الهوية و مخالب العولمة

 الهوية و مخالب العولمة





دكتور / عماد الدين ابراهيم عبد الرازق




إن العلاقة بين العولمة و الهوية هي علاقة جدلية ، كما أنها علاقة صراع و صدام، وذلك لاختلاف طبيعة كل منهما . و قضية العلاقة بين الهوية و العولمة طرحت علي أكثر من صعيد أو مجال و لا تزال تطرح لكونها من أهم القضايا و أكثرها صعوبة و تعقيدًا و أقربها حضورًا في عمق الجدل الدائر ليس لدي النخبة السياسية و الثقافية فحسب ، بل حتى لدي العديد من الناس العاديين ، لذلك أن انعكاساتها الفكرية و المعنوية و ونتاجاتها المادية قد اقتحمت كل مجالات الحياة. و يذهب بعض الباحثين و المفكرين إلي أن العولمة فعل يقلص امتداد الكون في هوية متجانسة ثقافيا و اقتصاديا و اجتماعيا. فالعولمة تعمل علي بناء ثقافة و أحدة، و تسعي إلي تذويب الحدود و الفوارق و الحواجز الثقافية و الفكرية و الاقتصادية بين الأمم ، إنها سعي محموم لبناء المجتمع الإنساني علي مقياس الثقافة الواحدة ، وبالتالي فان ثقافة العولمة هي ثقافة الشركات العابرة للجنسيات و القوميات و الثقافات.كما أن العلاقة بين العولمة و الهوية  هي علاقة تنافر و صدام و صراع، فالعولمة تطارد الهوية و تلاحقها و تحاصرها و تجهز عليها ، وفي خضم هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الذوبان و الفناء و تتشبث بالوجود و الديمومة و الاستمرار ، فالعولمة تعني ذوبان الخصوصية و الانتقال من الخاص إلي العام و من الجزئي إلي الكلي، ومن المحدود إلي الشامل. و علي خلاف ذلك يأخذ مفهوم الهوية اتجاها متقاطبا كليا مع مفهوم الشمولية إلي المحدود ، فالهوية انتقال من العام الي الخاص و من الشامل إلي المحدود ، أنها تبحث عن التمايز و التباين.فالعولمة تسعي إلي تجاوز الخصوصية و الانتقال إلي العمومية، و العولمة تسعي إلي تخطي الحدود و القفز من فوقها و التعدي علي خصوصية المكان  وسكانه و اختراقه وغزو ثقافة شعبه و حضارته ، وفرض ثقافة آخري عليه ، مما يضعف من انتمائه الوطني  والقومي و يساهم في تفكيك هويته ليصبح شعبا لا هوية تميزه عن غيره من الأمم و الشعوب . إذن أنه أقرب إلي نظام يعمل علي إفراغ الهوية الجماعية من كل محتوي ، ويدفع للتفتيت ليربط الناس بعالم اللا وطن . إن اندثار الحدود السياسية و القانونية و الثقافية أمام العولمة المدعومة بوسائل حديثة كالانترنت و الفضائيات يدمر آخر قلاع المقاومة للإنتاج الثقافي الغربي و الأمريكي بالأساس. لذلك العولمة تتجه للقضاء علي الخصوصية الثقافية عامة في الأذواق .و لا تقتصر محاولات الأمركة علي مضامين الرسائل الإعلامية الدائمة التدفق بل تتعداها إلي التبشير بانتصار القيم الأمريكية و بطراز الحياة الأمريكية بدءا بأنماط السلوك و الملابس و اللغة و صولا إلي الانتصار النهائي للقيم الليبرالية ، ولعل أبلغ مثال علي ذلك الاختراق الأمريكي هو تداول نمط من المفاهيم الغريبة و العجيبة مثل الماكدونالية. و يجب أن نشير إلي أن التعارض بين الهوية و العولمة هي ظاهرة يعيشها الغرب نفسه موطن العولمة و مصدرها، و بالتالي فالتعارض هو مظهر من مظاهر الصراع في عصرنا و هو صراع يعيشه العالم كما يعيشه كل بلد علي حده. و سيظل الصراع بين العولمة و العولمة مستمرا كل منهما يدافع عن وجوده و قيمه و مبادئه. كل منهما يريد ان يفرض نفسه علي الآخر ، العولمة تريد أن تختزل المسافات و تريد ان تحقق هدفها الجوهري في أن يصبح العالم قرية واحدة صغيرة بلا حدود أو فواصل ، و الهوية تقاوم الذوبان و تسعي إلي الخصوصية. 

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس