قراءات فلسفية في الإستيطيقا المعاصرة
(محاضرات في الجمالية المعاصرة
لكمال بومنير)
جمع
و تحرير: كمال طيرشي
1-الاستطيقا
عند الانطولوجي "مارتن هيدجر"
حقيق
بنا الإعتراف أن الانطولوجي الألماني "مارتن هيدجر " لم يطرق
باب " الإستطيقا " و المساءلة الفنية بشكل مباشر كونها لم تكن
"دأبه و ديدنه " في أولى كتاباته الشبابية , و مرد ذلك إلى ما كان يحوم
في مخياله من إشكاليات أنطولوجية عميقة و غياهبية الطابع , و التي على رأسها "إشكالية
الكينونة و الزمان" , فكان همه و انهمامه الأكبري مسلطان على الوجود
العام ,من خلال أسئلة : ماهو الوجود؟ , ما معنى الوجود ؟ , و تربصته عديد احالات
فلسفية حتمت عليه تعديل المطارحة الفلسفية و الاستعاضة عن سؤال " ما معنى
الكينونة ؟" , ب " ما حقيقة الكينونة ؟" , ففيلسوف الغابة السوداء
لم يبدأ معالجة مسألة الفن و الجمالية إلا بعد المنعرج أو الإنعطافة , فلما فرغ من
همّ حقيقة الكينونة , نهج مسلكه تباعا بمنحى العملية الفنية كنمط من أنماط ادراك
الكينونة أو بالأحرى كنمط من أنماط "الكشف عن الكينونة " المتوارية
بالحجب , المتدثرة , المستورة , المتخفية وتعتبر الإسهامة الأولى التي قدمها
"فيلسوف الانطولوجيا مارتن هيدجر " كانت عن طريق محاضرة ألقاها سنة 1935
, بعنوان " أصل العمل الفني " .لكن السؤال الذي يؤرق جمهور
"الهيدجريين " و كبار شراح فلسفته هو : ما الذي جعل مارتن هيدجر يهتم
بالفن سنة 1935 ؟
ففي
الفقرة 42 من كتاب "الكينونة و الزمان "(1927م), ذكر الفن , ولكن لم يعن
به كثير عناية , لأنه كان في مرحلة البحث عن "اليثيا" (الحقيقة) ,
اهتمام هيدجر الأكبر بسؤال الاستطيقا كان من وراء اعتقاده بأن الفن ليس انتاجا فقط
, بل هو يبحث الفن من حيث أصله , و يعتبره بابا من أبواب "انكشاف الكينونة
" "انفتاحتها " , "تكشفها '' , انبجاسيتها و تخارجيتها , و
همه الكبير هو أن يربط بين " الفن و الحقيقة " , فعند فيلسوف"
الكتاب الواحد " المسألة ليست بالجديدة , لأن هناك عدد مهيب من الفلاسفة
الذين سبقوه تعالقوا بالمطارحة الاستطيقية في فلسفاتهم و على رأسهم متفلسفة العصر
الهيلينستي الاغريقي , لكن الأدهى هو الطريقة
الجديدة في تناوله للقضية .فما الذي
يمكن أن يقدمه هيدجر بالنسبة للحقيقة ؟
يعتمد
هذا الفيلسوف مصطلحا مركزيا هو Représentation
, فحسب اعتقاده أن
الفن يعبر عن الحقيقة إذا كان Représentation , و حينما
نستكنه معناها في اللسان العربي من الناحية الابستيمية نجد اللفظ المقارب للمصطلج
هو ((التصوير الفني )), و يضرب لنا هيدجر مثلا على ماهوية التصوير الفني ب((فرانز
مارك )) و هو من عمداء المدرسة التعبيرية , و هي مدرسة فنية , ظهرت في القرن
العشرين بألمانيا , و تقوم على فكرة أساسية مفادها "أن الإنسان يُعبر عن
أحاسيسة و مشاعره و عواطفه و ابداعه بعيدا عن أي قيم سائدة " , و اعتمد هيدجر
على لوحه رسمها "فرانز مارك " و هي عبارة عن لوحة رسم عليها "صورة
يحمور " (حيون) , و نبأنا بلزومية التمييز بين المفهوم النظري و المفهوم
التأويلي لهذه اللوحة الفنية . بالنسبة للمفهوم النظري متمثل في كون اليحمور نوع
من أنواع الحيوانات , و العلماء يدرسونه كموضوع علم الأحياء ., أما بالنسبة
للمفهوم التأويلي , فالحيوان هو كائن من كائنات الغابة , ففي مخيال هيدجر فإن
الرسام " فرانز مارك " يقدم لنا النموذجين , لكن ما يهم مارتن هو النموذج
الثاني التأويلي , لأنه يصور لنا فنيا ((الحيوان)) ,((اليحمور)).
قراءتنا
للفن وفق المنظور الهيدجري يحيلنا إلى اعتبار الصورة الفنية همُّها الأكبر في
مبلغها و إحقاقها الانطولوجي , فالفن في كنهه ليس تصويرا بل هو تحقق أو بلوغ الشيء
, و هنا يتعالق الفن بالأنطولوجيا و مباحثاتها الماهوية , و حينما نتأمل كتاب
هيدجر "مدخل إلى الميتافيزيقا" يؤكد لنا الفيلسوف قائلا '' إن العمل
الفني ليس عملا فنيا , إلا من حيث هو اِحقاق للكينونة في الكائن " .
إن
كل الفلسفات السباقة (الكلاسيكية ) لم تكن تبحث مسألة الكينونة , و إنما كانت تسعى
لتكنه الكائن , إنها بايجاز "بحث في الكائن " و لنا في النظرة
الأفلاطونية خير دليل على أكادة ذلك , أما أرسطو فكان حديثه الفلسفي حول المحرك
الذي لا يتحرك و الذي هو ""الكائن"" , و ليس
"الكينونة" , و إذا عدنا إلى فريديريك نيتشه صاحب فلسفة "ارادة
القوة " التي هي ارادة الكائن الاعلى و ليس الكينونة .
إذن
ووفقا للطرح الهيدجري فان علة الإهتمام
بالكينونة كامن في اعتبارها " المقولة الأعم " بل هي "مقولة المقولات " .لكن كيف
نصل إلى الكينونة ؟
نقتدر
بلوغ "الكينونة" عبر وسيط هو "الدا-زاين" (الإنسان) , الذي من مؤهلاته المثلى المعينة له
على هذا المبلغ الجلل ((اللغة)) ,و بحكم
هاته الاخيرة يستطيع هذا الكائن أن يدرك الكينونة بخلاف غيره من الكائنات الأخرى ,
و اذا ما رجعنا الى الفن , فهو بحكم قدرته التأهيلية يمكنه أن يكون وسيطا و سبيلا
هاديا للوصول إلى "الكينونة " . كيف له ذلك ؟, كيف يكون الفن أساسا و
منطلقا لمعرفة حقيقة الكينونة ؟
أن
ما يهم هيدجر في الفن و يبتغيه فيه هو "الأصل" , و الاصل هو
""الماهية "" أو بالاحرى "الفن من حيث هو
مـــــــــــاهية . لكن من له اليد الطولى ليكون أصلا في العمل الفني ؟
طبعا
في الادبيات الفنية المعاصرة التي لطالما حذقنا معالمها و درسنا مكنوناتها نجد أن
الأصل في الفن دوما هو "الفنان" , لكن وفقا للرؤية الهيدجرية فإن
الفنان ""علة "" , و ليس "أصلا" ؟
إن
ما يهم هيدجر و يثلج صدره ليس العمل الفني النابع من ذاتية الفنان , و إنما المهم
عنده هو تلك "الماهية " المتخفية , المتحجبة والمتوارية في العمل الفني
, و هاته الرؤية تهدم الطروحات السالفة في فلسفة الأزمة الحديثة "مثل
كانط و نيشته " . فكانط مثلا يحايث كل عمل فني بذات متلقية أو ذواقة للعمل
الفني , فالفن متعالق بالذات كفاعلة و منفعلة في الآن عينه , اذ يقول كانط '' كما
أن الذات تنتج معرفة و أخلاقا فهي كذلك تنتج الجمال و تتذوقه و كل هاته الوظائف
متداخلة " .إن الاهم في العمل الفني هو ذاته و ليس الفنان , و الكينونة تكشف
عن نفسها من خلال "الفن" , و الفن لا يسكن في الفنان بل في العمل الفني
عينه . إن "أليثِّيا" (الحقيقة) , تنحجب و تتوارى ثم تنتظر
"الإنبجاسة أو الانفتاحة , الإنارة , الإضاءة ’ و الإنكشاف عن طريق
"العمل الفني " .و أكثر انكشافات و انبجاسات الفن تكون عن طريق
"الشعر" .
لكن
لماذا الشعر بالذات ؟ أنه بتعبير موجز أطهر و أسمى و أرقى تمظهرات اللغة تكون في
نظم الشعر و الترانيم , و بحكم اللغة هي "بيت الكائن " , و لا يكون هناك
شيء اقدر و أجل في الكشف عن الحقيقة مثل "الشعر" , و هنا يستحضر هيدجر
أشعار هولدرلين بالخصوص .و ترانيمها الوجدية و أُنْطُولوجيتها الموحية و الأخاذة.إنه
مجال مهيب لإنكشاف الحقيقة . و الحقيقة وفق مدلول هيدجر هي في منحى أصلها الماهوي
الفينومينولوجي ,إنها تحيلنا إلى ذاتها , فالفن ليس مظهرا للجميل , إن الحقيقة
ماهية .
2-الإستطيقا عند الفينومينولوجي "موريس ميرلوبونتي "
أنه
لمن باب الحصافة اعتبار الفيلسوف الفرنسي "موريس ميرلوبونتي " واحدا من
أعمدة فلسفة الفن المعاصرة , و هذا ما تبدى جليا من خلال مقارباته الإستيطيقية
الجليلة , و كذلك من خلال مقارباته الفينومينولوجية بالدرجة الأولى , و لنا أن
نشيد بذكر اهم اعماله الفلسفية = العين و العقل (كتاب في الجماليات خصصه لفن
الرسم) , المرئي و اللامرئي , المعنى و اللامعنى , تقريظ الفلسفة , فينومينولوجيا
الإدراك الحسي . و حقيق بنا كذلك أن نعتبر مقاربة "موريس ميرلوبونتي "
في الرسم , هي "مقاربة فينومينولوجية ,و انطولوجية ".بحكم أن الفيلسوف
سيجعل من فن الرسم المنطلق الركيز و المحوري لولوج "حقيقة الوجود " , و
لنا أن نعترف بأنه قلما نجد مقاربات فينومينولوجية ترتبط بالرسم .
لكن ماهو منطلق هاته المقاربة ؟
نحذق
معالم هذه المقاربة من خلال قراءتنا لكتاب " العين و العقل " إذ يبدا في
هذا الكتاب بالذات بنقد العلم , قائلا (( إن العلم لا يصل إلى الحقيقة , فالعلم
الحالي هو علم مرتبط بالتقنية )) , بحكم ان العلم لا يدان له بحذق و تكنه الحقيقة
, كما أنه لا يقدر على نزع الحجاب أو الستار عنها لتنجلي و تنكشف , إن العالم لا
يفكر , اذ يكتفي بإستخدام الأشياء و لكنه ((لا يسكن الأشياء )) .؟؟؟
فالعلم
لا يستطيع الوصول إلى الحقيقة لأنه مشغول بالاستخدام و بالاشياء .أما الفن فإنه
يسعى إلى ((المعنى)) , بخلاف العلم الذي لا يعنى ((بالمعنى)) , و لا يسعى لحذقه و
تكنهه.
فما
يهم العلم طبعا هو "الاستخدام و النجاح " ,أما الفن فهو يهتم بالمعنى .
لكن
معنى ماذا ؟ :((إنه معنى
العـــــــــــــــــــــــــــالم)).
و
في هذه الأطروحة بالذات نتجلى التأثير الهوسرلي "lebenswelt " ((معنى عالم الحياة)) ,
خصوصا في كتابه المركزي " أزمة العلوم الأوروبية و الفينومينولوجيا
الترانساندانتالية " .
لكن
اليس في هذا تناقض صارخ ؟
كيف
يعيش العلم في أوروبا أزمة ؟ , و هو في أوج تطوره و سؤدده ؟
هوسرل
يقر بوجود أزمة , لكن أين هي ؟ إن مكمن مفهومية الأزمة هنا لا ترتبط بالمنحى
المنهجي أو الابستمي , بل إن أزمة العلم المعاصرة هي في (((أنها لا تهتم
بالمعنى))). صحيح أنها نهجت مسلكها مهتمة بالفعالية و النجاح و النتائج الباهرة ,
ووصولها إلى قوانين حياتية دقيقة تساهم جللا في عقلنة العالم لكنها في مقابل ذلك
تغاضت و نأت بنفسها عن ولوج عالم المعنى أو البحث عن المعنى ؟؟؟
إنها
لم تنحو سبيلها و لم تكترث لأمر "المعنى" = حيث معنى العالم , معنى
الوجود , مصير البشرية , معنى الكون ...الخ , للأسف شهدت هاته العلوم "أفول
المعنى" , "ضياع المعنى " .
لهذا
انبثقت الاستطيقا الهوسرلية منادية بصورة جزومية فائقة بضرورة "تكنه
المعنى" , منتهجا الفينومينولوجيا طريقة و من خلالها نصل إلى المعنى
"معنى العالم أو معنى موندا " , لأن علوم التقنية و الآلية لم تقتدر
الولوج الى عالم المعنى و حذقه , إذ وجد موريس متنفسه و مستقره و مستودعه في
"فن الرسم" لان هذا الفن بالذات سيكون اليد الطولى للولوج إلى الحقيقة
"أليثيا" , إن الفن عند ميرلوبونتي و بدرجة أوفى الرسم , يعبر بجلائية
مهيبة و رائقة عن ((إنتمائنا إلى العالم)).
من
خلال الفن و الجمالية نعبر بوضاحة عن انتمائنا للعالم , لكن ماهي واسطة الفن و
لبنته للتعبير عن انتمائنا نحن الكيانات البشرية للعالم ؟
إن
الفن من حيث تعبير عن انتمائنا للعالم , يعتمد على وسيط عتيق عريق هو ((الجسد)).
و
هنا تتعالق و تتلاحم الفينومينولوجية الميرلوبونتية مع الاستيطيقا الجمالية , بحكم
أنها فينومينولوجيا اعتمدت الجسد مركزها و جوهرها , و هذا ما نتجلاه بيانا في كتاب
ميرلوبونتي المركزي ''' فينومينولوجيا الادراك الحسي " .
لكن
ماذا يقصد موريس ب((الجسد)) ؟.
إن
من أدبيات النِّحلة الفينومينولوجية -القطائعية
جملة و تفصيلا بكل ثنائية ممكنة- , فكان لها أن تجاوزت كل فلسفة تشيد بالنزعة
الثنائية (( نفس// بدن )) ,لأن بغيا الظاهراتية ما يتبدى و يتمظهر للعيان المشاهد
, و لا تكترث بتاتا بمن يقول أن هناك شيء مبطون ,كامن و نوميني خلف الظاهرة , فما
يتوارى خلف الظاهرة ((لا معنى له )).
و لهذا
فنحن أمام "الجسد" الظاهر العياني المتبدي , الذي يمكن أن نقول عنه كل
شيء ’,و لا يدان بتخفي أي شيء عنه , إنه الجسد بمفهومه الفينومينولوجي .و نظر
موريس إلى الجسد و مفهوميته وفقا لنمطين أو تصورين هما =
1- الجسد الموضوع (corps-objet) : هذا
النمط من الجسد "واقعي" أي أنه "جسد-موضوع" لأن يكون مجال
للمعرفة العلمية ككتلة فيزيقية و كيماوية , يختص بدرسها أهل التشريح و علماء
الفيزيولوجيا .
2- الجسد الخاص ) corps-propre (
: في هذا النمط من
الجسد لا نكون امام مجرد كتلة نصادفها غفلا في هذا العالم , بل إنه كما يقول عنه
موريس في كتابه "فينومينولوجيا الادراك الحسي " (( إن جسدي هو
"محور" أو "قوَّام العالم" , و هذا يعني أنّي أعي وجود العالم
بوسيط "جســــــــــدي .)) , و يقول في كتابه المثير "المرئي و
اللامرئي" (( إن
جســــدي المرئي , و المتحرك يتشابك في نسيج العالم , و تماسكه هو تماسك شيء ما ,
و بما أنه يرى و يتحرك فهو يمسك الاشياء الدائرة من حوله , و هي بذلك ملحقة به ,
إنها مغروزة في لحمه , و هي جزء من تعريفه الكامل الأتمي , و العالم مصنوع من نفس
نسيج جسدي ))., و نفهم من ذلك أن الجسد وسيط إحقاق وجود الإنسان في العالم , إذ من
خلاله تتبلور "الحضورية في العالم " حضوري أنا كجسد في العالم , لكن
هاته الانتمائية التي يكسبنا إياها جسدنا , يعبر عنها فن الرسم بصورة رمزية أو
بطريقة رمزية .
لكن لماذا كل هاته الاشادة و التبجيل و الإهابة بفن
الرسم ؟
اهتم موريس بفن الرسم اهتماما كبيرا و محوريا , و من بين
اهم الرسامين الذين عشقهم هذا الفيلسوف نجد "الرسام السويسري بول كلي "
, "و الرسام الفرنسي سيزان " إذ كان يذكرهما كثيرا و يستشهد بهما في
كتاباته الظاهراتية .
1-""بول كلي"" :
ينتمي إلى المدرسة الإنطباعية , التي جاءت كرد فعل ضد التيارات السائدة في عهدهم ,
و الشيء الأميز عند هؤلاء الانطباعيون هو التركيز على "الانطباعات" , أي
أن الرسام لما ينهمك في الرسم فهو يعبر عن انطباعاته , و من بين أهم لوحاته الفنية
" الملاك الجديد " .
3-""سيزان"": (cezanne) الذي ينتمي هو الآخر إلى المدرسة
الانطباعية الجديدة , وهو من الرسامين الذين نادو بضرورة اضفاء الدقة و الضبطنة
على رسوماتهم , و ذلك باستعمال الخطوط و الدوائر , و هي التي مهدت فيما عبد لظهور
المدرسة التكعيبية .
إذ يقول "بول كلي" ((إن الفن لا ينتج المرئي ,
و لكنه يجعل الأشياء مرئية )) ., فقديما في غوابر الفلسفات و منها الافلاطونية ساد
اعتقاد جزومي مفاده "" التفسير وفقا لنظرية المحاكاة " , فالفنان
حينما ينتج عملا فنيا معينا فهو يحاكي الحسي الماثل في الطبيعة , و كذلك الأمر عند
أرسطو الذي أقر بالمحاكاة معتبرا إياها سبيلا للتعلم أي بالمحاكاة نتعلم .
أما في فلسفات الأزمنة الحديثة انبجست مسألة الذاتية , و
أصبح الفن يتأسس في كنهه على "الذاتية " , فمثلا ايمانويل كانط حينما
يتطرق إلى العبقرية التي تقتضي الموهبة , يعتبر الفنان هنا ليس فقط شخصية محاكية و
ماثلية و إنما كذلك "مبدعة" , أما هيجل فالفن يكتسي عنده طابعا
تاريخانيا وفقا لمنظور تطورية الروح عبر التاريخ .
إن الفن وفق الاعتقاد "البول كلي " ليس محاكاة
, غذ أنه ليس مجرد إعادة انتاج الواقع , و في هذا دحض و تفنيد لنظرية المحاكاة ,
لأن نظرية المحاكاة هي في حقانيتها عبارة عن عرض للأشياء الموجودة في العالم , أو
بالاحرى مرآة عاكسة لماهو موجود في العالم , إن ذات الفنان سالفا كانت تكتفي بعرض
العالم كما هوموجود ليس إلا ؟؟؟.
لكن هل الفن بجمالياته الاستيطيقية هو مجرد عرض لما يحدث
في العالم فقط ؟
إن الفن ليس عبارة عن عرض لما يحدث في العالم , و إنما
بغياه المثلى هي "التأسيس للمعنى"" . أي تأسيس لمعنى و حقيقة
العالم .
إن الفنان ينتج الحقيقة و يعمد إلى صياغة أليثيا , و لا
يكتفي بعرضها فقط . إذ يتحدث موريس عن الرسام "سيزان " واصفا إياه قائلا
(( إن الفنان لا يُحاكي المظهر , و لكن سيزان يبحث عن "العمق السحيق "
المنحجب المتواري , إنه صورة لإنفجار الكائن و تخارجيته))و نفهم من كلام موريس أن
الفنان ينقِّبُ عن "اللاتحجب" , التواري , التستر , التدثر , ...إنه
يسعى للكشف عن الحقيقة المحجوبة المتخفية ., لكن يجب أن لا نفهم بان الكينونة
المقصودة هنا هي على الشاكلة الهيدجرية ؟؟. بل هي كينونة ذات مدرج جمالي –استطيقي
.
علينا الاقرار في النهاية ان الفن هو انتاج و ادراك و
حذق للحقيقة , و لهذا يصبح الفن مشاركا للفلسفة و مجانبا لها , و تصير وظيفته من
وظيفة الفلسفة .
3-الإستطيقا عند آرنيست كاسيرر
كانت لهذا الفيلسوف مكانة و حظوة جليلة في الفلسفة
الألمانية المعاصرة , إذ كان له السبق في اجراء حوار مع الأنطولوجي الكبير
"مارتن هيدجر" في الثلاثينات من القرن العشرين , وهو سليل أسرة يهودية ,
و لما تملكت النازية زمام الحكم , ارتحلوا إلى بلدان أخرى و على رأسها (و-م-أ), و
ينتمي هذا الفيلسوف إلى ما يطلق عليه "الكانطية الجديدة " (New
Kantisme), و كان من كبار شراح و حُذّاق الفلسفة الكانطية , و لنا أن نذكر
بأن هاته الكانطية الجديدة كان لها فرعان :
1-فرع مدرسة مـــــــــــــــــاربورغ
.
2-فرع مدرسة هــــــــــــــــايد لبرغ
.
و مدرسة "ماربورغ" كانت مصدر اشعاع فلسفي كبير
, اذ كان هيدجر من اعضاء المدرسة .
و كان للكانطية الجديدة حضور قوي في هذه الفترة .
بالاضافة إلى فينومينولوجيا هوسرل , و النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت , إذ كان
هناك خلاف فلسفي كبير و نقاشات فلسفية حادة مع مدرسة فرانكفورت .
اهتم ارنست كاسيرر بالمسألة الفنية الجمالية , و له
مؤلفات كثيرة اهمها كتاب ظهر له عام 1923 , بعنوان (( فلسفة الأشكال
الرّمزيّة )) , مكون من ثلاث اجزاء , و لخصه في كتاب يحمل عنوان "Essai sur l’homme " .
يرتكز نمط كاسيرر في المطارحة الاستيطيقة على مفهومية ((Symbole)) أو "الرمزية" ((symbolisme))
, و يعتقد ارنست كاسيرر بان
كانط في جل مؤلفاته تطرق إلى مسائل مختلفة و لكن هذه المجالات تنصب في (( الرمزية
)) , لها تاريخ و بداية هي الميثولوجيا والاسطورة , و يعتبر الفن شكل من أشكال
الرمزية بالاضافة إلى الدين و الاسطورة و العلم , و اللغة , و الفن . و هاته
الأشكال الرمزية بغيتها ''فهم العالم " , و يكون فهمه بالأشكال الرمزية
جميعها ((بالفن , اللغة , الدين ,’ الاسطورة , العلم )).
فالفن وفقا للمنظور الارنستي هو ""رمزية
"" , اذ اقتنع كاسيرر بفكرة أن العالم "عبارة عن رموز " فحتى
الرياضيات و العلوم هي عبارة عن رموز , فالإنسان هو عبارة عن حيوان رمزي , اذ تبدأ
الرمزية باللغة و العلم و الدين و الفن .
لذلك ففعاليات الانسان هي عبارة عن نشاطات رمزية , و هذا
الكائن لا يتحدد في مقدراته الميتافيزيقية بل في بعده الرمزي , معتبرا ان تعريف
الانسان بأنه حيوان عاقل , هو في الحقيقة تعريف ميتافيزيقي مرفوض رفضا مطلقا ,
ليميل ميلا وضّاحا إلى تعريف الانسان بالحيوان الرمزي , لأن سمة الرمزية تتضمن
الفاعلية الإنسية .
و يقسم كاسيرر الفن إلى ثلاث مراحل هي =
1- الفن الأسطــــــــــــــــــــــــوري
.
2- الفن
التمـــــــــــاثـــــــــلــــــــي .
3- الفن
الــــــــــــــرمـــــــــــــــزي .
ساد الفن الاسطوري عندما كانت
الاساطير تفهم العالم , و هذا ما نجده عند اليونانيين , و في هذه المرحلة لم يكن
الفن مكتملا بذاته و إنما كان تابعا للأسطورة , لأن الصورة الأسطورية سبقت الصورة
الفنية ,إذ أنّ وظيفة الفن هو تمثيل الصورة الأسطورية .ثم جاءت مرحلة "الفن
التماثلي " إذ لم يعد الفن تابعا للأسطورة و إنما قائم في لبه على محاكاة
الطبيعة , و إعادة انتاج ماهو قائم , و هذا ما نتكنهه عند أفلاطون و أرسطو , (الفنان
يحاكي الطبيعة) , ثم جاءت المرحلة الثالثة "الفن الرمزي" الذي يمثل
اكتمالا للفن و بلوغه مرحلة يتجاوز فيها المحاكاة , أو إعادة انتاج العالم الحسي ,
و انما يستعمل الرموز في التعبير عن الصورة الفنية , إنها مرحلة الترميز (Symbolisme), و هنا يصل إلى معنى العالم , و
هذه الرمزية لا تنفصل عن الحرية , و تبدأ هذه المرحلة مع ايمانويل كانط لأنه جاء
بفكرة الذاتية .إذ ان الكانطية لها موقف من الجمالية و الفن , و مكانة كانط مركزية
. و قد تجلى كاسيرر هذا الجانب , الفن كما كان سائدا في الرؤى القديمة , و بعد
مقدمات مع ديكارت و بومغارتن و حين نصل إلى كانط نعتبر المرحلة حاسمة بحكم النظرية
القديمة كانت مرتبطة بالمحاكاة في الفن و هي التي نجدها عند أفلاطون و أرسطو اللذين
يرتبطان بفضاء معرفي واحد هو الاغريقي .فالنظرة السائدة عند اليونان تروي هي تعبير
عن الكون من حيث انسجامه بمعنى ان الكون متكامل , و منسجم و ما على الكون إلا أن
يعبر عن هذا الانسجام سواءا في كيانه المصغر أو المكبر , كما انه في العهد
الاغريقي لم تكن هناك أسماء ألمعية للفنانين لأنه لم يكن مرتبط بالذاتية بل
بالنظرة الكليانية الشمولية , و لم يكن يعبر عن عبقرية معينة و الفن كون صغير في
مقابل كون كبير , و الفنان يعبر عن هذا الانسجام و ليس المطلوب منه أن يبدع بل
يحاكم , فالفن لا يعبر عن ذاتوية معينة بل عن حقيقة متمظهرة في الكون , اما عند
المسيحية تصبح الحقيقة تعبير عن الحقيقة اللاهوتية , و يصبح الفن محاكاة للحقيقة
اللاهوتية الثيولوجية , و عندما يظهر كانط يصبح الفن تعبير عن ذاتية ((عن ذوق و
مشاعر عن أحاسيس )), و يصبح محاكاة للأشياء الخارجية و هنا تبرز مكانة الذات
باعتبارها تنتج الفن من ذاتيتها , و الفنان لا يعبر عن جمال مرتبط بحقيقة كونبة أو
إلهية بل بما يشعر به و ما يتذوقه , إنه نوع من الإناسة الفنية (أنسنة الفن و جعله
يأخذ بعدا ناسوتيا ).
اذن فالفن كان له طابع موضوعي سابقا , ثم اخذ طابعا
ذاتيا .
لهذا تصور ارنست كاسيرر نظريتين لتفسير الفن و الجمالية
=
1- نظريات موضوعاتية (
تنتمي للنمط الافلاطوني و الأرسطي المحاكي للأشياء الخارجية)
2- نظريات ذاتوية (تمثل
تحولا حاسما في تاريخ الجمالية , و التي رفضت المنظور الاغريقي الموضوعاتي
المحاكاتي , و قالت بأن العمل الفني مرتبط بالذات و مخيالها , اذ الفنان لا يحاكي
العالم المحسوس بل يعبر عن ذاته و مشاعره .
--و لكن ما استرهب ارنست كاسيرر و
توجس منه هو أن ينتقل الفن من محاكاة للعالم الخارجي البراني , و يستبدل بالعالم
الداخلي (الجواني), برغم كونه من الكانطية الجديدة إلا أنه يتحفظ من المطارحة
الكانطية الذاتوية في المسالة الفنية
الجمالية .
صحيح أن هناك نقلة من محاكاة العالم الخارجي إلى العالم
الداخلي ( اذ ان الذات كانت غائبة عند اليونان ) , و على النقيض من ذلك عند ارباب
النظرية الذاتوية , فقديما إما أن يتماهى الفنان في الكوسموس أو يتماهى في اللاهوت
((الجداريات في الكنائس)) و لنا في "مايكل انجلو" خير دليل , بخلاف ما
ساد في الازمنة الحديثة أين اصبحنا نتحدث عن الفن من خلال الفنان , فنحن نعرف اسم
الفنان في اللوحة الفنية اذ اصبحنا
أمام الفنانين و لي أمام الفن , و الفن ارتبط بأسماء , و كاسيرر ينبهنا قالا "" النظريات الذاتوية التي تعبر عن العواطف و الأحاسيس قد تنتقل من محاكاة العالم الخارجي إلى محاكاة العالم الداخلي .
أمام الفنانين و لي أمام الفن , و الفن ارتبط بأسماء , و كاسيرر ينبهنا قالا "" النظريات الذاتوية التي تعبر عن العواطف و الأحاسيس قد تنتقل من محاكاة العالم الخارجي إلى محاكاة العالم الداخلي .
اذن ما الحل يا ارنست كاسيرر ؟؟
حتى لا نقع في مطبات المحاكاة بنوعيها (محاكاة العالم
الخارجي ) , و(محاكاة العالم الداخلي ) , يقدم لنا كاسيرر حلا هو ((عالم الأشكال
الرمزية)) , فللتحرر من الأبعاد الداخلية و الخارجية للميتافيزيقا يرى كاسيرر أن
الفن يرتبط بالأشكال الرمزية , و هذه الأشكال ليست من ابداعه هو , لأن لدينا
فنانين معاصرين اقتدروا أن ينقلوا الفن إلى مجاله الرمزي , و هذا ما جعل كاسيرر
يتعلق شديد التعلق بالتجريديين لأنهم اقرب الى الاشكال الرمزية .
4-الإستطيقا عند جيورج لوكاش (1880-1971)
حقيقة لم يحض هذا الفيلسوف المّجَرِّي بكثير دراسة برغم
الاهمية البالغة التي يكتسيها في الدراسات الجمالية المعاصرة , و له تأثير كبير
على الكثيرين خصوصا في وقتنا الحالي , و من أبرز المتأثرين به لوسيان غولدمان ,
لنا أن نقر بانه لا يمكن عزل لوكاش عن المجال الساساتي و السوسيولوجي الذي عاش فيه
, فهو فيلسوف ماركسي , ووصل إلى الماركسية في مرحلة لاحقة, و المجر في تلك الفترة
كانت لها صلة وثيقة بالألمان لهذا كانت الثقافة الالمانية و لغتها مسيطرة بصورة
كبيرة, درس لوكاش في جامعات المانية , و هناك ترنيمة خالدة في الذهنية الجرمانية
في منحاها التاريخي و السايسي هي ترنيمة ثورة 1917, في الاتحاد السوفياتي , و صارت
براديغما يحتذى به من لدن جمهور المثقفين , خصوصا الالمان منهم , و التأثير كان
أبلغ عند الفيلسوف
غيورج لوكاش , بالاضافة الى جماعة مدرسة فرانكفورت , اذا
ما نحن تطارحنا المنحى الفلسفي نجد لوكاش متواجدا في جو "الكانطية الجديدة
" , الفينومينولوجيا , الهيرمينوطيقا , الماركسية ..الخ, بالاضافة الى تيارات
فلسفية كثيرة سادت في تلك الفترة , و غيورج لوكاش مرّ بمراحل =
-تأثر بالكانطية الجديدة خصوصا في مرحلة شبابه , كاسيرر
و كوهان ...و حضورهم كانا مدويا في الساحة الفلسفية , ثم تأتي المرحلة التي تأثر
فيها بالفيلسوف "دلتاي" ثم ينحو سالكا نهج الهيجلية , ثم الماركسية
كتتويج أخير , و حينما نتحدث عن هذه المراحل نتجلى تداخلا , زد على ذلك هناك
انفتاح كبير مقارنة بالماركسيين الارثوذكسيين و بقي فكره متأصلا في الفكر المثالي
الألماني , و أهمية هيجل في كونه مهّد للدياليكتيك , لكن سرعان ما صحح ماركس مسار
الهيجلية الجدلية طبعا .
-لوكاش يقول بأن لهيجل "الجدل" فقط ,بل له
أشياء اخرى لابد من الرجوع إليها "هيجل الشاب" , لكنفكر لوكاش
هيجلي-ماركسي , و لنا أن نعتبر بأن لوكاش ألف الكثير في مجالات مختلفة سواءا في
الفن , السياسة , الأدب , و له كتاب مهم و مركزي بعنوان (( الروح و الأشكال )) ,
(( نظرية الرواية )) , ((التاريخ و الوعي الطبقي )) , (( هيجل الشاب)) , ((وجودية
أو ماركسية *رد على سارتر)), ((معنى الواقعية الجديدة )), (( بلزاك و الواقعية
الفرنسية )), ((تحطيم العقل)) , ((الخصوصية كمقولة جمالية )), لهذا يطلقون عليه
ب(( ماركس الجمالية )).
**فهم الجمالية اللوكاشية:
لا يدان لنا بحذق الجمالية اللوكاشية بمنأى عن الماركسية
, لأن كثير من مطارحاته تبدأ من ((كارل ماركس)) , و حتى لا نتيه في غياهب
الكتابات اللوكاشية الكثيرة و المتشعبة فحقيق بنا من باب النباهة أن نعرج لإشكال
مركزي عند كارل ماركس والذي حاول لوكاش حلّهُ , حينما نعود إلى كتاب ماركس
"نقد الاقتصاد السياسي" نجده يعرج عن المسألة الجمالية الفنية إذ يقول
(( إن نمط انتاج الحياة المادية هو الذي يحدد لنا الحياة الاجتماعية و السياسية و
الفكرية عموما , فليس وعي البشر هو الذي يحدد لهم وجودهم , بل العكس من ذلك , أن
الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم )), و من ثمة فالفن يتحقق بالواقع المادي ,
البنية الفوقية تعني "جملة النشاطات الفكرية و الفنية و القانونية و
الاخلاقية و الايديولوجية و الدينية " , و باعتبار الفن جزء من البنية
الفوقية , يتأسس بالمجال المادي الواقعي الاقتصادي .اذن فكل فن عبر تطوره يرتبط
لزوما بسياق اقتصادي , مادي معيّن, و كل فن يرتبط بمرحلة اقتصادية معينة (فن
اقطاعي , راسمالي , اشتراكي ...) .
-لكن كارل ماركس انتبه إلى إشكالية مهمة ؟
-هناك فن ينال تقدير البشرية جمعاء . و لكأن هذا الفن لا
يتطور بتطور الإقتصاد الاشتراكي فقط , و الاغريق قديما خلّدوا فنونا رائعة ,
التراجيديا , و نحن إلى اليوم لا زلنا معجبين بالترجيديا اليونانية , إنها مرتبطة
بالتاريخ , و لكأن هذا الابداع الفني الاغريقي قد تجاوز اطاره و زمانه و انتقل الى
الكونية و العالمية .
-عند ماركس كيف نفسر خلود هذا الفن الاغريقي على ممر
التاريخ ؟
كان من الاجدر أن لا يخرج الفن الاغريقي عن الاطار
الاجتماعي اليوناني ((العمل حيث كان خاصا بالعبيد )) , البنية اليونانية غير عادلة
, فكيف نفسر فن هذا المجتمع و اكتسائه طابعا فنيا عالميا ؟
كيف له ّأن يتجاوز سياقه التاريخي و قيمته الأبدية ؟و
هذه لا نجدها إلا في الفن .
لوكاش يسعى لإيجاد حل , كيف يمكن للفن أن يكتسب صفة
الخلود و الابدية و صارت مخزنة و محفوظة داخل المتاحف .
-من الاصطلاحات التي تطارحها لوكاش في جانب الاستطيقا
خاصته "مصطلح الكلية"(التوتاليتي)’la totalité’,
و هو مصطلح مركزي عند الفيلسوف ...لكن لماذا ؟
طبعا ...الكلي في مقابل الجزئي , لكن لماذا هذا المصطلح
بالذات ؟ .
لأن هذا المصطلح له تجذرية سباقة في الإرث الفلسفي
الألماني المثالي , فلوكاش لم ينطلق من فراغ , فقبل ماركس كانت هناك مطارحات
مثالية ألمانية , قبل هذا المنعطف بمنحى الماركسية كانت هناك احالات لمثالية هيجل
و فيخته و شلنج...الخ
-مصطلح ((الكلية )) كان له دلالة عند هيجل , و تعني أنه
حينما تتحقق الوحدة بين الذاتي و الموضوعي يزول التناقض , تتحقق الوحدة , تتحقق
المصالحة في العالم و من ثمة تتحقق " الفكرة في التاريخ", فالكلية هي
وحدة الذاتي و الموضوعي ,.
إن "الكلية" تحققت عند الاغريق "اليونان
اقتدرو أن يحققوا الكلية " لكن ماهي الكلية عند الاغريق ؟
إن "الكوسموس" عند الاغريق هو نظام و انسجام
الاجزاء ضمن الكلي و الحق و الخير و الجمال يتحقق بهذا الانسجام الكلي , ومن هنا
تنطلق كل عناصر الكون منسجمة مع بعضها البعض في الكل , ووظيفة الفرد هي أن ينسجم
مع الكلي , و لكن بعد ذلك حصل الانشطار و التمزق , و نهاية الكلية المنتظمة و
المنسجمة .
لكن لماذا فقدت الوحدة الكلية و حصل التشذر ؟
مرد ذلك = إلى الحداثة الغربية الأوروبية , هاته الاخيرة
التي ساهمت في الانشطار , فعند الاغريق كانت الذات منسجمة مع الكون , لكن مع
الحداثة صارت هي المتحكمة و ليست توافقية , و صارت الذات تتسلط على الطبيعة , و
ديكارت يعتبر الذات مالكة للطبيعة , و صارت متجهة بمنحى المنفعة و المصلحة المادية
بالدرجة الاولى , لكن مع الحداثة تشرذمت الكلية و انشطرت .
لنا ان نضرب مثلا بالجسم الاغريقي فهو يعبر عن
الانسجامية أما عصرنا فأصبح صورة عن الانقسام و الشتات , و عبّر لوكاش عن الكلية
بالانموذج الاغريقي و أراد أن يعبر عن العلاقة بين الناسوت و اللاهوت .
هناك نوع من النوستالجيا عند لوكاش للبراديغم الاغريقي
حيث كانت الذاتية منسجمة و متوافقة و مؤتلفة مع الكلية ., لابد لنا ان نستحضر
الكلية الاغريقية لنتجاوز دهمائية التشيؤ , وبحكم أن لوكاش سيعمد للتعبير عن الشرخ
الذي اصاب الازمنة الحديثة ب""الاغتراب"" , فكان المصطلح
الانسب هو ((التشيؤ)) , و خاصة في جانبها الرأسمالي حيث عُرّضت الانسانية
للاختلالات و التصدعات و هذا ما عبر عنه ب"التشيؤ" , و هاته الكلية
ستكون محاولة رائقة جدا لتجاوز التشيؤ و استعادة الكلية الضائعة و بالتالي يتحقق
الانسجام بين الانسان و العالم أو بين الذات و الموضوع .
-لكن هل استرجاع هاته الكلية يكون عن طريق الملحمة كالتي
نهجتها اليونان ؟.
جواب "لوكاش" كان وضاحا بيّنا =هذه الرؤية غير
واردة بتاتا و زمنها قد ولى ؟؟؟
إن استعادة الكلية من الناحية الفنية الجمالية يكون عن
طريق "الرواية" فهي الشكل الأمثل الذي من خلاله تستعيد البشرية الكلية,
لكن لوكاش يعرج في كتابه " التاريخ و الوعي الطبقي " بأن الكلية لا تتم
فقط في الرواية و إنما أيضا في "السياسة" و ذلك عن طريق وعي الطبقة
العاملة (( إذ تتحقق الكلية عن طريق البراكسيس الثوري )).
لكن لماذا الرواية بالذات ؟
لوكاش يعتبر بان الملحمة كانت تعبيرا عن الانسجام و
الوئام بين الفرد و المجتمع , بين البشر و الآلهة , على اعتبار أنه لم تكن هناك
هوة بين الفرد و المجتمع , و بين البشر و الآلهة , فالكل يشكل وحدة متلاحمة , لكن
في زماننا هذا و خاصة منذ الحداثة أصبح العالم يعرف انشقاقات و شروخات بين الانسان
و المجتمع , بين الانسان و الطبيعة , فرار اللاهوتيات كالتي عند الاغريق . إن
الشكل الروائي هو الاصلح من ناحية كونه انعكاسا لعالم متصدع , متقطع , مفتت و
مشروخ .
إن الرواية هي تعبير عن تمزق الكلية و في هذا ظهر كتاب
"نظرية الرواية " اذ يتحدث فيه عن انماط عديدة من الرواية لكونها مرتبطة
بالنقاد الادبيين , فهناك رواية ذات طابع تجريدي ..الخ , حقيقة فالشكل الروائي هو
الاقدر على التعبير و البوح بأسرار هذا العالم الممزق في وقت أصبح فيه الإنسان
عبارة عن ((شيء)) , فالرواية هي الأقدر فنيا من حيث شكلها الفني على التعبير عن
هذا التمزق , اصبحت اكثر تعبيرا عن مختلف اشكال التراجيديا الممكنة , فالملحمة
فيها عناصر عديدة (الهة , ابطال , سحرة ...الخ ), لكن الرواية دائما فيها ((البطل
الإشكالي))؟؟؟؟؟؟.
و لس البطل الملحمي , لأن البطل في الملحمة إنما هو طرف
و ليس ملحمي , لكن في الرواية البطل ""اشكالي"" ؟ , يصبح هو
المركز , لأنه قادر على التعبير عن القيم التي تتجاوز العالم المشيأ , فحتى و ان
كان ماركس مفتتنا بالملحمة الاغريقية فلوكاش عاشق لها كذلك .
درس لوكاش نماذج عديدة من الروائيين نشيد بالذكر منهم
"دوستويفسكي , دولتسوي , غوته , ..الخ., ثم يطورها حينما سيعرف الانعطافة
بمنحى ماركس .ففي وقت كانت فيه البشرية بأمس الحاجة إلى التغيير , و الدعوة إلى
الوحدة و الوئام و الاتفاقية و التلاحم , كان ينظر حينها للماركسية على أنها مجرد
أداة و كان يؤمل أن تكون البديل التغييري , فلوكاش حذق هاته الانعطافة باعتبار
الماركسية هي الصورة المثلى لاحقاق هذه الكلية , لأنها كلية تحقق الانسجام بين
الكل , و الماركسية كانت تمثل حالة من الكلية , و النقلة الى الماركسية و كتاب
"الوعي الطبقي" مكّنه من تعميق مدلول الكلية , لأن هذا المفهوم و مصطلح
التشيؤ يمكن ان يعبر عن مختلف أشكال و مظاهر الضياع و التشتت و الشرخ الذي اصبحت
تعانيه البشرية في ظل المجتمع الرأسمالي و في ظل الحداثة الرأسمالية المتوحشة , و
مدلولاتها المتأزمة , و حينما يحذق
الانعطافة يكتب '"التاريخ و الوعي الطبقي" و يبيّن من خلاله امكانية
تحقيق "الكلية الاجتماعية" , لكن لا يمكن تحقيقها على المنحى التكاملي و
التصالحي إلا عن طريق ((الذات التاريخية)) التي هي البروليتاريا , و يتجاوز بذلك
هذا الانشطار القائم و يجب ان تساهم الرواية و تلعب هي الاخرى دورها الفاعل , ثم
نثب مع لوكاش بمنحى ((الفن الملتزم)) , ففي المرحلة السالفة لم يتحدث لوكاش بعد عن
الرواية الملتزمة , بل نظر للرواية على أنها الفن المعبر عن هذا الشرخ , و لكن في
هذه المرحلة لم يعد يعبر بل اصبح يتجاوز هذا الشرخ فكيف تأتى له ذلك ؟
إن الفن لن يستطيع أن يلعب أي دور إلا اذا كان ملتزما .
و في هاته المرحلة وجد نفسه بحكم كونه فيلسوفا متخصصا في الجماليات و الرواية نوعا
من الاشكال بخصوص الفن الملتزم ؟؟, فالماركسية تحدثت عن الفن الملتزم , و من منظور
الماركسية السوفياتية كانت ترى أن الفنان يسهم في تحقيق هذا التجاوز عن طريق
الفنان الذي يعكس في فنه الواقع , ثم يعبر عن المنحى أو البعد الثوري في فنه .,
((مثلا قيم الاشتراكية المتبلورة في العمل و الانتاج يعمد الفنان إلى تبنيها فنيا
)) , اذ الفن انعكاس لقيم ساساتية و اقتصادية و سوسيولوجية يعبر من خلالها عن فنه
و المنهج المطبق هو "الواقعية الاشتراكية " فتكون الماركسية الارثوذكسية
سائرة على هذا المنحى .
كما نجد كذلك جانبا متعلقا بالرواية التاريخية و فيه ركز
على الرواية , و لكن ضمن سياقها التاريخي و هذا بغية الاندراج ضمن السياق الماركسي
, اذن لوكاش بقي متشبثا بآرائه السابقة و لكن رغم ذلك إذا ما قارنّا بينه و آدورنو
في مسألة الفنية نجد هناك تشابها و تقاربا كبيرين و مع ذلك يختلفان خصوصا فيما
يتعلق بالكلية .اذ ان ادورنو يتحدث عن الجزء باعتباره الاهم و ليس الكل .
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية