فرنسيس بيكون
(1561- 1626)
ا.د. ابراهيم طلبه سلكها
رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة طنطا
فرنسيس بيكون (1561- 1626)
أولاً: حياته ومؤلفاته:
فرنسيس بيكون فيلسوف إنجليزي
متعدد المواهب، موسوعي، برز في ميادين السياسة والقانون والأدب والفلسفة والعلم،
وحقق لنفسه أرفع المناصب في بلده ، وكان أبوه السير نيقولا بيكون وأمه لادي بيكون
وهي سيده قد عرفت بالتقوى والعلم . درس في جامعة كمبردج وهو في الثانية عشرة من
عمره، وخرج منها بعد ثلاث سنوات دون أن يكمل دراسته، وقد نفر مما يدرس على طريقة
أرسطو والمدرسين ، وفي سن الثامنة عشرة مات أبوه ولم يورثه شيئًا فتحول إلى دراسة
القانون لعله يصل عن طريقه إلى منصب ما. وفي سن الثالثة والعشرين صار عضوًا
بالبرلمان وكاد يعين في منصب النائب العام لولا أنه انتقد سياسة الضرائب في
البرلمان فأضاع على نفسه المنصب، وتعلم أن الإخلاص في السياسة غير مجز.
وعينه جيمس الأول محام
عامًا، ثم نائبًا عامًا وأخيرًا وزيرًا أول في سن السابعة والخمسين. ومنح لقب
بارون ثم فيكونت، لكنه في الستين أدين
بالرشوة وجرد من ألقابه ووظائفه ومنع من تقلد الوظائف العامة، وأسقطت عنه عضوية
البرلمان، وحكم عليه بالسجن لكنه لم يقضي فيه غير أيام بسبب شيخوخته، وشغل نفسه
بقية عمره بتدوين الكتب وخدمة العلم.
ومن أهم مؤلفاته:
"رسالة في تقدم العلم" و"حكمة القدماء" و"تنمية
العلوم" و"الأرجانون لجديد" و"أحكام القانون" .... إلخ.
والحق أن لبيكون أهمية دائمة
كمؤسس للمنهج الاستقرائي الحديث وكرائد لمحاولة تنظيم الإجراء العلمي تنظيمًا
منطقيًا.
ثانيًا: المنطق الجديد عند بيكون:
1-
نقد العقل:
لقد وضع فرنسيس بيكون نصب
عينيه مهمة إقامة منهج علمي جديد يرتكز على الفهم المادي للطبيعة وظواهرها وكان
على شعور تام وإحساس صادق بحاجة عصره إلى المنهج، ولذلك فقد صمم على أن يكون
فارسًا في هذا الميدان.
رأى بيكون أن التجربة الحسية
هي منطلق المعرفة الأول ثم يأتي بعدها عملية استخراج النتائج والتي يجب أن تتم
بحذر وعلى مهل. وقد دفعه ذلك إلى توجيه انتقادات حادة إلى المدرسيين والقدماء
لاكتفائهم بالتأمل النظري حول الطبيعة وإهمال ملاحظة ظواهرها المختلفة عن طريق
التجربة الحسية. ولهذا طالب بيكون بضرورة إصلاح المنطق الأرسطي وتعديله بل
والاستعاضة عنه بمنطق جديد.
ووجد بيكون أن الطريقة
المثلي هي أن يجمع الباحث بين التجربة والتفسير العقلي. فالتجربة المحضة أشبه بعمل
النمل الذي يقتصر على الجمع والتكديس، والعقلية المحضة أشبه بعمل العنكبوت الذى لا
يستفيد في نسيجه شيئًا من خارجه. أما الفيلسوف الحق فيجب أن يكون كالنحلة التي
تجني من كل جانب ثم تقوم بهضم ما جمعته وتحويله بفعل طبيعتها الخاصة إلى شيء جديد
تمامًا.
ويقرر بيكون في نقده للعقل
وقدسية الأقدمين أن العقل أداة تجريد وتصنيف ومساواة ومماثلة: إذا ترك يجرى على
سليقته انقاد لأوهام طبيعية فيه، ومضى في جدل عقيم، وهذه الأوهام ليست مجرد أخطاء
في الاستدلال، بل هي عيوب في تركيب العقل يجب التحرر منها، وقد حصر بيكون هذه
الأوهام الطبيعية في أربعة أنواع:
1-
أوهام القبيلة:
وهي ناشئة من طبيعة الإنسان،
لذا كانت مشتركة بين جميع أفراده. فهى تقع لنا لمجرد كوننا بشرا، أنها مرتبطة
بطبيعتنا البشرية، وبقبيلة الإنسان أو جنسه: فنحن ميالون بالطبع إلى تعميم بعض
الحالات دون الالتفات إلى الحالات المعارضة لها، وإلى تحويل المماثلة إلى تشابه،
وإلى أن نفرض في الطبيعة من النظام والاطراد أكثر مما هو متحقق فيها وإلى أن نتصور
فعل الطبيعة على غرار الفعل الإنساني فنتوهم لها غايات وعللاً غائية، وكل هذا يفسح
المجال أمام تولد الخرافات والمعتقدات أو الأساطير الخاطئة.
2-
أوهام الكهف:
هذه الأوهام ناشئة عن
الطبيعة الفردية لكل منا، فهي أوهام كل فرد باعتبار أن لكل إنسان كهفًا خاصًا به
وحده يرى كل شيء من خلاله. والمقصود بها تدخل الاستعدادات الخاصة بكل فرد وعوامل
ثقافته وتربيته وبيئته الاجتماعية وكذلك السلطة التي يكتسبها من يحترمهم ويعجب بهم
في تحديد نظرته للأمور وإصداره الأحكام. هذه الأوهام إذن صادرة عن التربية
والاستعدادات الأصيلة والعلاقات الاجتماعية.
3-
أوهام السوق:
ترتبط تلك الأوهام بتحكم
الألفاظ في تصوراتنا للأشياء، وهي تنشأ من التجارة واجتماع الناس بعضهم بعض مما
يؤدي إلى سيطرة لغة أهل السوق والعامة من الناس. ونتيجة لذلك تتواجد ألفاظ لأشياء
غير موجودة أو تكون الألفاظ غامضة ومتناقضة. وهكذا يمكن أن تستبد بنا الألفاظ
فيصعب علينا الخلاص من سحرها وتأثيرها. ولعل هذا ما يفسر لنا طابع القداسة الذي
كانت تحمله بعض الألفاظ في المجتمعات البدائية.
4-
أوهام المسرح:
وهي الآتية مما تتخذه
النظريات المتوارثة من مقام ونفوذ. وهنا يحمل بيكون على أرسطو وأفلاطون وغيرهما من
الذين يفسرون الأشياء بألفاظ مجردة كما يقول. وهذه الأوهام ليست فطرية في عقلنا،
بل تأتيه من الانقياد للآراء الخاطئة.
تلك هي المعوقات التي يجب
التحرر منها للوصول إلى الحقيقة. لكن هذه المهمة السلبية لا تكفي بحد ذاتها، بل
لابد من منهج جديد في البحث. وهكذا اتجه بيكون بعد نقده للعقل إلى وضع خطوات هذا
المنهج الجديد الذي اتفق على تسميته بالمنهج الاستقرائي.
2-
المنهج الاستقرائي:
المنهج الاستقرائي يمثل
القسم الإيجابي من المنطق الجديد عند بيكون ويعد منهجًا جديدًا لاكتشاف المعرفة
الحقة في مقابل القياس. فإذا كان المنهج القديم يرمى إلى ترتيب الموجودات في أنواع
وأجناس، فإن المنهج الجديد يهدف إلى تحليل الظواهر المعقدة إلى عناصرها البسيطة
وقوانينها. ويتم ذلك من خلال خطوات معينة هي خطوات الاستقراء:
أولاً:
مرحلة الجمع:
في هذه المرحلة نقوم بعمل
سجل بتاريخ الظاهرة المراد دراستها تدون فيه كل المعلومات التي يمكن جمعها عن هذه
الظاهرة وذلك عن طريق:
1-
تنويع التجربة : وذلك بتغيير موادها وكمياتها وخصائصها وعللها
الفاعلة.
2-
تكرار التجربة : مثل تقطير الكحول الناتج من تقطير أول.
3-
مد التجربة : أي إجراء تجربة على مثال تجربة أخرى من تعديل في
المواد.
4-
نقل التجربة : من الطبيعة مثلاً إلى الفن كأيجاد قوس قزح في
مسقط ماء، أو من فن إلى آخر، أو من جزء إلى جزء آخر.
5-
قلب التجربة : مثل الفحص عما إذا كانت البرودة تنتشر من أعلى
إلى أسفل بعد أن نكون عرفنا أن الحرارة تنتشر من أسفل إلى أعلى.
6-
إلغاء التجربة : أي طرد الكيفية المراد دراستها، وإذ أننا قد
لاحظنا أن المغناطيس يجذب الحديد خلال أوساط معينة فعلينا أن ننوع هذه الأوساط إلى
أن يقع على وسط أو أوساط تلغي الجاذبية.
7-
تطبيق التجربة : أي استخدام التجارب لاستكشاف خاصية نافعة مثل
تعيين مبلغ نقاء الهواء وسلامته في أمكنة مختلفة أو فصول مختلفة بتفاوت سرعة
التنفس.
8-
جمع التجارب : أي الزيادة في فاعلية مادة ما بالجمع بينها وبين
فاعلية مادة أخرى.
9-
صدق التجربة : أي أن تجرى التجربة لا لتحقيق فكرة معينة. بل
لكونها لم تجد بعد، ثم ينظر في النتيجة ماذا تكون؟ مثل أن نحدث في إناء مغلق
الاحتراق الذي يحدث في الهواء.
ثانيًا:
مرحلة الترتيب:
بعد الانتهاء من هذه الخطوات
التسعة (مرحلة الجمع) نقوم بترتيب المعلومات التي حصلنا عليها وتوزيعها في ثلاثة
جداول رئيسة:
1-
جدول الحضور : تسجل فيه التجارب التي تبدو فيها الكيفية
المطلوبة، وتستبعد الظواهر التي لا توجد في تجارب هذا الجدول والهدف من هذا الجدول
هو فحص ظاهرة أو صفة بعينها والبحث عن جميع الأمثلة التي توجد فيها بشرط أن تكون
هذه الأمثلة متنوعة ومختلفة إلى أكبر حد. وقد درس بيكون ظاهرة الحرارة فوضع في
جدول الحضور 27 حالة توجد فيها الحرارة كأشعة الشمس والصواعق والأجسام الحية
والاحتكاك........ إلخ.
2-
جدول الغياب: تسجل فيه التجارب
التي لا تبدو فيها الكيفية والتي تكون أشبه ما يمكن بتجارب جدول الحضور. وهنا نجد
بيكون وقد أحصى الحالات المقابلة التي ذكرها في جدول الحضور أي الحالات المقابلة
التي تغيب أو تختفي فيها الحرارة . ولقد رصد في هذا الجدول 27 حالة مقابلة 27 حالة
التي ذكرها في جدول الحضور مثل كسوف الشمس حيث تختفي الأشعة وتغيب الحرارة.
3-
جدول المقارنة: تسجل فيه التجارب
التي تتغير فيها الكيفية، فتستبعد الظواهر غير المتغيرة، فتكون الصورة المنشودة هي
الباقي وقد قام بيكون بإحصاء جميع الحالات التي توجد فيها الحرارة، بدرجات مختلفة
تزيد وتنقص مع محاولة البحث عن سبب زيادة الحرارة أو سبب نقصها في الحالات التي
جمعها.
ثالثًا:
مرحلة العزل أو الاستبعاد:
وفيها نستبعد كل الخصائص
العرضية التي لا تصلح لأن تكون علة حقيقية للظاهرة، أي التي لا تستوفي الشروط
الحقيقية للعلية. فلقد وجد بيكون بعد إحصاء الحالات فى الجداول التي أشرنا إليها
أن الحركة هي علة الحرارة ووصل إلى هذه النتيجة بعد أن وجد أنه كلما وجدت الحركة
وجدت الحرارة وكلما اختفت الحركة اختفت الحرارة، وكلما تغيرت سرعة الحركة تغيرت
نسبة الحرارة ، بمعنى أنه كلما تغيرت الحركة سرعة أو بطئًا تغيرت درجة الحرارة
تغيرًا متوافقًا معها من حيث الزيادة والنقصان.
رابعًا:
مرحلة التحقيق أو الإثبات:
وفيها يتم تحقيق الغرض
وإثبات صدقه، وبالتالي الوصول إلى قانون عام. فالعلة التي وصل إليها بيكون في
المرحلة السابقة وهى "أن الحركة علة الحرارة" هي علة مؤقتة أو هي فرض
على يجوز صحته وفساده. ولذلك يحاول بيكون في مرحلة التحقيق هذه أن يعطي طريقة
لإثبات صحة هذا الفرض.
هذه هي خطوات المنهج
الاستقرائي عند بيكون، ولا شك أن هذا الوصف المفصل الذي قدمه لنا بيكون حول منهجه
يعد تقدمًا حقيقيًا بالنسبة لعصره ولكن من الملاحظ أيضًا أن بيكون لم يفهم
الاستقراء الفهم الحديث الذي يجعل منه منهجًا للقانون الطبيعي الذي يعلق ظاهرة
بأخرى. ومن ثم أصبح منهجًا يوضح صور الكيفيات وبالتالي يقف في مرحلة وسط بين
الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة.
ولذا نجد أن كثيرًا من
الباحثين قد نقدوا هذا المنهج ، منهم من أنكر على بيكون جدة منهجه، ومنهم من أنكر
محاولته الميتافيزيقية في معرفة الخواص الذاتية للأشياء بعد تحديد صور كيفياتها،
ومنهم من أنكر عليه إغفاله للفروض التي هي ألزم ما تكون للمنهج التجريبي.
ولا شك أن عدم اهتمام بيكون بالفروض يعد نقصًا في المنهج التجريبي
وهو الذي ترك مجالاً أمام جون ستيوارت ليأتي فيعدل من منهج بيكون تعديلاً كبيرًا
ويضعه على أسس جديدة لا تزال مستعملة حتى اليوم.
ثالثًا- تصنيف العلوم:
لم يكن ما يريده بيكون من
العلم هو زيادة معلومات الإنسان عن الطبيعة وإنما هو العلم الذي يسيطر به الإنسان
على الطبيعة ويغير به نوع حياته على الأرض. والحق أنه نفذ إلى ماهية العلم
الاستقرائي، وحاول أن يرسم بناءه، ووضع تصنيفًا له، وأفاض في شرح طرقه التجريبية.
حاول بيكون ترتيب العلوم
القائمة بحسب قوانا المدركة التي يحصرها في ثلاث قوى: الذاكرة والمخيلة والعقل.
الذاكرة : موضوعها
التاريخ، والتاريخ قسمان: تاريخ مدني خاص بالإنسان، وتاريخ طبيعي خاص بالطبيعة.
والتاريخ المدني ينقسم إلى قسمين: تاريخ كنسي، وتاريخ مدني بمعنى الكلمة ينقسم
بحسب الوثائق التي نستخدمها من مذكرات وتراجم سياسية وأدبية وعلمية وفنية.
والتاريخ الطبيعي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: وصف الظواهر السماوية والأرضية ووصف
المسوخ التي تكشف عن القوى الخفية في الحالات العادية، ووصف الفنون باعتبارها
وسائل الإنسان لتغيير مجرى الطبيعة.
المخيلة : موضوعها
الشعر، والشعر ينقسم إلى شعر قصص، وشعر وصفي وشعر تمثيلي، وشعر رمزي وهو عبارة عن
تأويل للقصص والأساطير واستخلاص ما تنطوي عليه صورها من معان وهو تأويل قديم كان
شائعًا في عصر النهضة.
العقل : موضوعه
الفلسفة، والفلسفة تتناول ثلاثة موضوعات: الطبيعة والإنسان والله. فهناك الفلسفة
الطبيعية التي تنقسم إلى ما بعد الطبيعة أو علم العلل الصورية والغائية، وإلى
الطبيعة أو علم العلل الفاعلية والمادية وهي تنقسم إلى الميكانيكا والسحر.
وهناك الفلسفة الإنسانية أو
الفلسفة الخاصة بالإنسان وتنقسم إلى ما يتناول النفس (علم العقل أو المنطق وعلم
الإرادة أو الأخلاق)، وما يتناول العلاقات الاجتماعية والسياسية.
أما الفلسفة الإلهية أو
اللاهوت الطبيعي يمهد له بعلم الفلسفة الأولى، أو علم المبادئ الأولية مثل أن
الكميات المتساوية إذا أضيفت إلى كميات غير متساوية نتجت كميات غير متساوية، وأن
الحدين المتفقين مع حد ثالث منهما متفقتان، وأن كل شيء يتغير ولكن لا شيء يفنى وما
إلى ذلك، وهذا العلم هو الجذع المشترك بين علوم العقل.
لكن ترى إلى أي حد يمكن قبول
تصنيف بيكون هذا للعلوم،؟ من الواضح أن هذا التصنيف ينطوي على نقاط ضعف عديدة:
1- أنه تصنيف ذاتي يعتمد على
قوانا المدركة.
2- يظن بيكون أن الواحدة من قوى المعرفة تكفي لقيام
علم واحد، وهذا خطأ ذلك أن العلم الواحد تتضافر في إقامته القوى جميعًا مع وجود
تفاوت بين العلوم.
3- أنه يضع القوى الإدراكية في
مرتبة واحدة في حين أن العقل أرقى من القوى الإدراكية الأخرى.... إلخ.
وقد انكر
عليه النقاد محاولته الميتافيزيقية فى معرفة الخواص الذاتية للأشياء بعد تحديد صور
كيفياتها،ومنهم من انكلر عليه اغفاله للفروض التى هى ألزم ماتكون للمنهج العلمى .
راجع كتاب " اتجاهات فى الفلسفة الحديثة
" لكاتب هذه السطور
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية