التأويـل
عودة الآخر الجزئي إلى الأول الكلي
د بتول قاسم ناصر
1- التأويل
رافق التأويل
والتفسير النص القرآني، فتاريخ النص القرآني لازمه تاريخ للتلقي يمتد الى بداية
النزول. والتأويل فعالية للفكر غايتها البحث عن مدلولات النص وايحاءاته المعرفية،
فهو فعل العقل حين يسعى الى الغوص في أعماق النص ليلتقط مخبئاته العميقة فالتأويل
محاولة للوصول الى الأبعاد العميقة للنص واكتشاف الأسرار المودعة فيها، ومحاولة
للاتصال بمودع هذه الأسرار في هذه الأعماق العميقة. إنه محاولة للاتصال بمنشيء
النص وادامة للتواصل بينه وبين المتلقي: يتلقى المتلقي النص ويفحصه ويتقصى أبعاده
ويسبر أعماقه بطاقات العقل الكبيرة وقدراته التي لاتحد على النفاذ، فهو قراءة
متميزة للنص ورحلة تحتاج الى البحار المغامر.
ولقد ميزت مصادر
اللغة بين معنى التأويل وغيره من ألفاظ تتصل به كالتفسير والتبيين وغير ذلك مع أن
هذه الالفاظ تلتقي فيما بينها على معان أساسية وبينت أن التأويل يحتاج إلى قدرات
ذهنية وعقلية وثقافية كبيرة لكي يصل المؤول الى المقصود وهو المعنى المكنون الذي
يقصده صاحب النص دون غيره وتأسست عليه بنية النص ، فيرجع إلى المنطلق الأول الذي
انطلق منه صاحب النص بوصفه مصدر النص ومصدر المعنى الذي يتضمنه النص والذي يبحث
عنه المؤول ، ففي التأويل لا يمكن إماتة (المؤلف) وقطع صلة النص به ، كما تذهب
نظريات القراءة والتلقي الحديثة ، إنما هو قصد المتلقي يسعى اليه كما أنه يسعى الى
فهم المتلقي ومن هنا جاءت لفظة التأويل لتؤكد العودة الى المصدر الأول ، عودة
المتلقي الى (المؤلف) صاحب النص ورجوعه اليه. وفي هذا تظهر عبقرية اللغة العربية
في إدراكها معنى التاويل وفلسفتها له عندما وضعت هذه اللفظة (التأويل) للدلالة على
هذه العملية الفكرية فهو عودة الى (الأول) ولهذا جاء الفعل (آل) بمعنى رجع وعاد
الى منطلقه وجاءت الفاظ مثل (الآل) وهو ما تراه في أول النهار وآخره، لأن في لفظة
(آل) معنى الرجوع والعودة، عودة الآخر الى الأول والتقاء الآخر بالأول.
ولقد وردت لفظة
تأويل في القراٌن الكريم بهذا المعنى، فالتأويل ينبغي له أن يلتقي مع قصد الله
تعالى صاحب النص الذي يعلم تأويل النص. ولقد بين القرآن الكريم أنه طرح مضامينه
على مستويين : مستوى ظاهر بيّن ، ومستوى كامن خفي بالرغم من أنه تعالى وصف النص
القرآني بأنه مبين: (تلك آيات الكتاب المبين) -يوسف(3)- (وهذا لسان عربي
مبين)-النحل(103)- وأنه فصل على علم: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة
لقوم يؤمنون)- الأعراف (52)- فهذه الإبانة وهذا التفصيل على المستوى العام لا
الخاص الذي يحتاج الى (الخاصة) الذين وصفهم بأنهم قوم يؤمنون وقوم يعلمون(كتاب
فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون) -فصلت(3)- أما غير هؤلاء فلا يؤمنون به حتى
يأتيهم العذاب جزاء إنكارهم له :(كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى
يروا العذاب الاليم ، فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون)- النحل(200-202) - النص القرآني
إذن ذو دلالة واضحة على المستوى العام للفهم ، وذو دلالة عميقة تحتاج الى اصحاب
الأذهان العميقة الغور التي تستطيع النفاذ الى ما وراء الحجب الظاهرة. وهكذا جاءت
آيات الكتاب منها ما هو ظاهر في متناول فهم الجميع ومنها ما يمتنع إلا على الخاصة،
فهنالك آيات محكمات المراد منها واضح فهي ظاهرة المعنى لا تحتاج الى تأويل وهي أم
الكتاب، والى جانبه آيات أخر متشابهات وهذه يدق فيها المعنى فيدعو إلى التأويل.
والتأويل يختلف باختلاف المؤولين، وهذا يعني أن الآيات المتشابهات مبعث للاختلاف
وإنها مبعث لأن يستغلها من يريد الفتنة وتكريس الاختلاف) هو الذي أنزل عليك الكتاب
منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم يقولون آمنا به، كل من عند ربنا وما يذكر الا أولو الألباب)- آل عمران (7) -
وتبين الآية الكريمة أن العلم بالتأويل يعود الى الله ومن وصفهم بالراسخين في
العلم الذين زودهم بقدرات معرفية ذاتية بعيدة الأبعاد تمتد مع امتداد أعماق النص
الكريم – فالـتأويل يعتمد على هذه القدرات المتميزة التي تختلف باختلاف أصحابها
ومواهبهم الفطرية. وقد تتأثر هذه القدرات بالمدرسة الفكرية أو المذهب Hو العقيدة التي يؤمن بها من يتصدى
لهذه المهمة، فكانت هنالك آراء في التأويل تتأثر بذلك كله. وقد أثر اختلاف العصر
فيها كذلك فانطبعت بطابع الثقافات المختلفة التي تسود عصرا من العصور وبتياراته
وبالهدف الثقافي والفكري لهذه التيارات أو المدارس. وفي تاريخ الفكر الإسلامي كان
هنالك جهد في التأويل على مدى عصوره كلها. وكان هنالك نظر ومنهجيات مختلفة اختلفت
وتأثرت باختلاف المدارس الفكرية التي تصدت لهذه المهمة. وكان لها على اختلافها
آراء مهمة في التأويل ودار لديها على مباحث مختلفة وتعددت الاهتمامات والافكار وقد
ظهرت كتب ومصنفات تنطلق من فنون المعرفة الاسلامية في تفسير النص القرآني في
محاولة الاستخلاص من المعاني الدقيقة للنص. وقد ظهرت في عصرنا الحاضر ومع ظهور
نظريات جديدة في القراءة والتلقي محاولات في قراءة النص القرآني وتأويله، واستلهمت
أفكار أخرى بعيدة عما تذهب اليه العقيدة الدينية كالماركسية والمنهج المادي في
النظر والتأويل والتفسير فكان كل ذلك فعالية فكرية متميزة.
لقد ظهرت على مدى
امتداد تاريخ التأويل للنص القرآني آراء في تحديد هذه العملية ومهماتها نستطيع أن
نحصرها باتجاهين: قديم وحديث، فالرأي القديم عرف التأويل بأنه صرف اللفظ عن معناه
الظاهر إلى معنى يحتمله على أن يكون المعنى المحتمل موافقا للكتاب والسنة.
فالتأويل له شروط وهي عدم خروجه على المصدر الذي صدر عنه النص والذي ينتمي اليه
وأن يلتقي مع المعنى الذي قصده مصدر النص ومنزله الله تعالى، أي إن المؤول لا
ينبغي له أن ينساق مع آرائه الخاصة مبتعدا عن القصد الإلهي الثابت بل يسعى ما
أعانه السعي إلى الالتقاء مع المعنى المقصود. وفي هذا الإدراك لعملية التأويل وضع
المفكرون والمفسرون في الإسلام نظرية محددة لها قوانين تنطلق من النص القرآني
وتعود إليه. وأما الرأي الحديث الذي تأثر بثقافة العصر وما جدّ فيه من نظريات
تتناول عملية القراءة والتلقي فنستطيع أيضا أن نرصد فيه اتجاهين: اتجاه لا يتفق مع
الرأي القديم يرى التأويل فعلا متميزا للفكر وجهدا للعقل يمارسه المؤول لإخضاع
النص لتصوراته ومفاهيمه وأفكاره. هكذا بدون ضوابط وشروط، فهو قراءة تعطي المؤول
سلطة كاملة على النص، تلزم النص وتقيده بالآراء الخاصة للمؤول الذي يتمتع بحرية
فكرية في الذهاب بالنص الى مذاهبه واستنتاجاته. وهذه القراءة تنطلق من النظريات
الحديثة التي تجعل النص مفتوحا ولا تغلقه على المعنى المحدد الذي قصده صاحب النص،
فتتعدد الآراء والمفاهيم حتى في النص القرآني الذي يعبر عن حقائق مطلقة أزلية لا تتحول
ولا تتصرف بتحول الأفراد (القراء) وتصرف آراءهم. وهنالك اتجاه آخر يتفق مع الرأي
القديم يعرف التأويل بأنه العلاقة الجدلية القائمة على التفاعل المتبادل بين مصدر
النص والمؤول وهذا معناه أن المتلقي يسعى من خلال جهده الذاتي الى الوصول الى
الثابت الأزلي المطلق. ويسعى الثابت الأزلي المطلق إلى إيصاله إليه وبتمكين معرفي
منه وذلك من خلال عملية تفاعل يسعى فيها الطرفان إلى غاية واحدة فيتحقق اللقاء
المنشود من خلال عملية التأويل. فالتأويل هو وحدة الطرفين المتجادلين او
المتحاورين عبر هذا الاتحاد الوجودي الذي يضمهما والذي يمثله النص الكريم.
2-النص المؤول (القرآن الكريم)
الدين عقيدة يرتبط
بها الخالق بالمخلوق، وهذه العقيدة أو الأفكار التي تمثلها ليست وضعية إنما توحى
الى الأنبياء والرسل أو تتنزل عليهم من الله تعالى وهذا يعني أن هناك أطرافاً عدة
ترتبط فيما بينها او تتفاعل في ظاهرة الدين الذي يمثل ظاهرة اتصالية تختلف أطرافها
فالطرف الأول يمثله الله تعالى (المرسل) الذي ينزل العقيدة الدينية أو يوحي بها
ويرسلها عن طريق الرسل. وهناك العقيدة الدينية التي تتمثل بالنصوص او التعاليم
الدينية وهناك (المرسل إليه) ويمثله الرسل وهم الواسطة بين الله تعالى والناس،
ويمثل هذا الطرف كذلك المرسل إليهم أفراد البشر عبر تاريخ الإنسان على الأرض.
الطرف الأول المرسل (الله تعالى) ينزل العقيدة ويحدد غايتها ويطلب من الرسل
ابلاغها الناس، أي تحقيق العملية التواصلية) كتاب أنزل اليك فلا يكن في صدرك حرج
منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين) -الأعراف(2)-(كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم
آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون)-البقرة (151)
فالعقيدة الدينية يحملها النص الإلهي وهو الرسالة التي تحمل الهداية من الله الى
الناس عبر رسوله الكريم فهو العلاقة التي تجمع بين أطراف العملية التواصلية، إنه
الوحدة التي يتفاعل من خلالها ما هو إلهي وما هو إنساني، إنه جدل العقل الإلهي
الكلي المطلق والعقل الإنساني الجزئي المحدود. يعبر النص القرآني عن الذات الإلهية
المقدسة فهو مقدس فلا انفصام بين النص وصاحبه في الظاهرة القرآنية. إنه القران
الذي تتصدع له الجبال: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية
الله) -الحشر (21) - وإنه ذو القدر المنزل في ليلة القدر: (إنا أنزلناه في ليلة
القدر) – القدر (1)- وهو القرآن المجيد (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ)-البروج
(21،22) وإنه كتاب مبارك )وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون)-الأنبياء
(50)-وهو فرقان بين الحق والباطل : (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون
للعالمين نذيرا)-الفرقان(1). لقد استمد القرآن الكريم صفاته من صفات منزله تعالى
بأنه هدى وفرقان: (القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) – البقرة (185) -
فهو يهدي الى الرشد) يهدي إلى الرشد) - الجن (2). وهو الكتاب الحكيم : (تلك آيات
الكتاب الحكيم)-لقمان(2)- لأنه من الله ذي الحكمة: (تنزيل الكتاب من الله العزيز
الحكيم)-الزمر(1)-ويحمل القرآن صفات الألوهية الأخرى كالرحمة: (هدى ورحمة
للمحسنين) - لقمان(3) لأنه من رب الرحمة : (تنزيل من الرحمن الرحيم) - فصلت (2)-وإنه
لاريب فيه: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين)-البقرة(2)-لأنه يصدر عن رب الحق
والحقيقة: (تنزيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين ، أم يقولون افتراه بل هو الحق
من ربك)-السجدة (3) وهو المنزه عن البهتان ولكنه بعيد عن مدارك أكثر الناس: (
والذي انزل اليك من ربك الحق ولكن اكثر الناس لا يؤمنون)-الرعد(1)-لقد عبر القران
عن الحق المطلق وانطوى على الحقيقة المطلقة والعلم المطلق لأنه يصدر عن العالم بكل
شيء: (قل إنما العلم عند الله)–الملك (26)- (وان الله قد أحاط بكل شيء
علما)-الطلاق (13)-فهو ممن يمتلك مطلق العلم ومن هو عالم بالأسرار (قل أنزله الذي
يعلم السر في السموات والأرض)-الفرقان (6)-ولهذا جاء القرآن لا يغادر صغيرة ولا
كبيرة الا أحصاها : (ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) –
الكهف (49)- وإنه ضرب فيه من كل مثل: (ولقد ضربنا للناس في هذا القران من كل
مثل) – الروم (58) – ولأنه من العلم والحقيقة نفى الله عنه كونه من الشعر : (وما
علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) – يس (69) – ونفى عنه أي
انحراف عن الحق والحقيقة : (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له
عوجا) – الكهف (1) – وأكد انه روح من أمره ونور وإيمان: (وكذلك أوحينا إليك روحا
من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من
عبادنا وانك لتهدي إلى صراط مستقيم ... صراط الله الذي له ما في السموات وما في
الأرض ألا إلى الله تصير الأمور) الشورى (53). لقد عبر القران الكريم عن الحقيقة
الإلهية فلا يبتعد النص الكريم عن منزله الله الأصل المطلق الأزلي الكلي الثابت
وهو يستمد من صفة الله هذه: (وأتل ما اوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن
تجد من دونه ملتحدا) – الكهف (27). ويستمد من قدرة الله المعجزة فهو نص معجز أمام
مخاطب عاجز: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا
يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) – الإسراء (88). وقد دعاهم إلى أن يأتوا
بمثله أو ببعضه، وهذا تحدِ للمتلقي واستفزاز له، وفعل ينتظر رد فعل المتلقي، إنه
دعوة للمنازلة وللمجادلة أثير فيها الطرف الآخر الذي اتهم بالعجز ووصف به واستعداد
من هذا الطرف وقبول للتحدي.
النص الكريم تعبير
عن الله القادر القوي المكين الأزلي الثابت الكلي اللامحدود. والمتلقي هو العاجز
الضعيف المفتقر المتحول المتغير المحدود الجزئي. وهما طرفان في عملية حوار وجدل
ومنازلة مصدرها الطرف الأول الذي نزل القران ودعا إليه الطرف الثاني بدعوة تتراوح
بين الحوار الهادئ اللين والتحدي والمجابهة، إذ وضع أمامه أن الطرف الآخر إما
متقبل مقبل طالب لهذه الدعوة، وإما منكر معاند: (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك
افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزوراُ، وقالوا أساطير الأولين
اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) – الفرقان
(5،4).
3- المتلقي المؤول
القراٌن الكريم
رسالة الله الى البشر وأداة التواصل بينهما ، وهذه عملية ضرورية أو واجبة يوجبها
وجود الطرفين: منزل القرآن والمنزل إليه القرآن، فهما طرفان مختلفان معرفيا ويسعى
الطرف الأول من خلال العلاقة الجدلية التي تضمهما إلى التأثير في الآخر وإيصاله
إليه وإخراجه من ظلمات جهله الى نور المعرفة الإلهية المطلقة : (كتاب أنزلناه إليك
لتخرج الناس من الظلمات الى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد) –
ابراهيم (1)- فالنص الكريم يمثل الحقيقة الإلهية (النور) والإرادة الإلهية
التي تريد تحقيق فعلها في نفس الانسان وعقله ولقد ترك باب الاستجابة لهذه الإرادة
مفتوحا ليتجلى التفاعل بين الضرورة الالهية والحرية الانسانية :(إنا انزلنا عليك
الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم
بوكيل)-الزمر (41)-توجه الله بخطابه في القران الكريم الى المتلقي ودعاه الى
قراءته والاستماع إليه حينما يقرأ: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم
ترحمون) - الأعراف (3-4) ولقد سماه قرآنا بمعنى المقروء (من الآخر)، وكانت أول
كلماته المنزلات عبارة(إقرأ) إي انه أول ما نزل استدعى الآخر. وبين أن الغاية من
انزاله هي دعوة عقل الآخر: (كتاب انزلناه اليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو
الألباب) –ص (29)- ولقد استدعاه دائما ليذكره وليتدبره: (ولقد يسرنا القرآن للذكر
فهل من مدكر)- القمر (22)- وقرر شعائر عند تلاوته يلتزم بها العارفون به تعظيما
لشأنه : (قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله اذا يتلى عليهم
يخرون للأذقان سجدا)-الاسراء (107)، واستنكر على الكافرين أنهم لا يسجدون لتلاوته:
(وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون)-الإنشقاق (21)- لقد دعا القرآن الى التفاعل
العميق مع النص القرآني ونظر إلى المتلقي بوصفه عنصرا فاعلا في النص الكريم يتأمله
ويسهم في تأويله المعرفي ويحاول بسعيه الوصول الى أبعاده ومراميه. إن هذا التوجه
يؤكد احترام القرآن للآخر واعترافه به وعدم تجاوزه وهو نوع من أنواع التكريم
الإلهي لبني آدم، فكان يدعو عقله ويهديه السبيل ويترك له حرية السعي اليه، ولقد
أنكر عليه تركه لهذا السعي واهماله لقدرات عقله المجادل المتطلب للمعرفة، فلقد
خلقه مجادلا وكان أكثر شيء جدلا وقد يخاصم في المجادلة: (أولم ير الإنسان إنا
خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) - يس (77) – لقد تبنى القران الكريم مبدأ
الحوار مع الآخر ودعاه إليه وزرع فيه الميل الى الحوار والجدل ليقيم بينه وبين
المخلوق وحدة متفاعلة. لم يكشف القران عن كل مضامينه فلم يجعل الآيات كلها محكمات
بل نزل إلى جانبها ما هو متشابه وما ذلك الا ليترك مجالا للآخر ليسعى عبر حواره
وجداله الى معرفته واستنباط معانيه، فهو مصدر المعرفة ولكن بسعي الإنسان اليها.
هنالك علاقة معرفية طرفاها، معرفة الله المطلقة المتضمنة في النص الكريم ومعرفة
المتلقي المحدودة. الطرفان يتحاوران ويتفاعلان وهنالك انسجام او تخاصم، المتلقي له
دوره وليس طرفا سلبيا واته يسعى عبر تبين معاني النص القرآني وأفكاره إلى النفاذ
فيه، والعودة إليه، العودة بمعرفته للنص الكريم إلى مصدر المعرفة، إن التأويل سعي
إلى الاتحاد بالمطلق. إن النص القرآني معرفة تصدر عن الله وهي معرفة جعل بعضها
كامنة تحتاج الى تأويل واستنباط و المتلقي يسهم في تأويلها وتجليتها، إن المعرفة
الإنسانية تجلي المعرفة الإلهية وتكشف عنها (وهذا فيه معنى خلافة الانسان لله).
وإن هذا الفعل حركة جدلية يتوجه فيها العقل الإنساني نحو العقل الإلهي المطلق
ويعود اليه إن استطاع الاهتداء إليه. ولم يكن هذا السعي المبارك فعلا تزهد فيه
القدرة الإلهية المطلقة بل تواضعت له فطلبته وسمته (قرضا) من الإنسان لخالقه فأي
تواضع هذا ؟: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم) – الحديد
(11) - فالفعل الإنساني مطلوب يستدعيه خالق الإنسان، ولهذا يحضر الإنسان أمام
الخطاب الإلهي وفيه ويجمعهما حضور يتشاركان في تكوين وحدته الجدلية التي ينسجها
النص الكريم. فالنص هو الوحدة التي تضم الإنسان الى ربه، هو مقر الفعل المشترك
بينهما: الفعل ورد الفعل، الفعل المكتمل المعجز ورد الفعل المحدود العاجز. لقد
تحدى الله الإنسان بالنص القرآني ، تحدى قدراته ومعرفته وكلما أمعن الإنسان في
معرفة القرآن ازداد إيمانه بالعجز وبالقدرة المطلقة التي يمثلها النص الكريم :
(ولكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم
أجرا عظيما)-النساء (162)-ولم يقل القرآن ما لديه صراحة بل أبقى بعضه وراء الحجب
لينهض الإنسان بواجبه ويؤدي التكليف المنوط به، ليسعى في سبيل المعرفة وليكن سعيه
سبيل هدايته، سبيل الوصول واللقاء بربه. لقد أثار الإنسان هذا التحدي واستفزه
واستعد له وبحث في سر تميز النص المعجز ودقق ودرس وكتب في محاولة الوصول إلى سر
إعجازه ومازال يبحث وينتهي الى أنه لا يستطيع الإحاطة بكل الأسرار، فكيف إذن
بمحاولة الإنجاز لمثل هذا النص أو لبعضه؟.. لقد عجز عن استيعابه وإدراك أسراره
فكيف بالإتيان بمثله؟ لقد تحداه الله وأعطاه نتيجة التحدي مقدما، وهذا من إعجازه
أيضا فهو عارف بالنتيجة ... لم يخرج القرآن عن اللسان المنزل به: (ولقد أنزلناه
بلسانك) -مريم (97) – (وهذا لسان عربي مبين) - النحل (103) - لكنه ينزاح عنه وهو
معجز بهذا الانزياح على مستوى الاستعمال الخاص للتراكيب وعلى مستوى المعرفة التي
يتضمنها. وتعبيرا عن هذا الانزياح قالت المعتزلة إنه معجز بالصرفة، إي بصرف
الآخرين عن الإتيان بمثله لأنه انصراف عن لغتهم مع أنه نزل بها وهنا يكمن التحدي.
لقد توقف الإنسان أمام القران موضوع التحدي وبذل جهده في تبين معانيه وتأويله
واستنباط معارفه وقراءته قراءة نافذة وكان بينهما حوار متصل يتلقى فيه الانسان
كلمات ربه ويستوعب ما فيها من معرفة، ثم يتجاوز فهمه مرة ومرة في حركة مستمرة نحو
المعرفة الكاملة التي يتضمنها النص الكريم والتي تمثل مطلق المعرفة ومصدرها. فالنص
الكريم والمتلقي على علاقة متصلة متفاعلة، المتلقي يمثل المعرفة المحدودة الجزئية
أمام معرفة لا محدودة ولامتناهية يمثلها النص الكريم. وبالحرية التي منحها المطلق
اللامتناهي للإنسان وبالقدرة التي مكنه بها من اكتشاف ما يكمن فيه من معرفة يتجاوز
الانسان معرفته المحدودة وجزئيته و تناهيه في سعي دؤوب الى تحصيل المعرفة
الكاملة الكامنة في القران وليلتقي المحدود الجزئي مع اللامحدود الكلي وهذا
التجاوز إنما هو حركة مستمرة متصلة استمرار واتصال الجنس الإنساني، يتلقاها
الأفراد واحدا بعد الآخر في تسلسل معرفي متصل من أول الكائنات حتى آخرها الذي
يستطيع استيعاب المعرفة الكاملة من تجميع جميع معارف البشر النسبية في جميع
مراحلها، والذي يستطيع تجاوزها كلها بما يضيفه إلى المعارف السابقة وبما
يأتي به من جديد ليصل بها الى المعرفة الكاملة التي تمثل تجلي المعرفة الكامنة
في القرآن في العقل الإنساني أي انطباع المعرفة الجوهرية في الشكل المادي
الذي سيعكسها تماما. وهذا تعبير عن وحدة الشكل والمضمون، الجزئي والكلي، المتناهي
واللامتناهي. إذن ستنتهي حركة العقل الى التقائهما على وحدة التفسير والتأويل.
ولكي يتحقق هذا اللقاء لابد من اتصال الحركة واستمرارها عبر اتصال الجنس الإنساني
واستمراره. وهذا يفسر لنا سر استمرار خلق الإنسان لأن عقله المحدود لا يستطيع
مباشرة الوصول الى المطلق الا عبر تاريخ متصل وممتد وهذا يعني تعدد وتكاثر وتنوع
الكائن الذي يمتلك المعرفة المحدودة التي تتطلع الى المعرفة اللامحدودة وتسعى الى
الوصول اليها عبر حركة تجاوز مستمر يتجاوز أفراد الجنس الإنساني. وهذا يمثل جدل
المحدود الجزئي واللامحدود الكلي، جدل المتعدد الكثير والواحد الأحد، جدل المتحول
المتغير والثابت الدائم الأزلي، جدل التجلي والخفاء الشكل والمضمون، جدل الحرية
الانسانية والضرورة الإلهية او الجبر الإلهي الذي سينتهي بجهد الإنسان لصالحه
عندما يقر الإنسان بنفسه وبجهده إن ما انطوى عليه القرآن هو الحق اليقين. إن
الوصول الى هذا اليقين يعود الى قدرة المؤول فالقدرات العقلية تتفاوت بتفاوت الناس
فلا يستطيع المؤول منهم الوصول للمرة الأولى الى دلالة المعنى الخفي لذلك تتعدد
القراءات ولا يعني هذا أن المعنى الخفي يتعدد وهذا ما تذهب الية نظريات القراءة
والتلقي الحديثة التي تجعل النص مفتوحا لكل قراءة جديدة فتتعدد المعاني المحتملة
للنص بتعدد قراءته ويخضع المتلقي النص لتصوراته وأفكاره التي هي أفكاره الخاصة
الجزئية فهي قراءة غير بريئة بتعبير النظريات الحديثة، قراءة يشوبها ويشينها
ابتعاد التصورات الجزئية عن الحق الكلي الكامن في النص القرآني. وهو يتجلى
بالتأويل الذي يعود لأفراد كثيرين، لكل من يحاول التأويل فالمعنى التأويلي متعدد
وكثير ومتجل وظاهر، إن عملية تأويل القران هي عملية جدل الواحد والمتعدد، المطلق
والنسبي عملية جدل الخفاء والظهور، جدل المطلق الكامن والمتجلي المتمثل بالمعرفة
الإنسانية المحدودة. النص العظيم يمثل المعرفة المطلقة، والمعرفة الإنسانية محدودة
إزاء المطلق وهي تصرفها الأهواء الفردية كما تشاء فتدفعها الى التأويل الذي قد
يبغي الفتنة. إن القراءة تبقى يشوبها الجزئي فتتعدد القراءات بتعدد القراء والقرآن
يبين أن هنالك قراءة يقينية واحدة هي القراءة التي مكن منها الله الراسخين في
العلم فهؤلاء يستنبطون المعرفة الكلية المطلقة من خلال عقولهم الجزئية. والكلي غير
متعدد إنما ثابت، فالقراءات المختلفة سيؤول أمرها الى قراءة واحدة تتفق مع الحقيقة
المطلقة الواحدة التي يكتمها النص الكريم. المعرفة الكلية يتضمنها النص القرآني،
وهي تطلب معرفة المتلقي وتضع نفسها بين يديه. والمعرفة الجزئية تطلب المعرفة
الكلية وتسعى إليها من خلاله. معرفة النص القرآني ومعرفة المتلقي طرفان في وحدة
جدلية تضمهما يتفاعلان من خلالها تفاعلا معرفيا ويتطلب أحدهما وجود الآخر، فالنص
الكريم لايفهم معناه ويبقى المعنى كامنا الا إذا استوعبه عقل المتلقي، الا اذا
فهمه او أوله وفسره، وهذا من طبيعة العقل الإنساني الذي يؤلف ويركب بين النص والذات،
يحاور النص بالذات وينتهي الحوار إلى التقاء المعرفتين.
العقل الإنساني
قادر على معرفة الحقيقة، ولقد زوده الله بهذه القدرة: "علم الإنسان مالم
يعلم"—العلق (5) - وقد بين القرآن أن الله جعل الناس مختلفين في قدراتهم على
المعرفة ولذلك اختلفوا في قراءة القرآن: "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وأن
الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"- البقرة (176) - لقد جعل الاختلاف
بينهم كبيرا فمن الذين يصفهم بأنهم لا يعلمون ولا يستعملون عقولهم الا كاستعمال
البهائم، الى الراسخين في العلم الذين يدركون المعرفة الكاملة. ولقد أبقى الناس
مختلفين لأن الاختلاف سمة الآخر "الإنسان" المقابل لله: "ولو شاء
ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين" – يوسف (118)، أما هو فهو
الجوهري الثابت المتناسق.
لقد مكن
الله العقل الإنساني حين دعاه إلى النص الكريم ليمكنه من معرفته. والعقل يتخذ من
النص الكريم موضعا لنشاطه، والحوار الذي يدور بين الذات والموضوع هو الصور التي
يكشف فيها العقل عن نفسه. ولقد تمثلت هذه بالتفسير والتأويل المختلف للنص القرآني
الذي تضمنته الكتب والدراسات على امتداد تاريخ هذه الدراسات التي تمتد الى زمن
النزول. النص القرآني هو الموضوع المعرفي وهو يمثل الوعي الكلي المطلق. ويقابله أو
يعارضه الوعي الجزئي، وقد يعارضه في صرامة ولدد وخصومة. الوعي الذاتي الجزئي يرى
الموضوع موجودا وجودا مباشرا أمام الذات وأنه مستقل عنها، الموضوع متميز من الذات
ومتحد معها في الوقت نفسه، فهما متحدان في وحدة واحدة. العقل الموضوعي الكلي
المطلق والعقل الذاتي متحدان في وحدة واحدة، يتم في داخلها التفاعل والحركة،
الحركة الفكرية، حركة التأويل، حركة العقل الذاتي في سعيه لاكتشاف العقل الموضوعي
والوصول إليه. ولا يكون ذلك إلا إذا تحرر هذا العقل الجزئي من جميع التفسيرات
الفردية والأحكام المبتسرة والأهواء، وإلا إذا نحى جانبا جميع الآراء الجزئية
المحدودة. وباختصار إذا أصبح عقلنا عقلا خالصا وتمكن من إدراك المعرفة الإلهية
الكلية. وبهذا يزول ذلك التعارض المألوف بين الذاتي والموضوعي. وفي سبيل إزالة
التعارض بينهما، وفي سبيل الاتحاد بينهما يستمر سعي الإنسان وتستمر حركته الدؤوبة
باتجاه المعرفة المطلقة يتطلبها بقدراته على التأويل. والحركة دليل على وجود نقص
او عدم تطابق بين الجزئي والكلي. والجزئي الذاتي لم يبلغ بعد تمام معرفة الكلي
الموضوعي، وإذا بلغها توقفت حركته. فالحركة مستحيلة على الشيء إذا كملت حقيقته. إن
ما يدفع الشيء "العقل الجزئي" الى الحركة هو ما يكمن فيه من سلب او تناه
او محدودية فالأشياء المتناهية أشياء ناقصة تبحث عن تمامها لذا فهي تحاول جاهدة أن
تحقق صورتها كاملة. وفي هذه المحاولة تتجاوز نفسها لتكون شيئا أكثر اكتمالا.
والصورة الكاملة التي هي محققة لنفسها ومتفقة مع فكرتها هي الحقيقة المطلقة التي
يتضمنها النص القرآني. والعقل الجزئي يسعى الى الوصول الى هذه الحقيقة الكاملة
الكامنة أو المتخفية في النص الكريم، يسعى الى اكتشافها كاملة او التعبير عنها
كاملة او تأويلها كما هي. وهذا العقل الجزئي الذي نزل اليه القرآن ليس بمستوى واحد
وإنما هو مختلف، فمنه عقل الراسخين في العلم الذي يمثلهم الرسل والأنبياء والأولياء
والعلماء الربانيون، وهؤلاء قلة، فهو عقل خاص حققت الإرادة الإلهية فعلها فيه.
فالقران يبين أنه نزل على قلب الرسول محمد (ص) بمعنى استوعبه قلبه والقلب في اللغة
العربية ورد بمعنى العقل: "وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على
قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" (الشعراء 192-195) وبهذا فإن
الرسول (ص) يعقل الحقيقة الكلية التي يتضمنها القرآن فهو جزء من الرسالة التي
يحملها ولذا سمى رسولا يحمل الهداية ويستوعبها ويبلغها الى غيره من عامة الناس
الذين يمثلون عقلا عاما ولذا لا يستطيعون الاقتراب من الحقيقة التي ينطوي عليها
القران بمدى اقتراب الرسول (ص) والراسخين في العلم منها –وهؤلاء – عامة الناس
تختلف استجابتهم للرسالة ويحتاج الأمر معهم الى زمن يتفاعلون فيه معها بأخذ ورد.
ولذا نزل القرآن على مراحل لأن عملية استيعابه منهم تستدعي ذلك وتستدعي أن يستمر
تعاقب مراحل التفاعل معه حتـى نهاية الزمان. الراسخون في العلم تنتهي بهم قدراتهم
الى الالتقاء مع المطلق والإيمان بـه والتسليم له: "يقولون آمنا به كل من عند
ربنا وما يذكر الا أولو الألباب" (آل عمران 7) فأولو الألباب هؤلاء يعرفون ان
الكتاب من ربهم بعد أن تقودهم قدراتهم الى إدراك ما عليه من اعجاز إلهي. ولكن هذه
القدرات التي لهؤلاء انما بتمكين إلهي أي بعملية اختيار واجتباء من القدرة الإلهية
للأنبياء والأولياء. فمعرفة هؤلاء تلتقي مع المعرفة الإلهية في إدراك النص القرآني
وتأويله. ويبين الله تعالى أنه مصدر التبيين والتأويل: "إن علينا جمعه
وقراٌنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه، ثم إن علينا بيانه "(القيامة 17و18و19)
فالله تعالى مصدر التبيين وهو مصدر معرفة الأنبياء والأولياء للنص الكريم بتمكينهم
من هذه المعرفة "(وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم
يتفكرون" (النحل 44) فالنبي (ص) يعبر عن المعرفة الكاملة التي يعبر عنها النص
القرآني، ومن هنا جاءت العبارة فيه وفي الإمام علي (ع) أنهما قرآن ناطق. فالأنبياء
والأولياء وهم الراسخون في العلم تكمن في عقولهم معرفة فطرية كاملة تستطيع إدراك
حقيقة النص القرآني وتأويله بالتمكين الإلهي، وهذا ينص عليه القرآن الكريم في
عملية تأويل أخرى تتصل بالأحلام التي توصف بأنها باب الى المطلق، فهو يمكن من يشاء
من تأويلها كما صنع مع النبي يوسف(ع):"وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل
الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم
واسحاق إن ربك عليم حكيم"(يوسف6). وإذا مكن أنبياءه وأولياءه فقد سلب
أعداءه هذه المكنة: "وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون
بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا "
(الاسراء 46) فالله تعالى ورسله مصدر للتبيين والتأويل. وبذلك يتطابق الجزئي مع
الكلي او يلتقي معه في معرفة النص وتأويله. وإذا كانت معرفة الراسخين في العلم
بالفطرة والتمكين والإلهام، فان معرفة سائر البشر بالسعي المتواصل والكدح والمشقة:
"يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحا فملاقيه "(الانشقاق 6) ومعرفة
هؤلاء ليست معرفة كلية كمعرفة الأنبياء والراسخين في العلم إنما هي معارف نسبية
يتجاوز بعضها بعضا ويكمل بعضها بعضا ويضيف اليه حتى تتحصل المعرفة الكلية ويتحصل
اللقاء بالله بوساطة الكدح المعرفي المتواصل. وعند هذه المرحلة يصبح العام في
المعرفة بمستوى الخاص المتمثل بمعرفة الراسخين في العلم، أي إن الكشف عن المعرفة
الكاملة التي في القرآن وتأويل القرآن لم يتحصلا في زمن نزوله إلا لدى الراسخين في
العلم أي لدى العقل الخاص، أما لدى العقل العام فلم يحصل ذلك ونحن نقرأ في
"نهج البلاغة" للإمام علي (ع) أنه يختزن علما لا يجد له حملة، وهذا
تعارض الخاص والعام فالعام ليس بمستوى الخاص. وحين يتاح له أن يكون بمستواه يأتي
"التأويل المنتظر" على يد "العقل المنتظر" الذي سيتاح لعقول
جميع الناس أن تستوعبه. وهذا يعني أنه يأتي في عصر نهوض حضاري كبير وسيكون مستوى
الفكر والعلم والثقافة عاليا وستكون متاحة للجميع عندها تصبح عقول الناس بمستوى
المعرفة الخاصة اذ تتمكن من إدراك هذه المعرفة، أي حين تصبح المعرفة الخاصة التي
لهؤلاء المعدودين معرفة عامة متاحة وعند هذا التطابق تنتهي مهمة العقل أي ينتهي
مبرر وجوده، أي ان هذا التأويل سيكون في نهاية الزمان، نهاية تاريخ الإنسان على
الأرض وهذا يؤكده القرآن: "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم وهدى ورحمة لقوم
يؤمنون ، هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت
رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد
خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون"(الأعراف 52 , 53). إن آخر الزمان هو
نهاية للإنسان، لتاريخ وجوده على الأرض وعودته الى الله: "إن الى ربك
الرجعى" (العلق8) يوم القيامة يوم عودته الى ربه، عودة العقل المنتهي الى
العقل اللامنتهي المطلق الذي هو مبدأه ومصدره فتلتحم النهاية بالبداية وتعود
اليها. النهاية الإنسان والبداية الله، فهو المبدئ وهو المعيد: "إنه هو يبدئ
ويعيد" (البروج13)، فله الآخرة والأولى "إن لنا للآخرة والأولى"
(الليل13) الأولى هي الحقيقة الإلهية الكامنة، و الآخرة هي الحقيقة المتجلية
الظاهرة التي تنعكس عن الأولى وتعبر عنها وتلتقي معها في الشكل الذي يجلي
مضمونها، وبهذا التجلي الكامل للأولى تعود الآخرة للأولى.
تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية