ثنائية الألم و الأمل في شعر فاطمة مرغيش
بقلم : محمد بعدي
على
سبيل البدء
يشكل
نص "بعد آخر" للشاعرة المغربية فاطمة مرغيش فيضا من نبض يحوي بلغة
شاعرية مطوعة ترجمة لخلجات إنسانية تجاوز الذات تجاه قصدية كلية تنهد للمطلق. إنه
نص وجودي إنساني يحكي قصة الوجود البشري في انكساراته و هزائمه و عبثيته ... و من
جهة أخرى في تطلعاته و آماله و فاعليته... و سنحاول في هذه الرحلة المتسرعة و
المستعجلة الوقوف عند بعض محطات هذا النص من خلال العنوان التالي: ثنائية الألم و
الأمل في شعر فاطمة مرغيش.
عناوين
القصائد... مفاتيح الذات المتألمة الآملة
إن المتفحص
لعناوين قصائد ديوان "بعد آخر" لا يحتاج كبير جهد لإدراك الدلالات
المفعمة بالألم من جهة، و من جهة ثانية تلك التي يكتنفها الأمل... هكذا نقرأ على
سبيل المثال بخصوص القاموس الحزين: ريح، فراغ، احتراقات، عبث، خيبة، بوار، خوف...
بل حتى بعض القصائد التي تشكل عناوينها انزياحا عن هذا المعى نجد مضامينها مثقلة
بالخيبات... و عندما نعود إلى هذه العناوين نجد الألم و مشتقاته يطبعانها بطابع لا
يمحى فالريح مثلا عصف يأكل كل ما يقف في الطريق، أما الفراغ فداء يملأ الوجود
بالضيق، و الاحتراق جمر ملتهب لا نفس له تطيق، و الخيبة هم لا يرضاه عدو و لا
صديق، و العبث و البوار و الخوف... كلها بقاموس الألم تليق... غير أن سوداوية الهم
و الألم لا تلغي فسحة الأمل كما في عناوين أخرى: رغبة، ريح من هواك، وجد، فيض، كيف
أعانق لذتي؟، موعد، لقاء، نبي... إنها عناوين يمكن أن تشكل بلسما يخلص الذات من
عذاباتها و يرتقي بها في مدارج السالكين سبل الأمل، الواثقين من نصر الحب.
فلسفة
الألم أو الذات المنفعلة..
نقصد
بفلسفة الألم في هذا المقام نسقا من الأفكار التي تبوح بها الذات الشاعرة، و هي
أفكار تمتح من واقع وجودي هزته ريح الألم و أعيته الشكوك، حيث يبدو هذا الوجود
عاريا من كل يقين، صامتا، فارغا حد العبث، غلاته الخيبات، و صناعة الأمل فيه
تبور... وجود يخلع عن العقل رداء العقل... تقول الشاعرة في ما يشبه المكاشفة الصوفية:
أتدرج مقاماتي،
أبلغ مقام الجنون..
لا يقين.. {ص 18}
إنه
الألم الذي يسبب غربة الذات عن ذاتها
فيصير الجنون مرقى من مراقي تدرجها في حيرتها و بحثها عن الحقيقة، هذه الذات التي
يصدمها جدار الصمت عندما تعشق النبش عن حلم يلتحف رداء ماض لا يعود، ماض افتتن به
الموت و ذرته الريح:
جذلها ينثر ما تبقى
في الخواء،
هي الريح
أصبحت تعشق كل
أشيائي. {ص 13}
إنه
الهم ريح عاصفة تنفث ألما يقهر الذات و يرغمها على اغتيال فرح مأمول، فتشرد ضائعة
يلوي ذراعيها التيه في اللامكان، فينتحر الفرح كمدا حين يصطدم الحلم بجدار لا يرد
الصدى :
و لي
أن أعاين المدى،
لأعد المسافات القادمة
بعدما أوبخ من فرحي
رقصة خلاص حالمة {ص 22}
يصير
الألم طقسا تدمنه الذات، و الموت سلطانا يتربع عرش البوح، حيث تقدم الذات أنوثتها
قربانا على مذبحه، و يصير الجرح الثخين صديقا صدوقا يصون و لا يخون..
و النار تتوعد باحتفال جديد
{.....}
و تشهد الذكرى
أني سأراود أنثاي عن نفسها
كي تبايع الموت كل بوح
و تدندن باللحن القديم القديم
حتى تورط الجرح في
في لعبة الوفاء. {ص 26}
الألم
هنا مأساة إذ تصبح الذات وفية لجراحاتها في عود أبدي يرسم صورة مفارقة حيث اللذة
موت لا حياة، و الموسيقى جراح الروح لا بلسمها، و كأن الذات تأبى إلا أن تشعل نار
الذكرى في الروح كي لا تنسى... فيكون العبث عنوانا للهزيمة و الاحتراق... و تسرح
العين في الفراغ، و يمرح القلب في دمه النازف، و يتقلب الجسد منتظرا "تفاحة
آدم" هباء...
تعانقني رهبة المسافات،
تشتهي احتمالاتي و حرقي
فتنأى و تنأى عني
بآخر البدء.
أمد عيني،
أمد القلب النازف،
أمد الجسد المقتول بهباء الانتظار، {ص 32}
إنه
الطريق المعبد تجاه الخيبة حيث يصرخ الصمت ملء الامتداد، و يصير الرفض جبارا لا
يقهر، و تنمو دوحة الضياع و تسع ظلالها أكوان الذات، و الفرح ذنبا يمسي حين الانا
يتوضأ ورعا للصلاة ... تقول الشاعرة:
ما زال يسيل الصمت،
و تكبر اللاءات،
وارف هذا الضياع،
و الفرح وزر ما استطيع
حمله. {ص 33}
فلسفة
الأمل... أو الذات الفاعلة
ليس
الانسان في هذا الوجود ذلك الكائن المنفعل فقط، و الذي يقبل الاستسلام لقدره، و
يعيش كينونة التيه و الضياع، يجتر آهاته و يلوك الخيبة طعاما، و إنما هو كائن
عندما تكون صلاته فعلا يردد القدر: آمين. لذلك يصير الوجع في ديوان الشاعرة حالة
تقتضي فعلا يملأ البياض، و يجعل المسافات تعشق التلاقي و تهوى العناق... إنه الأمل
رديف الفعل و الإرادة الحرة:
و ما زال في عيني
ما ينبئ بالاشتعال:
وداعة الشوق،
إيمان الورد،
و صمت الكلام. {ص 43}
مهما
كان حجم الألم، "فلا بد لليل أن ينجلي" عندما يأمر الأنا الأنا أن
"عاود" مؤمنا أن الصبح لا بد أن يتنفس، يصنع الأمل معجزة اللقاء، حيث لا
فراغ، لا امتداد، حيث تطوي المسافات المسافات، ويخفق الخافق طربا بنصر العطاء
الوجداني، مصدقا رسالة النغم:
عاود..
في هبة حنين
أو انخطافة قلب،
ثبت يدك على الوتر
و اعزف في هذا
الليل شبيهي
سمفونية لموعد
آخر. {ص 47}
في
قصيدة "وجد" حيث الايحاء الصوفي، و الإيقاع الصوفي، و المجاهدة الصوفية،
تبحث الذات بأمل عن آخرها، عن أناها الآخر و تسير إليه لتحل به و يحل بها و
يرتويان من فيوض العشق في وحدة واحدة... هنا الحب يزرع الأمل ياسمينا يزهر، فيصبح
الغير أنا يرتقي بالأنا إلى مقام المحبة، ذلك المقام الذي تتحقق من خلاله معادلة
عشق ينادي من خلالها أحد الأنيين الآخر : يا أنا ...
سر بي إليك
يا المتجلي في دمي..
احترفني تعويذة
أو صلاه
{....}
سر بي إليك
و استو في مقامي
كلا رضيا. {ص 61}
تستطيع
الذات الآملة الانعتاق من قيود ما فات، و يجعلها أملها منفتحة على الآتي، إنها لا
تركن و لا ترتهن للماضي، بل تكون ذاتا فاعلة مريدة تختار المستقبل بيقين:
سأفيض عيدا..
فلتشرق شموس الغد
و لتدع
سر العيون.. {ص 62}
عندما
يصيب الفؤاد وابل من الحب تصرخ البراءة في عيني الذات، و يملأ الضياء أكوانها
المظلمة، فيصير الزمن، كل الزمن، عيدا..
يضحك طفل
في عينيك،
يوقد شمعة
هذا المساء،
يضيئ انخطافا
في هزيع الصمت، {ص 71}
على
سبيل الختم
إن
نص الشاعرة فاطمة مرغيش نص إبداعي متميز وواعد، و ذلك لما يمثله من عمق يلامس
مكنونات النفس البشرية، و يعبر بإبداع عما يعتمل داخل هذه النفس من مشاعر أليمة من
جهة، و آملة من جهة أخرى. إنه نص يقوم على ردم الهوة البادية، عرضا، بين مجموعتين
متناقضتين من الأحاسيس فيصبح أحدهما آخرا للآخر، لأن الذات المتألمة هي التي تدرك
حقيقة الأمل، و الألم هو مصدر الطاقة التي تمنح الذات عنفوانها و تختبر فاعليتها،
و لعل إبداع الشاعرة ذاته يجسد هذه العلاقة بين الذاتين المنفعلة بألمها و الفاعلة
بأملها. فالابداع لا يكون أبدا ترفا، و إنما يولد، بعد مخاض مضن، من رحم المعاناة.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية