مفهوم الابستمولوجيا

مفهوم الابستمولوجيا
ادريس الجامعي أديب                                                                                16 يوليوز 2019
أستاذ التعليم الابتدائي بالمغرب
ظهر مصطلح الابستمولوجيا"[1] بعد الفلسفة الكانطية في القرن التاسع عشر، و هي كلمة يونانية مركبة من لفظين: ابستيمي épistème  و معناها: علم science  و لوقوس logos بمعنى منطق- نقد- علم-دراسة-نظرية-مقالة... الخ. و عليه فكلمة ابستمولوجيا épistémologie من حيث الاشتقاق اللغوي تشير إلى مقالة في العلم"[2].
تعددت اصطلاحات الفلاسفة حول كلمة ابستمولوجيا، حيث يعرفها لالاند la lande بقوله:" هي فلسفة العلوم لكن بمعنى أكثر دقة، فلا تخص فقط دراسة المناهج العلمية التي هي موضوع الميتودولوجيا méthodologie والتي تعد جزء من المنطق، كما أنها ليست تركيبا أو توقعا حدسيا للقوانين العلمية على الطريقة الوضعية أو التطورية، إنها في جوهرها الدراسة النقدية لمبادئ وفرضيات ونتائج مختلف العلوم، الهادفة إلى تحديد أصلها المنطقي لا النفسي وقيمتها ومدى موضوعيتها"[3].
فلو حاولنا تحليل هذا التعريف الذي يقدمه لالاند، فإننا نجده يحصر مهمة الابستمولوجيا في البحث عن المبادئ والأسس التي تقوم عليها مختلف العلوم، وفحص الفرضيات التي تضعها لاستخلاص نتائجها، فهي دراسة نقدية تبين مدى صحة النتائج وتماسكها، أي البحث في موضوعيتها وقيمتها العلمية بغض النظر عن أصولها النفسية، فالابستمولوجيا دراسة نقدية تهتم بالبحث عن شروط المعارف العلمية، وبتعبير أوجز، الدراسة النقدية للمعرفة العلمية. هذا التحديد الايجابي الأولي الذي وضعه لالاند تعريفا للابستمولوجيا، سبقه بتحديدات سلبية يكتنفها الغموض وتتمثل في كونه لم يرسم حدودا واضحة المعالم بين الابستمولوجيا والدراسات المعرفية الأخرى.
ففلسفة العلوم ليست الميثودولوجيا التي موضوعها دراسة المناهج، ويعتبرها لالاند جزء من المنطق، وهنا يوجد التقسيم التقليدي للمنطق ويصنفه إلى منطق صوري formelle، يهتم بصور الفهم أي الإطار الكلي للعقل ومنطق استقرائي تطبيقي يهتم بالمادة، ويدرس المناهج المستخدمة في مختلف العلوم دراسة وصفية، لا نقدية.
وهنا نعثر عن سبب تمييز لالاند بين الابستمولوجيا والميثودولوجيا باعتبار أن الأولى (دراسة نقدية) والثانية (دراسة وصفية) لكن هذا لا يعني وجود انفصال تام بينهما: فالدراسة النقدية مثلا للمناهج العلمية لا تستغني عن معرفة صيغة هذه المناهج، ومنه فعمل المنهجية مكمل لعمل الابستمولوجيا، وفي هذا الصدد يقول روبير بلانشي Robert Blanché: " إن الابستمولوجي لا يمكن أن يستغني في دراسته النقدية عن دراسة مناهج العلوم لأنه بحاجة إلى معرفة صيغة مناهج العلوم التي يدرسها"[4]. هذا من حيث العلاقة، أما إذا كان التمييز لضرورة منهجية - بمعنى تحديد مجالات هذه الدراسة – فهو أمر لابد منه، وعلى هذا الأساس يمكن حصر مهمة المنهجية في الدراسة الوصفية التحليلية. أي وصف جميع المراحل التي مرت بها عملية الكشف العلمي وتحليلها لإظهار طبيعة العلاقة الموجودة بين الفكر والواقع، هذه المهمة تأتي بعد انتهاء العالم من عمله. وبمعنى آخر فإن الميثودولوجي يتتبع خطوات العالم قصد وصفها وتحليلها وصياغتها صياغة نظرية منطقية. يقول كلود برنارد Claude Bernard: " إن مناهج و طرق البحث العلمي لا تتعلم إلا في المختبرات حيث يكون العالم أمام مشاكل الطبيعة وجها لوجه"[5].
أما بالنسبة للابستمولوجيا فمهمتها نقدية، ترمي من ورائها تحليل العلم و الكشف عن الفلسفة المتضمنة فيه، و تتبع مسيرته قصد التعرف على ثغراته، و محاولة سدها و معالجتها، سواء أكانت هذه الثغرات تتعلق بالمناهج أو المبادئ أو الفرضيات أو بالنتائج، و كلمة (فلسفة) تحيلنا للتطرق إلى علاقة الابستمولوجيا بفلسفة العلوم، يقول لالاند: " الابستمولوجيا هي فلسفة العلوم لكن..."[6] انه يستدرك ب (لكن) ليوضح أنه لا يعني الفلسفة كما وضحها أوجست كونت و التي دعا فيها العلماء بالاكتفاء بملاحظة العلاقات الظاهرة التي تربط بين الظواهر ووصفها للحصول على تفسير لها يمكننا من التخصص في العلوم، لذا استوجب على الفيلسوف الوضعي أن يقوم بمهمة الربط بين مختلف التخصصات العلمية الجزئية: " لتقم طبقة جديدة من العلماء (الفلاسفة) المكونين تكوينا ملائما"[7]. ويشترط كونت في هذا التكوين، العمومية، أي معرفة عامة حول مختلف العلوم تمكنه من تحديد روح هذه العلوم والكشف عن العلاقات الرابطة فيما بينها، ويتم ذلك عن طريق معرفة المبادئ العامة المشتركة بين العلوم الجزئية، شريطة عدم الخروج عن المنهج الوضعي. ففلسفة العلوم عند الوضعيين هي عبارة عن عملية تركيبية تتواجد فيها العلوم المختلفة بفضل المنهج الوضعي (التجريبي).
كما يرفض لالاند وجهة نظر الفلسفة التطورية Evolutionnisme و هي نزعة تقول بمبدأ التطور و من أهم مؤسسيها لامارك-A.lamark (1829-1744) و هذا الأخير في كتابه (مذهب الفلسفة التركيبية) عارض فكرة التطور كموحد للعلوم المشتتة، أما في كتاب (سبنسر) الثاني المعنون ب(المبادئ الأولى) فقد رأى أن المعرفة تنمو وفق قانون التطور. نقل (سبنسر) مفاهيم التطور من البيولوجيا إلى مجال العلوم الاجتماعية خاصة فكرتي: البقاء للأصلح، والتنازع من أجل البقاء. حيث اعتبر الكائن الاجتماعي مماثلا للكائن العضوي الذي هو عبارة عن نسق متكون من مجموعة أجزاء يقوم كل واحد منها بوظيفة محددة للحفاظ على حياة هذا الكائن و كذلك بالنسبة للمجتمع، فالصراع الاجتماعي يؤدي إلى خلق التوازن الاجتماعي و بالتالي من وجهة نظر (سبنسر) فإن جميع  الظواهر سواء أكانت طبيعية أو إنسانية تخضع لمبدأ التطور."[8]
على هذا الأساس فإن معرفة الإنسان قد تكون معرفة عامية تتصف بالسذاجة والتشتت. وهناك معرفة عليمة منظمة تتعلق بظواهر مختلفة. وأخيرا المعرفة الفلسفية الموحدة لشتات العلوم: " في وحدة تركيبية يسودها الاتساق والانسجام"[9]. وهذه هي المهمة الحقيقية للفلسفة في علاقتها بالعلوم. وغايتها في ذلك توضيح ماضي المعرفة البشرية للاستفادة منها في التنبؤ بالمستقبل.
يبدو من خلال تعريف لالاند وعيه بمدى ارتباط هذه الدراسات (ابستمولوجيا- ميثودولوجيا- فلسفة العلوم) ببعضها البعض، كذلك يدعونا إلى ضرورة التمييز بين الابستمولوجيا ونظرية المعرفة la théorie de la connaissance"[10] التي تعني التقدير النقدي الذي يحدد قيمة المعرفة الإنسانية وحدودها. ويعتبر لالاند نظرية المعرفة مدخلا ضروريا وأداة هامة لكل من أراد دراسة المعارف العلمية دراسة تفصيلية في شتى المواضيع.
الخلاصة التي نستخلصها من هذا التعريف تتمثل في كون العلاقة بين الابستمولوجيا وفلسفة العلوم هي علاقة نوع بجنس، هذا النوع تنحصر مهمته في الدراسة النقدية لمكونات العلوم للوصول إلى أصولها المنطقية.
لو انتقلنا إلى وجهة نظر بول موي-Paul Moy- المتعلقة بالابستمولوجيا نجد أن المعنى الذي يفهمه من الكلمة هو: "النقد العلمي للمعرفة"[11] ومهمتها دراسة المنهج العام للعلوم و" العمليات التي يطبقها العقل البشري على العلم"[12]. ويعتبر بول موي النقد العلمي مجرد مرحلة من مراحل التحليل الواعي للمعرفة العلمية، يكملها تاريخ العلوم، وهي مرحلة صعبة إذ يقتضي من الباحث فيها القيام بثلاثة أدوار: دوره كمؤرخ، دوره كفيلسوف ودوره كعالم، ليتمكن من التعرف على الكيفية التي يعد بها العقل مناهجه خلال مواجهته للواقع، ويحاول فهم الصراع القائم بين العقل والواقع.
أما مسألة نمو المعارف العلمية فلا تهم إلا العالم. يقول بول موي: " إن تاريخ العلوم هو في نظر الفيلسوف عرض للعلم في حالة نشأته"[13]، تعقبها مرحلة مناهج البحث العلمي التي هي بمثابة الدراسة الواعية للمناهج المختلفة المستخدمة في مختلف العلوم.
هذه الفروع: الابستمولوجيا –تاريخ العلوم- مناهج العلوم تؤلف في مجملها فلسفة العلوم. وفي الأخير يعتقد بول موي بإمكانية تتويج فلسفة العلوم بمبحث أخر يهتم بدراسة قيمة المعرفة وحدودها، و هو نظرية المعرفة، لكنه يرى أن التقدير الشامل للمعرفة يكتسي طابعا ميتافيزيقيا قد يخرجه عن المنطق و التي تعتبر فلسفة العلوم شكلا من أشكاله.
أما جون بياجي Jean Piaget فيرى أن الابستمولوجيا المعاصرة تنظر إلى المعرفة العلمية نظرة تكاملية، فهي لم تعد تفصل بين الذات العارفة والموضوع المعروف. فمهمة الابستمولوجيا التكوينية l’épestimologie génétique البحث في نمو المعارف العلمية من جميع جوانبها التاريخية والنفسية والمنطقية. والمنهج الذي يقترحه بياجي ويعتبره ضروريا لهذه الدراسة هو المنهج التكويني الذي يجمع بين التحليل التاريخي المنطقي والتحليل النفسي. ويحدد بياجي مهمة الابستمولوجيا بقوله: " تدرس الابستمولوجيا التكوينية نمو المعارف العلمية بالاعتماد على تاريخها ونشاطها الحالي في علم معين من جهة، ومن جهة أخرى على مظهرها المنطقي وعلى تشكيلها النفسي التكويني ..."[14]. وانطلاقا من هذا الفهم الجديد للعلم حاول بياجي تقديم تصنيف للعلوم يراعي دينامية المعرفة العلمية والعلاقات المتبادلة بين مختلف العلوم ويبني تصنيفه على أساس التمييز بين الميادين الأربعة لكل علم:
-         الميدان المادي: الموضوع الذي يدرسه كل علم.
-         الميدان المفهومي: مجموعة المفاهيم المستعملة في كل علم.
-         الابستمولوجيا الداخلية: و تهتم بالبحث في الأسس و المبادئ و النتائج التي يقوم عليها كل علم.
-         الابستمولوجيا العامة: وتهتم بالبحث في الأسس المشتركة بين جميع العلوم[15].
و اليوم فإن هذه المصطلحات: ابستمولوجيا- فلسفة العلوم – نظرية المعرفة: تستخدم كمترادفات حتى و لو بدا التمييز فيما بينها أكثر وضوحا في الانجليزية"[16] و في الفرنسية تعد كلمة ابستمولوجيا مرادفة لفلسفة العلوم أما نظرية المعرفة فيرفضها باشلار لأنها تخضع لتقييمات داخلية، و حين يستعمل في كتابه هذا المصطلح: (نظرية المعرفة) يقرنه بخاصية العلمية la théorie de la connaisance scientifique مع ملاحظة أن تداول هذه المصطلحات متفاوت بين الفلسفات، ففي فلسفة الأنجلوسكسونية تستعمل فلسفة العلم أكثر، و في الفلسفة الفرنكفونية يطغى استعمال مصطلح الابستمولوجيا، في حين يفضل الألمان نظرية المعرفة.




[1] استخدام مصطلح الابستمولوجيا لأول مرة في المعجم الفرنسي Larousse ippustre سنة 1906.
[2] La rousse dictionnaire encyclopédique, librairie la rousse, paris volume 13,1979, p : (501).
[3] A. la lande: vocabulaire technique et critique de la philosophie, 2eme édition, P.U.F paris, 1986,p : (293).
[4] R. blancgé : l’épistémologie, 1ere edition P.U.F, paris, 1972 p :(22).
[5] عابد الجابري محمد: مدخل الى فلسفة العلوم، الجزء الأول، تطور الفكر الرياضي و العقلانية المعاصرة، دار الطليعة بيروت، 1982، ص (12).
[6] A. la lande : opeit, p : (293).
[7] بول موري: المنطق و فلسفة العلوم: ترجمة فؤاد زكريا، دار نهضة مصر: 1973،ص : (48).
[8] كامل فؤاد و آخرون: الموسوعة الفلسفية المختصرة، دار القلم، بيروت، ص:( 247).
[9] عابد الجابري محمد: مدخل لفسفة العلوم، المرجع السابق، ص:( 57).
[10] نظرية المعرفة: ظهر هذا المصطلح لدى فلاسفة القرن الثامن عشر في كتاب ادوارد شيلر بعنوان  (erkenntniss theorie) و تستخدم كلمة (gnoséologie) بالمعنى نفسه، انظر بول موي: المنطق و فلسفة العلوم، مرجع سابق ص : (49).
[11] بول موي : المنطق و فلسفة العلوم، المرجع السابق، ص: (49).
[12] المرجع نفسه و نفس الصفحة.
[13] المرجع نفسه و نفس الصفحة.
[14] سالم يفوت- بن عبد العالم عبد السلام : درس الابستمولوجية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، سنة 1988، ص : (188).
[15] وقيدي محمد: ماهية الابستمولوجيا، ص (156-157).
[16] أدخل جيمس فيري james frrier كلمة ابستمولوجيا إلى اللغة الانجليزية épistémologie سنة 1866 انظر، جيرار شازال.http :www.digom-ivfm.fr/jormat/fromcom/epis-sc/piesent.htm


تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

0commentaires:

إرسال تعليق

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس