن الآخر. اللغة والفكرة تعبير واحد عن موضوع ملازم واحد في زمنية لحظوية محسوبة واحدة، ويفترقان – الفكر واللغة -  عن الخيال العقلي المنتج لهما، وفي التمايز الدلالي بينهما، متى ما أصبحت الفكرة واقعا ماديا دلاليا معبّرا عنها بلغة يدركها المتلقي في ظاهرياتها، أو بما تستبطنه الفكرة من دلالات تحمل فائض المعنى بلا نهاية قرائية استقبالية للنص.
الهوامش
1.     ميرلوبونتي نقلا عن جعفر عبد الوهاب /الفلسفة واللغة ص 58
2.     نفس المصدر السابق ص 58 ايضا
3.     نفس المصر السابق ص 127
4.     نفس المصدر السابق ص 61




تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس