الإنسان والاغتراب والحضارة: وجهة نظر تأويلية

الإنسان والاغتراب والحضارة:
وجهة نظر تأويلية

 بقلم: محمد ذنون زينو الصائغ

  مقدمة

  لعل التحدث عن المفاهيم الثلاثة ( الإنسان الاغتراب الحضارة ) وما تحمله من مضامين كل على حدة ، لن يوصلنا الى نتيجة نهائية مقنعة ، وسيلزمنا عشرات بل مئات من المجلدات كمراجع .

لذا سنتحدث عن العلاقة الجدلية ما بين هذه المفاهيم وبشكل موجز ومحاولتنا هذه لا تعدو كونها محاولة تأويلية في هذه المعطيات والعلاقة بينها . ولا نخفي حيرتنا عندما فكرنا في كتابة الموضوع وتلمس بداياته ، ومصادره وأفكاره .

لكننا وجدنا أن تراثنا الديني خير من عبر عن هذه العلاقة ما بين الإنسان والاغتراب والحضارة وافضل المصادر التي نبدأ بها هو كلام الله عز وجل وكتابه ( القرآن الكريم ) .

الإنسان والإغتراب والحضارة

في سورة البقرة التي وردت في القرآن الكريم يتَوضَحَ لنا أحوال الوجود الإنساني المتمثل بـ ( آدم ) . ) وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة  ( سورة البقرة

( الآية 30 ) . فالله عز وجل خلق آدم ليستخلفه في الأرض  ولكن قبل ذلك سكن آدم الجنة  ) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين  ( سورة البقرة ( الآية 35 ) .

توضح لنا هذه الآيات الكريمات فضلاً عن أحوال الوجود الإنساني المتمثل بآدم ، التشبه بالصفات الألوهية لآدم والتي تتعلق بماهية الإنسان التي خلقها الله عز وجل)   فطرة الله التي فطر الناس عليها ((*) سورة الروم ( الآية 30 ) ، فقد أمر الله الملائكة بالسجود له  ) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا  ( سورة البقرة ( الآية 34 ) . وكان أمر السجود تكريما لآدم وليس للتأليه فهو المخلوق الأنبل من مخلوقات الله بما يملكه من كمال لم يعط لغيره من المخلوقات ، فقد منح الله لآدم وللإنسان العلم والمعرفة بعد ان ميزه عن بقية الخلق بـ ( العقل ) ) وعلم آدم الأسماء كلها ( سورة البقرة ( الآية 31 ) .
ثم يبدأ بعد ذلك الحال الآخر للوجود الإنساني عندما يقترب آدم وحواء من الشجرة المحرمة ) فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه ( سورة البقرة ، الآية (36) وهنا بداية الانفصال عن الصفات الإلهية الأصيلة والابتعاد والاغتراب عن الوطن السماوي الام ، فظهرت الهوة العميقة في الصلة بين الله والإنسان بعد أن عصى أمر ربه وأكل من الشجرة المحرمة ، فكان من نتائج ذلك ظهور الثنائية والافتراق فحل الخجل محل الحب والبعد محل القرب من الله . فبدأ الحال الآخر للوجود الإنساني بأمر الله لآدم وحواء بالهبوط من الجنة الى الأرض ، وفيها انفصل الإنسان عن عالم الألوهية . فانتقل من الطمأنينة الى الحيرة والقلق والألم والمعاناة . ومن القرب من الله الى البعد والانفصال والشوق (1) .
لقد تصرف آدم ضد أوامر الله وارتكب المعصية . وبسبب ارتكابه المعصية اصبح الإنسان منفصلا عن الله والطبيعة . لقد اتخذ الخطوة الأولى نحو أن يصبح إنساناً بأن يصبح   ( فردا ) . وتوضح القصة المعاناة الناجمة عن هذا الفعل ، فقد ارتكب الفعل الأول للحرية المقترن بالعقل . ولكنه اغترب عن الطبيعة ووجد نفسه وحيدا وحرا ومع هذا عاجزا     وخائفاً (2) . ولكن هذا الإنسان ليس ملعوناً بل يوجد بوصفه موجوداً في أزمة ) اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع الى حين ( سورة البقرة ( الآية 36 ) . ان لحظة هبوط الإنسان على الأرض وسيطرة النفس اللوامة عليه هي من اشد لحظات الإنسان الوجودية عمقاً واكثرها مدعاة للتوتر والقلق والتأزم مما حدا بأحد الباحثين أن يطلق عليها وصف ( الاغتراب )(3) . ثم تجلى اغتراب الإنسان عن الله وعن الطبيعة وبشكل أوضح في أول الخلق بأبناء آدم ( قابيل وهابيل ) . فبعد أن وضعت حواء توأمين هما قابيل وأخته وهابيل وأخته . وبعد ان كبر التواءم ، أوحى الله الى آدم أن يزوج كل فتى من أخته غير التوأم . وبهذا الأمر الإلهي أفضى آدم الى أبنائه راجيا أن يكون قوله الفصل .
إلا أن قابيل ثار وتمرد ولم ينزل على إرادة أبيه ، لان نصيبه اقل جمالا من نصيب أخيه ، وود لو تكون توأمته من نصيبه دون أخيه فدخلت الحيرة من جديد في نفس آدم وتوزعت نفسه بين رغبة الابنين وبين الإبقاء على السلام بينهما والامان الى أن هداه الله عز وجل الى مخرج يسد به مهب الريح فطلب اليهما أن يقرّب كل منهما قرباناً الى الله فأيهما تقبل قربانه كان أحق بما اشتهى وأراد فقدّم هابيل حملا من أنعامه وقدم قابيل قمحاً من زراعته وكل منهم كان في صدره يترقرق فيض الأمل راجياً أن يظفر بقصب السبق وأن يحوز أعواد الرهان فكان هابيل موفور الحظ موفق الخطوات ، فتقبل قربانه ولم يتقبل قربان أخيه  لانه لم ينزل على حكم أبيه ولم يخلص النية في قربانه . فثارت ثائرة قابيل ولم يرض من جديد على القسمة الإلهية ولم تشفع آصرة الاخوة أمام ذلك الحقد المتقد في صدر قابيل  فحدث ما كان في الحسبان ) قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ( سورة البقرة ( الآية 30 ) ففي ساعة من ساعات الفلك الدائر ولنزوة دنيوية من نزوات النفس الجامحة ، وقعت الواقعة فراح هابيل قتيلاً بيد أخيه فريسة للحمق والجهالة فكان أول من قتل على ظهر الأرض (*)(*)‑وما عرف قابيل كيف يواري جثة أخيه فحمله في جراب على ظهره وظل يدور به وهو حائر وقلق ومعذب ، الى أن هبطت رحمة الله عز وجل وعنايته الإلهية ، فبعث  الله غرابين قتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره ووارى جثته تحت التراب  وكان قابيل يراقب هذين الغرابين فاستشعر الندم والحسرة والخجل من جديد ، لا سيما بعد ان عجز كيف يواري سوأة أخيه ؟ وتعلم من الغراب (4) .
ويتضح لنا مما تحمله القصة من معاني ، ان الإنسان الأول متمثلا في ( قابيل ) قد عانى من الاغتراب أشكالاً متعددة ومركبة . فتمرده على السلطة الإلهية انفصال واغتراب عن الأوامر الشرعية التي قدر لها الله عز وجل أن تكون بهذا الشكل وارتكابه للجريمة الأولى في تاريخ البشرية انفصال واغتراب في النفس التي تتنازعها نوازع الخير التي فطر بها الله الإنسان ، ونوازع الشر التي اقسم الشيطان أن يغوي بها بني آدم ليزرع الشقاق والعداوة بينهم (*)(*)(*) أما حيرته في مواراة سوأة أخيه فهي اغتراب وانفصال عن الطبيعة .
وظل بنو آدم وقابيل حائرين مستلبين أمام الطبيعة وقواها الخفية المخيفة واهتدى فكر الإنسان في مرحلة ما الى تقديم القرابين والأضاحي للطبيعة ، ليستدر عطفها ولينعم بما تجود عليه وليهدئ من روعها وثورة غضبها ، فقدم لها من صيده ثم من زرعه لعلها ترضى وتسكن ، ولكن ظلت الطبيعة تعاقب الإنسان وما هدأت ثورتها فشعر أن قرابينه بخسة ولم ترضها فقدم لها من نسله ولكن !؟ ما كان له ما تأمل وبقيت معاندة فهداه فكره من جديد الى انه لابد له في معركة البقاء هذه من ان ينتصر ويقهر قوى الطبيعة ويسيطر عليها وإلا !؟ فان فناؤه على يديها لا محالة ، لا سيما وانه الطرف الأضعف في الصراع فظهرت الحضارات والمدنيات التي ابتدعها الإنسان لينتصر على الطبيعة وليأمن شرها (*)(*)(*)(*)  فعرف الزراعة وتصنيع المعادن وبنى البيوت واستقر وتطورت العلوم .
ومرت فترة تهادن فيها الإنسان مع الطبيعة وعاش في مأمن من بطشها بعد أن وصل الى مستوى من التوازن في القوى بينه وبين الطبيعة .
ثم خرق الإنسان هذه الهدنة وثار ثورته الصناعية في بدايات القرن الماضي   
( العشرين ) وبدل أن تقضي الحضارة والمدنية والتصنيع على مشاعر الاستلاب الإنسانية أمام قوى الطبيعة اصبح الإنسان يعاني من استلابات واغترابات استحدثها بنفسه ليس أولها الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية التي صار الإنسان عبدا لها ولا آخرها الآلة التي أخذت تتحكم بمصيره وقدره .
فتغيرت مسببات الاغتراب وبقيت المشاعر .
أما الطبيعة فيبدو أن الإنسان وبعد أن قوي بمعارفه وآلاته وسيطر بالعلم والتكنولوجيا والحضارة والمدنية عليها ، أو ربما الأصح على جزء كبير منها ، تذكر ثاراته معها وصراعه المرير في معركة البقاء  فبدأ يستغلها ويستلبها ويستنفذ قواها ببشاعة (*)(*)(*)(*)(*) .
ولم يقف الإنسان عند هذا الحد بل بدأ يشوهها ويستخف بها ، فلوثت منتجاته ومخلفاته الطبيعة الأرض  فعادت من جديد احتمالية الفناء الإنساني في معركة البقاء أمام الطبيعة إلا أن ميزان القوة هذه المرة يميل لصالح الإنسان .
لقد اصبح كل شيء يجري كما لو أن ( الإله التقنية ) قد أضحى شيطاناً يطلب على الدوام المزيد من التعجل ، فالجماعات البشرية بدأت بأسرها تستخدم كمجموعة ( باحثين ) علميين يسخر وجودها لخدمة المذابح ضد هذا الوجود وليس خدمة الحياة الإنسانية (5) .
أما الاغتراب فسيظل بنو الإنسان يتوارثون مشاعره مع تغير المسببات ولعل مأساة الاغتراب هذه التي يعيشها بنو آدم وقابيل ستنتهي عندما يعودون الى جوف الأرض     الام  وتعود النفس المطمئنة الى ربها راضية مرضية (*)(*)(*)(*)(*)(*)  .

المصادر والهوامش
(*)     ماهيته الخالصة عن الدنس الدنيوي المادي الذي كان قد نهي عنه في صيغة تحريم أكله للثمرة .
1-          محمود رجب / الاغتراب سيرة ومصطلح / ط3 / القاهرة / مطبعة دار المعارف /   1988 / ص 178 و 179 بتصرف .
2-          أريك فروم / الخوف من الحرية / ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد / بيروت / المؤسسة العربية للدراسات والنشر / 1972 / ص 35 بتصرف .
3-          محمود رجب / مصدر سابق / ص 179 و 180 .
(*)(*)  لجون متلر فرض مؤداه ( وجود علاقة بين الاغتراب والجريمة ) ، واكد ميشيل فايا أن درجة الاغتراب العالية ترتبط بالدرجة العالية لإدراك التفاوت البنائي والتفاوت الشخصي وفي ضوء العلاقة بينهما وبين السلوك الاجرامي نجد هناك ارتباط مباشر .
4-          محمد احمد جاد المولى  / قصص القرآن / بيروت / دار الكتب العلمية / 1978 /    ص 11 و 12 و 13 و 14 بتصرف .
(*)(*)(*)  يرى سيغموند فرويد أن السلوك الاغترابي يقع نتيجة الانفصام بين قوى الشعور واللاشعور فيصبح الفرد بعيدا عن ذاته لا يلمسها لان الرغبات المكبوتة هي التي تحرك   سلوكه .
(*)(*)(*)(*)  في تفسيره لظاهرة ( الاغتراب ) ، يرى توينبي أن بعض الأماكن التي نشأت فيها الحضارة لم تكن ملائمة أو ذات شروط مشجعة ، بل هي أماكن قاسية أو تتمتع بمزايا صعبة ، وتبعاً لذلك وبدافع غربة الإنسان عن الطبيعة الصعبة تحفز باتجاه مجابهة الصعوبة والسيطرة على الطبيعة بوساطة الفعل الحضاري وبذلك يفسر توينبي الاغتراب عن الطبيعة بأنه واحد من أهم أسباب نشوء المدينة ، وقد عبر عن ذلك بنظريته المعروفة بـ ( التحدي والاستجابة ) .
(*)(*)(*)(*)(*) كان اكتشاف المصادر الجديدة للطاقة قد أحدثت الثورة الصناعية ، وقد تجاوزت هذه الثورة قدرة المجتمعات على التمثل ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل ان ثورات تقنية أخرى بدأت تظهر وتزيد من خطر الوضع الإنساني .
5-           ريمون رويه / الممارسة الأيديولوجية / ترجمة عادل العوا / ط1 / بيروت / منشورات / عويدات / سلسلة زدني علماً / 1978 / ص 9 .
(*)(*)(*)(*)(*)(*)  قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) لعبد الله بن عمر ( رضي الله عنه )    [  كن في الدنيا كأنك غريب وعد نفسك من أهل القبور ]  .
المراجع والمصادر
     القرآن الكريم
1-       اريك فروم / الخوف من الحرية / ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد / بيروت / المؤسسة العربية للدراسات والنشر / 1972 .
2-       ريمون رويه / الممارسة الأيديولوجية / ترجمة عادل العوا / ط1 / بيروت / منشورات عويدات / سلسلة زدني علماً / 1978 .
3-       محمود رجب / الاغتراب  سيرة ومصطلح / ط3 / القاهرة / مطبعة دار المعارف / 1988 .
4-       محمد احمد جاد المولى / قصص القرآن / بيروت / دار الكتب العلمية 1978  .







تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس