الوعي القصدي في فلسفة جون ر. سيرل


                
                   الوعي القصدي في فلسفة جون ر. سيرل
  علي محمد اليوسف                                                                    22 غشت 2019
تعريف اولي
منذ القرن السابع عشر عصر ديكارت أخذ مبحث (الوعي) في الفلسفة اهتماما استثنائيا في أعقاب أطلاق كوجيتو ديكارت أنا أفكر.... الذي كان قمّة الوعي الذاتي المثالي في جعل الواقع الخارجي وجودا لا أهمية له في امتلاك الوعي الفردي القصدي لمعرفة الذات ..
 في أعقاب مجيء فلاسفة عديدين على مراحل زمنية متباعدة ظهر الفيلسوف  برينتانو بمقولته (أن اللاوجود القصدي هو ككل هدف قصدي موضوع ومضمون مختلفان) وسنجد تأثيرهذه العبارة على سيرل... ليعقب – برينتانو -  تلميذه هوسرل مستعيرا قصدية الوعي منه في شرح معنى أدراك الذات على أنها إشباع لوعي معرفي هادف في شيء محدد مقصود  سلفا في وجوب الادراك بلوغه... وبذلك تأثر تلميذه من بعده، هيدجر في اعتباره الوعي القصدي هو نتاج الواقع المادي الذي لا يكون له معنى ما لم يكن وعيا ديناميكيا– في – عالم مؤكدا أهمية الوجود المجتمعي ومقصّيا وعي الفردية الذاتية في سلبيتها، وجاء سارتر ليتوّج ذلك في الوجودية أن الوجود سابق على الوعي به ليلتقي بالفهم المادي الماركسي من غير رغبة منه بذلك وإنما مكرها لخلاصه من مثالية ديكارت الذاتية المقفلة في علاقة الأنا بكل من الفكر والوجود... وخروج سارتر لاحقا على الماركسية نفسها في جوانب فلسفية خلافية عديدة أفادت منها الفلسفة البنيوية كثيرا في نقدها القاسي للماركسية لدى كل من التوسير، وشتراوس، وفوكو، وبياجيه... وغيرهم.
الفيلسوف الأمريكي المعاصر جون سيرل ناقش موضوعة الوعي والقصدية من منطلق مغاير تماما هو تعالق فعاليات اللغة والعقل والوعي والقصدية وحاسة البصر والاشباع والشخصانية في تحقق تجربة الإدراك بما أطلق عليه فلسفة العقل واللغة وهو مبحث تخصصه الفلسفي... وكان سيرل أبرز الفلاسفة المعاصرين الذين تناولوا دور القصدية في الوعي بتعالقها مع كل من الإدراك الذاتي واللغة والعقل، وكان في فلسفته قريبا من فيتجنشتين الذي اعتمده في بعض طروحاته في فلسفة اللغة، مبتعدا عن جاك دريدا الذي فهم اللغة فهما تجريديا جعلها تدور في فلك التقويض غير الهادف لتحقيق فائض المعنى، وأعتبر اللغة على أنها كلمات في ترتيب معيّن مجّرد عن نيّة وقصدية المتكلم، مؤكدا سيرل قدرة العقل على تمّثل الأشياء، وأن جميع الحالات القصدية إنما هي سعي نحو شيء معين نتمّثله إدراكيا... وبهذا الفهم الوظيفي القصدي للعقل واللغة خرج سيرل تماما على مقولة دريدا الذي يفهم التفكيك اللغوي كنظام استراتيجي من التقويض والهدم المستمر في تناول النص اللغوي بمعزل عن أية علاقة له بغيره... وفي إلغاء دريدا مبدأ الإحالة على أيّا مما أطلق عليه المرجعيات الميتافيزيقية الثابتة التي يأتي في مقدمتها الغاء هيمنة العقل باعتباره من سرديات ميتافيزيقا الحداثة الواجب مجاوزته كما بشّرت به ما بعد الحداثة لاحقا لتفتح الطريق واسعا أمام استهداف البنيوية لمرتكزات الحداثة في العقل ومركزية الانسان وما أطلق عليه السرديات الكبرى من ضمنها الماركسية... وتبنى دريدا هذه المباحث في التفكيكية بتطرف لغوي لا يزال مثار جدل واسع....
جون سيرل وقصدية الوعي
يذهب سيرل أنه استنادا إلى تقليد معرفي في الفلسفة المثالية فرضية خاطئة معتمدة تلك هي أننا لا يمكننا إدراك العالم الحقيقي بصورة مباشرة، وهي تشبه محاولة شخص تطوير علم الرياضيات على افتراض عدم وجود الأرقام.(1)
بضوء ما مر بنا في عبارة سيرل أن أدراك العالم الحقيقي لا يتم عبر الاحساسات المنقولة للدماغ بصدقية يعتمدها الادراك العقلي المباشر وهو طرح سليم ودقيق، ومن هنا يكون الادراك العقلي منقوصا ويفقد الواقع الحقيقي كموضوع للإدراك الكثير من مزاياه، هذا من جهة... من جهة أخرى يتمّثل عدم امكانية معرفة الواقع على حقيقته في تعّذر الإدراك الحقيقي المباشر له، أن وسيلة العقل الادراكية للعالم الخارجي تقوم أساسا على تأطير صادرات الإحساسات المنقولة الى الدماغ بزمن إدراكها الذي يجعلها متعيّنا مكانيا – زمانيا في بنية واحدة لا تنفصم، وبغير هذه الآلية يتعذّر على الإدراك العقلي أن يكون واقعيا وسليما في أدراكه الأشياء المنّظم  فكريا بعيدا عن الإدراكات الهلاوسية الناقصة، فجوهر الادراك هو الوعي بموضوع يأتي الدماغ ويستلمه عبر منفذ الحواس، أي بمادة خام يكون مصدرها بالنسبة للعالم الخارجي الحواس والزمن الذي يحتويها وجودا، أو بالنسبة لموضوع الخيال المستمد من الذاكرة تأمليا أسترجاعيا في فعالية ذهنية تجريدية لا يكون فيها الموضوع متعّينا وجودا في عالم الاشياء.. وبخلاف هذين الآليتين لا يكون هناك إدراك سليم للواقع الحقيقي يعتمده العقل أو الدماغ تحديدا.. ويبقى الادراك القصدي ناقصا تماما في تعّذر إدراك العالم الحقيقي مباشرة بفهم يمّكن العقل من معالجته لمواضيع إدراكاته بالمقولات التي تجعل من المدركات مواضيع معرفية وليس مواضيع إشباعات بيولوجية خالصة.. ويوجد فرق بين الادراك المعرفي والادراك الغريزي يتضح معنا لاحقا أكثر..
إننا نفهم الوعي المثالي المتطرف عند كل من بيركلي وهيوم وجون لوك في اعتبارهم موضوعات العالم الخارجي ما هي سوى انطباعات في الذهن وأفكار العقل المجردة، وأنكر بيركلي وجود المادة ليتبعه هيوم بتطرف أكثر في الغائه العقل ونظام السببية معتبرا إياها خبرة متراكمة تجريبية يتعوّدها العقل بالتكرار المستمر ليجعل منها قانونا يحكم نظام الاشياء في العالم الخارجي والطبيعة..
وينتقد سيرل ديفيد هيوم حول مفهوم السببية بشراسة قائلا ( في الفلسفة التحليلية عانت المناقشات حول مفهوم السببية تقليديا من المفهوم الهيومي –نسبة الى هيوم – القاصر على نحو سخيف، فمن هذا المنظور التقليدي تكون السببية دائما علاقة بين أحداث منفصلة تعمم قانونا، وأما العلاقة السببية وهي العلاقة الضرورية فلا يمكن معايشتها أبدا، هذا الرأي غير كاف فنحن نعيش في بحر من السببية التي نعايشها بصورة واعية، وعلى العكس تماما في كل مرة تدرك فيها أي شيء أو تقوم بأي شيء عن قصد فانك بذلك تمارس وتشهد علاقة سببية )(2)
والصحيح أيضا أن العقل وتحديدا وسيلته الادراكية الحواس والدماغ لا يتعامل مع مواضيع مدركاته المادية أو الخيالية الا بتجريد فكري تصوري ذهني يتم داخل الدماغ، والحقيقة التي لا يجهلها العديدون أن النظرة أو المنهج المثالي هو نفسه ينطبق عليه التفكير المادي بالاحتكام كليهما الى مرجعية العقل، فالمثالية التجريبية تعطي العقل أرجحية قصوى في الادراك، ومثلها وربما أكثر تنحو المادية في اعتمادها العقل كمنهج وحيد في المعرفة العلمية والحقيقية....اشتراك كل من الفلسفتين المادية والمثالية في مرجعية العقل في اختلاف جوهري لا يمكن طمسه أو إغفاله، فالمثالية تعتمد العقل في إنتاجه الواقع المجرد فكريا بالذهن، بينما المادية تعتمد العقل انعكاسا للوجود المادي لعالم الاشياء فيا انتاجية الفكر المتعالق جدليا مع الواقع بعرى وثيقة من الديالكتيك المتخارج بينهما.. ولا وجود مادي مدرك لا يتعالق مع فكر إنساني...
لكن يبقى العقل في أي نوع من التفكير الادراكي والمعرفي بحاجة الى متعّين مادي يكون مادة خام لوعيه الادراكي يمثّل موضوعه.... وهذا ما تتوفر علية الاشياء في عالم الموجودات الواقعي عبر الحواس أو عالم الموضوعات في وجودها الافتراضي المستمد من الذاكرة التخييلية الاسترجاعية وهذا يقاطع مقولة سيرل (التجربة الواعية ليست موضوعا للإدراك، فهي في الواقع تجربة الإدراك) (3).
في هذه المقولة نعجز عن فهم محدّد ماذا يعني لنا الوعي، وماذا تعني لنا القصدية، وماذا يعني لنا الادراك العقلي، وماذا يعني لنا موضوع الادراك، فجميع هذه الفعاليات الادراكية وتوابعها تجمعها تلك المقولة في ما أطلق عليه (تجربة) الإدراك.. الوعي الادراكي القصدي يحتاج الى إشباع معرفي لمدركاته لا تنفصل عن مواضيعها الإدراكية من خلال التجربة الإدراكية لموضوعات معرفية تختلف تماما عن إشباع القصدية لغرائز إدراكية بيولوجية مثل إشباع العطش والجوع والجنس.. في هذا النوع من الادراك البيولوجي يكون الاشباع استهلاكيا بمعنى نهاية تجربة الادراك في الاشباع البيولوجي، بخلاف الاشباع الادراكي المعرفي فهو يدّخر خزينا استراتيجيا معرفيا في الذاكرة..
التجربة الإدراكية في المعرفة فعالية من فعاليات العقل (الدماغ) لكن موضوع الإدراك هو في كل الاحوال شكل ومضمون (محتوى) لموجود متعّين في عالم الاشياء غير مرتهن وجوده بأهمية الإدراك العقلي له.. ولا يمكن للإدراك القصدي المباشر الفصل بين محتوى الشيء ومضمونه، فالمرتبة الاولى للإدراك هي في معرفة الشيء كوجود فينومينولوجي موّحد بصفاته البائنة الخارجية التي ربما تكون معرفتها هي معرفة ماهيّة الشيء المحتجبة خلفها... وفي نفس المعنى تقريبا فعل منهج الفينومينولوجيا في أدراك الظواهر الخارجية فينومين والماهيات غير المدركة للوجود بذاته (نومين) وجاء هذا التمييز الذي أصبح تقليديا راسخا في فلسفة كانط..
فإدراكنا وجود كرسي هو إدراك شخصاني انفرادي لموضوع يتألف من شكل ومحتوى متعيّن أنطولوجيا، ولا يوجد مضمون من دون شكل يلازمه.. كما لا يوجد شكل من دون مضمون يلازمه ويفصح عن ماهيته الانطولوجية كجوهر.. والإدراك يكون قصديا هادفا لإشباع رغبته الفطرية الغريزية أو في الاشباع المعرفي، فإشباع غرائز فطرية عند الانسان مثل الجوع والعطش والجنس هي من باب الإشباعات البيولوجية لأهداف الادراكات القصدية، وهذه القصدية الإدراكية الإشباعية أنما تكون بعفوية بيولوجية تختلف عن قصدية الادراك المعرفي للأشياء.. فالفعاليات الإدراكية القصدية الغريزية العفوية البيولوجية كما في حالات إشباع العطش والجوع والجنس وغيرها لا يكون العقل المدرك لإشباعها ملزما بتجربة أدراك قصدي هي أبعد من المتحقق الاشباعي البيولوجي لها.. وتكون القصدية هنا شخصانية مكتفية ذاتيا.. وهذه تختلف عن قصدية إشباع الموضوع غير الفطري الغريزي في الالمام بتفسيره كمعرفة خالصة تبغي معرفة الشيء المدرك بخصائصه البائنة أو ماهيته المحتجبة لما يجعله العقل خزينا معرفيا استراتيجيا في الذاكرة.. ويختلف الوعي بحقائق الموجودات في الإدراك المعرفي عنه في الاشباع البيولوجي وفي هذا النوع من القصدية المعرفية (لا يكون الوعي بالشيء وعيا حقيقيا ألا بمقارنته الشخصانية الفردية بغيره من حالات الوعي الأخرى كجزء من الوعي الشخصاني الكلّي )(4) وهذا لا يتم بغير اعتماد الخزين المعرفي الاستراتيجي في الذاكرة التي هي بنك المعلومات المكتسبة بالخبرة العقلية والتجربة... فقد تكون موضوعات الوعي هي أدراكات تتم في الذهن والخيال الاسترجاعي من الذاكرة ولا يقابلها وجود متعيّن وحضور موضوعي في عالم الاشياء (وتمثل الاحلام شكلا من اشكال الوعي المختلف تماما عنه في حالات اليقظة )(5) أي الإدراك في موضوعات الخيال المستمد من الذاكرة جميعها تعتمد الشعور المسيطر عليه عقليا بينما لا يكون الشعور حاضرا في الاحلام لذا يكون الادراك الحلمي اللاشعوري تداعيات متقطعة لا ينتظمها أدراك تحسّسي مترابط ولا زمن تنظيمي لها..
سبق لي في غير هذه المقالة أن اشرت بالفارق بين أحلام اليقظة وأحلام المنام أن الاولى تقترن بالشعور المنّظم زمنيا، والثانية هي تداعيات لاشعورية لا يقوم الزمن الادراكي بتنظيمها.. لذا تكون الادراكات في أحلام المنام ناقصة فهي تأتي على شكل تداعيات صورية ذهنية متقافزة تتخللها قطوعات تفتقد الزمن الإدراكي المنتظم لها مما يجعلها عسيرة على الفهم القائم على الوضوح الادراكي المنظّم زمانيا كما في اليقظة..
خصائص الوعي القصدي
-         الوعي حقيقي غير قابل للاختزال.(6) بمعنى غير قابل للقفز من فوق آليات السياق الادراكي الذي يبدأ بالحواس ولا ينتهي بالدماغ والجملة العصبية..
-         الوعي نوعي بمعنى (هناك نوعية تجريبية لكل حالة واعية، والوعي شخصاني أنطولوجي لا تتم معايشته ألا من قبل موضوع بشري أو حيواني).(7).
-         جميع ملامح الوعي ناتجة من دون أستثناء عن عمليات بيولوجية – عصبونية داخل الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي.(8)
-         الوعي القصدي المعروف الوحيد هو الموجود في الجهاز العصبي للإنسان أو الحيوان..(9)
-         تجربة الوعي الإدراكي القصدية النوعية الشخصانية بكاملها هي جزء من مجال وعي إدراكي كلي.(10) بمعنى أشتراك أكثر من حاسة واحدة في تجربة الإدراك من جهة، وكل تجربة شخصانية تعتبر محدودة بالنسبة لتجارب لا حصر لها من أدراكات وعي كلي متنوع بتعدد موضوعاته من جنبة أخرى.
-         مضمون الوعي القصدي يفيد معنى شروط الاشباع (11) بمعنى غاية وهدفية الادراك هو إشباع الرغبة في تحريك القصد نحو تحقيق غاية محددة يتوجب بلوغها.. والوعي القصدي وعي هادف يتحدد بالذهن سلفا..
 مفهوم التجربة الادراكية
يأخذ سيرل على الفيلسوف أ.ج. آير صاحب كتاب (اسس المعرفة التجريبية) في معرض بناء حجته على آراء مستمدة من هيوم بأن ما ندركه هو بيانات حسيّة .. ليطرح سيرل بضوء ذلك تساؤله: ما الموضوع الذي نحن واعون به مباشرة في حالة الإدراك اذا لم يكن جزءا من أي شيء مادي؟؟(12) طبعا هنا كان تركيز سيرل على الادراك والوعي القصدي الناتج عن رغبة الاشباع المعرفي التي تفترض سلفا تحقق الوجود الانطولوجي لمواضيع العالم الخارجي للأشياء كمجال أدراكي واقعي, وأغفل أمكانية قيام الادراك على غير متعيّن مادي يحضر كموضوع كما ألمحنا له سابقا، فالعقل يقوم بفعل الادراك القصدي في معالجته مواضيع إدراكية غير مادية مستمدة من الذاكرة التخييلية الى جانب أدراكه مواضيع الواقع المادي، ولا وجود في حالة الادراك القصدي التخييلي شرطا لموضوع يكون جزءا من شيء مادي كما في رغبة سيرل في عبارته السابقة.. ليس شرطا أن يكون الوعي الادراكي بموضوع يمّثل جزءا من واقع مادي حصرا، فالخيال الادراكي يستطيع التعامل مع موضوعات لا وجود لعلاقة أنطولوجية لها تربطها بحواس الادراك ..
ويضرب سيرل مثالا: عندما يرى الرجل سرابا في الصحراء فهو بالتالي لا يدرك أي شيء مادي، لأن الواحة التي يعتقد أنّه يراها غير موجودة أصلا.. (13)، ويأخذ سيرل على (آير) أنه هو وفلاسفة آخرون يقولون مع هذا (أن تلك التجربة في رؤية الواحة ليست تجربة تتعلق بلا شيء ومن هنا فلها مضمون محدد ).(14). وبضوء هذا الفهم الادراكي يتضح معنا إباحة صحة الذهاب الى أن الادراك هو معايشة بيانات حسية مستمدة من الذاكرة والذهن كما يرى هيوم، ولا يختلف الحال مع أدراك موضوع ماثل متعّين وجودا أو مع موضوع غير موجود واقعيا حقيقيا.. يكونان سببا في بعث أدراكات الاحساسات، وهو تأويل صحيح في تتبعنا آلية الوعي الادراكي وليس قصديته...
من الملاحظ رفض سيرل أن المضمون في حد ذاته يمّثل موضوع التجربة مؤكدا على ما عزاه أنه خطأ (آير) قوله (أن تجربة الواحة للرائي ليس تجربة لا تتعلق بلا  شيء، بل التجربة هنا تتحدد بموضوع محدد ).(15).
ولتوضيح هذا الالتباس يذهب سيرل الى (أن المضمون القصدي الذي هو الموضوع في المعنى البنيوي – يقصد في واقع تجربة الادراك الحقيقي النسقي الكلية – ليس هو ذات الموضوع في المعنى القصدي ).(16)
في هذا التفريق يؤكد سيرل وجهة نظره الفلسفية أن تجربة الادراك إنما تقوم على موضوع يتخذ صفته ومعناه الوجودي – البنيوي في ممارسة تجربة الادراك الواقعة عليه في وجوده وفي غيابه على السواء.. فالموضوع هو في المحصلة النهائية التي تفرض نفسها هو وجود أنطولوجي مستقل بذاته في حالتي الإدراك المباشر له أو في حالة معاملته كموضوع للإدراك يفتقد الوجود المادي المتعيّن واقعيا.. وربما لا ينطبق هذا على مثال سراب الواحة كما أوحى سيرل بذلك..
        هل يتم الوعي القصدي خارج الدماغ؟
ينقل جون سيرل عن الفيلسوف الامريكي (الفا نوي) في مقال لهذا الاخير بعنوان (تجربة من دون رأس) الى أن الوعي الادراكي القصدي يمكن أن يتم خارج الدماغ، موضحا قوله (أن تجربتنا في الوعي غير معتمدة فقط على ما يتمّثل في أدمغتنا، بل يعتمد على تفاعلات دينامية بين أقطاب الوعي – الدماغ -  والجسم -  والبيئة )(17).
الوعي القصدي عند سيرل يشمل جميع حالات الذهن ولا ينفك عنها، حتى أنه يرى في تصّور حالة ذهنية غير واعية، عبارة متناقضة ذاتيا، وبحسب رأيه الوجود مادة صماء فمن أين يأتي الوعي؟ ويرى أن الوعي لا بل العقل كله ظاهرة بيولوجية مادية بالكامل وهو المذهب المعروف بالطبيعانية البيولوجية.. نلاحظ للمرة الثانية سيرل يكرر فهمه الفلسفي أن موضوع الادراك القصدي هو المتعّين أنطولوجيا في عالم الاشياء فقط، وقد قمنا توضيح هذه المسألة في سطور سابقة من هذه الورقة البحثية..

اللغة والعقل في الوعي القصدي
سعى سيرل الى اكتشاف طبيعة الارتباط بين اللغة والعقل فهما يتوّجهان الى أدراك الاشياء معا، فيتمّثل العقل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار لغة التعبير فيه، تزامنا يكاد يكون آنيا... ويطرح سيرل بهذا المعنى سؤالا لمن تكون الاسبقية للعقل أم للغة؟ ويجيب على تساؤله عن الاسبقية للعقل مؤكدا وجهة نظره التي ضمنها مقدمة كتابه (القصدية) حيث جاء في فلسفة العقل من الكتاب المنشور عام 1983، أن الافتراض الاساسي القائم وراء تناولي لمشكلات اللغة هو أن فلسفة اللغة هي فرع من فلسفة العقل..(18).
ويطلق سيرل على أن الهلوسة الادراكية (الواعية) لا تمتلك موضوعا من أيّ نوع كان , وتعقيبنا أن هلاوس الادراكات غير (واعية) تماما بموضوعها وليس كما ورد أنها (واعية) في أمتلاكها مضمونا ولا تمتلك موضوعا، ويتعّذّر التفكير في وعي أدراكي لا يحمل موضوعه المتعيّن كمادة أدراكه الملازمة له، ولا يشترط في موضوع الادراك أن يكون متعينا أنطولوجيا بل من الممكن أن يكون الموضوع مستحدثا من الذاكرة الاسترجاعية، وبخلاف الهلاوس غير المنتجة تكون إدراكات الاسترجاعات التذكرّية واعية تحمل موضوعها معها في ملازمة تخليق الادراكات المجردة في الذهن.. وحالة الادراكات الهلاوسية تكون حالة من تداعيات الصور الذهنية المرتبطة الدلالة بغير موضوع واحد محدد، وتجارب الهلوسات الادراكية التي لا تحمل موضوعها الادراكي معها بوعي كاف لا تعبّر عن تجربة واقعية من الممكن تصديق حدوثها الواقعي.. وإلا كيف لنا تعليل سلسلة الادراكات التي يمتزج بها اللاشعور الهلاوسي مع الوعي الشعوري التام بأكثر من موضوع تخييلي كما نجده في معظم الابداعات الفنية والادبية وبالتحديد في الشعر؟؟ ففي مثالنا هذا لا نستطيع القطع أن تلك التجارب الادراكية هي من نوع الهلاوس غير المنتجة التي تفتقد موضوعها.. بل هي تمتلك موضوعها بكل جدارة واستحقاق.
 تلخيص ختامي
1.     يذهب سيرل أن الوعي الادراكي القصدي ظاهرة بيولوجية، أي أنه وعي شخصاني نوعي أنطولوجي وهو جزء من مجال وعي كلي شامل.(19)
هنا بضوء هذا التعريف يجب التفريق بين موضوع الادراك المعرفي الذي لا يشترط حسب فهمنا أن يكون أشباعا بيولوجيا كما في مثال الاشباع الغريزي الجنس والجوع والعطش وغيرها، وبين الموضوع المدرك في الوعي القصدي في مجال المعرفة والسعي لاكتسابها... الذي يكون أدراكا نوعيا يخص بيولوجيا الانسان كركن أساس تحديدا في اكتسابه المعرفة شخصانيا.. فهو إدراك بيولوجي على مستوى الشخص المدرك للأشياء وليس بيولوجيا على مستوى موضوع إدراكه.. ومواضيع الادراك القصدي نوعين موضوع أدراك معرفي, وموضوع أدراك غريزي فطري.. وكلاهما يشكلان هدفين متمايزين لتجربة الادراك في إشباعهما...
2.ينطلق سيرل من نظرة أحادية فينومينولوجية في الادراك، تقوم على مرتكز محوري أن موضوع الادراك هو المتعيّن أنطولوجيا في عالم الاشياء المادية فقط، ويهمل الادراكات الفكرية التي يكون منشؤها الذاكرة الاسترجاعية في أدراك موضوعاتها, ولا يناقشها في صفحات كتابه الموسوم (  رؤية الاشياء كما هي) كفعالية إدراكية لا يمكن إهمالها.. وعنوان كتابه رؤية الاشياء.. إنما تقوم في تركيزه على المدركات الحسّية في الواقع  فقط.. علما أن مدركات مواضيع الادراك المستمد من الذاكرة أنما تنتج عنها جميع ضروب الابداع في الأدب والفكر والثقافة والفنون وجميعها أدراكات قصدية حيوية في حياتنا وهكذا..
3. يحدد سيرل أن محددات أي إدراك قصدي تتألف من ثلاثة عناصر فقط يؤكد عليها هي المدرك (بكسر الراء) أي الشخص، وثانيا موضوعه,أي موضوع الادراك، وثالثا حاسّة الابصار العين، التي تكون البداية منها في أستقبالها ضوء الشيء المدرك الصادر منه، أي ضوء الموضوع المنبعث منه في تجربة الادراك الساقط على شبكية العين.. ولا نعرف أهمية الإدراكات الناجمة عن بقية الحواس عند الانسان كالسمع واللمس والتذوق والشم فجميعها تعتبر مصادر الاحساسات الاولية في عمليات الادراكات لم يعرها سيرل اهتمامه.. كما لم يعر انتباها الى الدماغ ومنظومة الجهاز العصبي الفاعل في إتمام عمليات الإدراكات.. ركّز كثيرا على أهمية العين فقط في تجربة الوعي الادراكي المادي.. وعنونة الكتاب هو (رؤية) بمعنى الابصار في العين وعلاقتها بالوعي الادراكي القصدي فقط هو محتوى الكتاب كاملا...
4.ورد على لسان سيرل أن علاقة الادراك في الهلوسة لا تنطبق على حالات الإدراك الحقيقي السليم، كون أدراكات الهلاوس لا تمتلك موضوعا حتى وأن امتلكت (وعيا) إدراكيا في مضمون متعيّن إدراكا، وناقشنا هذا الغموض في أسطر سابقة، فالوعي القصدي في إدراكات الهلاوس لا يمتلك وعيا مثمرا لكنه لا يعدم أمتلاكه موضوعات إدراكية لا يشترط أن تكون مستمدة أنطولوجيا من واقع الاشياء بل يمكن أن تكون مواضيع الادراك الهلاوسي منطلقها تداعيات الفكر الصادر عن الذاكرة...والوعي هو وعي بموضوع يتألف من شكل ومضمون ولا وعي من غير موضوع يدركه، لكن الموضوع المستقل لا يشترط بالوعي ملازما له..
5. لكي يقوم سيرل في تأكيد رغبته أن إدراكات الهلوسة السيئة لا تمتلك (موضوعا) وقد تمتلك (مضمونا)، الى التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربتي الادراك الحقيقية والسيئة أي بين تجربة الادراك السليم وتجربة الهلوسة، وهذا التفريق لا يلغي ولا يلعب دورا حاسما بين التجربتين ويعبّر عن هذه الاشكالية المفتعلة قوله (في التجربتين – يقصد الحقيقية والهلاوسية -   يتكرر لدينا نفس الموضوع القصدي بالضبط ولكن في وجود موضوع قصدي في أحدى الحالتين فقط دون الاخرى ) 20
لا نعتقد العبارة سليمة من ناحية ترابط المعنى في خلوّها من التناقض بمعنى توفر الموضوع القصدي في التجربة الحقيقية وانعدامها في تجربة الهلوسة حتى وإن امتلكت مضمونا وليس موضوعا.. علما أن عبارة سيرل تشي باشتراك التجربتين في أدراكهما موضوعا واحدا.... كما لا يمكن استساغة التفريق بين الموضوع ومضمونه في تجربة الادراك الخطأ الذي زرعته الفينومينولوجيا في تكريسها ثنائية إدراك الظاهراتية هذا واستحالة إدراك النومين ذاك، عندما فصل منهج الفينومينولوجيا أدراك الاشياء في ظاهرياتها البائنة عنها في عدم أمكانية أدراك ومعرفة ماهياتها التي كان رسّخها كانط قبل هوسرل..  وفي العودة الى علاقة شكل الموضوع مع مضمونه نرى استحالة أدراك مضمون متحرر عن موضوعه في (شكل) أنطولوجي يمكن إدراكه منفصلا غير متعالق بموضوعه، فالمضمون هو محتوى ملازم لموضوع محدد في شكل.. وإدراك موضوع كشكل أنطولوجي لا ينفصل عن مضمونه حتى وأن لم يدرك المضمون مباشرة كماهية أو جوهر.. ولا يمكننا تصور إدراك مضمون بلا شكل وموضوع يؤطرهما.. ما يدرك كموضوع يدرك وحدة واحدة شكلا ومحتوى والثالث مرفوع على حد تعبير الفلاسفة..
6. يطرح سيرل تساؤلا إشكاليا صعبا، يذهب الى تدعيم صحته وصوابه كلا من فلاسفة الشكيّة التقليديين ديكارت وبيركلي وهيوم ولوك وكانط، هو أن كل ما يمكننا أدراكه هو تمثّلات تجاربنا الشخصية الفردانية صوريا عن الواقع، فهل يمكننا تعميم حقيقة مدركاتنا على الجانب الآخر (مجموع الاخرين) (21).
لن نأخذ بتفنيد سيرل لهذا الادعاء لأن تفنيده يقوم على حجّة إشكالية قوامها مرتكز حاسة البصر (العين) في التجربة الإدراكية، وهناك أجماع على حقيقة ثابتة لا يمكننا العبور من فوقها هي لا تتمكن الحواس من أدراك الاشياء على حقيقتها بصورة كاملة، كما لا يمكن للعقل تكوين أفكاره عن مدركاتنا كحقيقة قاطعة، وتبقى على الدوام إدراكاتنا ناقصة في معرفة العالم .. من جهة أخرى سحب سيرل التساؤل المار ذكره الى مضمار التعبير اللغوي الالتباسي المعقد كما يطرحه فيتجنشتين، وهذا ما لا يعتمده فلاسفة الشكيّة الكلاسيكية بدءا من ديكارت وليس انتهاءا بفلاسفة التحليلية الانجليزية جورج مور وبراتراند رسل من حيث أن الحواس خادعة ولا تحمل أكثر من نصف الحقيقة على الدوام كما هي اللغة أيضا خادعة ومخاتلة ومعرفة الواقع على حقيقته أمر غير متيّسر لا بالإدراك ولا بتعبير اللغة... كذلك فأن مخاتلة اللغة تنسحب على التعبير عن التجربة الفردية كما تنسحب على تعبير الادراكات الجماعية أيضا ولا منجاة لأحد مما يعرف بخيانة اللغة...التجربة الحقيقية بالإدراك الشخصاني يمكننا تعميم بعض استنتاجاتها، من حيث أن مواضيع الادراك في غالبيتها تكون متعّينات إدراكية ثابتة أنطولوجيا تقريبا، بينما يكون الادراك الذاتي متغيّرا ومتعددا بالنسبة لموضوع وجوده في حكم الادراك الثابت أو ظاهرة تتسم بالثبات النسبي، وكذلك فالإدراك الفردي لا يتوّصل الى حقائق علمية قاطعة بل الادراك قسمة مشاعة أمام الجميع في ممارستها ضمن الامكانيات المتعددة في تنوع الإدراكات الشخصانية في الاشباع القصدي, عليه تكون نتائج الاستدلال الادراكي لا تلزم غير صاحب التجربة من الأخذ بها لدى أصحاب زوايا رصد متباينة أخرى.. يوجد تفاوت إدراكي بين شخص وآخر لكن لا يوجد تفاوت في أدراكنا حقيقة الوجود يسبق إدراكاتنا الفكرية عنه.. مما يجعل إمكانية الخطأ الجمعي متراجعا في إدراك الموضوع الواحد..
جون روجرز سيرل: فيلسوف امريكي ولد عام 1932 ويشغل ألآن درجة أستاذ فخري في فلسفة العقل واللغة، وأستاذ طلبة الدراسات العليا في جامعة بيركلي – كالفورنيا، معروف على نطاق واسع في مساهماته في فلسفة اللغة والعقل والفلسفة الاجتماعية، بدأ التدريس في جامعة بيركلي عام 1959..
          علي محمد اليوسف /الموصل
         الهوامش :
1.    جون ر. سيرل/رؤية الاشياء كما هي/ سلسلة عالم المعرفة /ترجمة
ايهاب عبد الرحيم/ ص 163
2.    المصدر اعلاه ص 34
3.    المصدر السابق ص 58
4.    المصدر السابق ص 59
5.    المصدر السابق ص 57
6.    المصدر نفسه نفس الصفحة
7.    المصدر نفس الصفحة
8.    المصدر نفس الصفحة
9.    المصدر نفسه ص 59
10.          المصدر نفس الصفحة
11.          المصدر نفس الصفحة
12.          المصدر ص 94
13.          المصدر نفس الصفحة
14.           المصدر نفس الصفحة
15.          المصدر ص 59
16.          نقلا عن موقع اضاءات الالكتروني
17.          المصدر السابق ص 99
18.          المصدر السابق ص 97
19.          المصدر السابق ص 193
20.          المصدر السابق ص 181
21.          المصدر السابق ص 194







تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس