فلسفــة الاجتماع فــي مقدمـــة ابن خـلـــدون

فلسفــة الاجتماع فــي مقدمـــة ابن خـلـــدون

ليلى الدردوري -المغرب
عبد الرحمن بن خلدون واحد من العباقرة العرب الذين لم يعرف قدرهم إلا بعد أن أشاد بهم الغربيون، واعتبروه من أعظم علماء فلسفة التاريخ، فقد ظلت أعماله مهملة من العرب حتى ترجمها المستشرقون في أوائل القرن التاسع عشر، علما أن أدباء كثر في العصر الحديث أساؤوا فهم فلسفته وهاجموه في شدة، واتهموه أنه أساء للعرب بغير موجب في ( مقدمته) الخالدة ( مقدمة ابن خلدون) التي قيل إنه ابتدأ في تأليفها سنة (779هـ / 1377م)، وقالوا عنه – ظلما- إنه لم يسئ إلى العرب إلا لأنه من البربر فكالوا له الاتهامات جزافا.                                   
والمعروف أن حركة التأليف التاريخي نشطت في العصر العباسي، ولكن المؤلفات التاريخية كانت خالية خلوا تاما من روح البحث العلمي، بل كانت مجرد سرد للحوادث من دون ذكر السند التاريخي المثبت لصحتها، فكان ابن خلدون أول واضع لفلسفة التاريخ، وأول من رسم للتاريخ منهجا علميا موضوعيا، هذا أنه لم يكتب مقدمته إلا بعد أن خاض غمار العديد من التجارب في ميادين السياسة والإجتماع والإقتصاد، فاختط في مقدمته لأول مرة في تاريخ البشرية  منهجا علميا عظيما، وبذلك قدم أعظم كتاب من نوعه استحق به تمجيد عدد كبير من المستشرقين الذين تولوا ترجمته إلى مختلف اللغات الأجنبية أمثال (برنارد لويس) في كتابه (العرب في التاريخ) و(سلفسردي ساس) و(كاتر مبر) الذي قدم  ترجمة كاملة للمقدمة سنة (1858 م) فأثار ضجة كبيرة في الأوساط العلمية والأدبية في أوربا، مما يفضي إلى القول أن وقوف الغربيين على تراث ابن خلدون إكتشاف علمي حق، أعجب ما فيه أن يعثر الغرب في تراث المفكر المسلم على كثير من النظريات الفلسفية والإجتماعية والإقتصادية التي لم يطرقها البحث الغربي إلا بعد ابن خلدون بعصور طويلة، فقد اكتشف النقد الغربي لدهشته وإعجابه بابن خلدون الكثير مما ردده (مكيافيلي) و(فيكو) و(مونتيسكيو) و(آدم سميث) و(أوجست كونط) بعدة قرون، وكان المعتقد أن البحث الغربي كان أول من اهتدى إلى فلسفة التاريخ، ومبادئ علم الإجتماع وأصول الإقتصاد السياسي فإذا به يرتفع بتراث ابن خلدون إلى مكانة أسمى، وينظمه في سلك الإقتصاد السياسي بل يعترف له بفضل السبق في هذه الميادين مجملة، فلازالت مقدمته بشهادة كبار العلماء والأساتذة الغرب معلمة نظرية وفلسفية عميقة في دراسة علم التاريخ، وذلك من منطلق منظور ابن خلدون أن التاريخ هو إخبار عن الإجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، ما يعرض لطبيعة هذا العمران من أحوال وتطورات كالتوحش، والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات لبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من وجود الدول أو زوالها، والتحدث عن مراتب الدول، منتهيا إلى أن كتابة التاريخ كتابة يجب أن تشمل ما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وما يقتضيه كل عمران إنساني، وهو أمر يشير أن كتابات ابن خلدون ذات صلة بإطلاعه الوافي على كتب المؤرخين الذين سبقوه كالمسعودي والطبري إلى جانب دراسته تاريخ الأندلس، من خلال مؤلفات (ابن حيان) مؤرخ الأندلس، و(ابن الرفيق) مؤرخ إفريقيا، و(مؤلفات ) ابن رشيق، وفي ذلك انتقد ابن خلدون مؤلفات المؤرخين العرب انتقادات مسهبة في مقدمته مستندا إلى نظرة ثاقبة ودراسة واسعة، فتحدث عن الوقائع المكذوبة التي يذكرونها في كتبهم،  فيعلل أسباب الكذب، ويورد الدوافع الداعية إليه، ويحصرها على حد قوله في التشيعات للآراء والمذاهب، والثقة بالناقلين، والذهول عن المقاصد، وتوهم الصدق، وتقرب الناس لأصحاب المراتب العالية، والجهل بطبائع الأحوال، والغفلة عن المنطق السليم، وهي أسباب تدل على حدود الدقة، وضعف حسن التقدير على أهميتهما في التأليف التاريخي الذي يلزم المؤرخ بسير غور الوقائع التاريخية، وذكر مسبباتها ونتائجها، وما يحيط بها من ظروف وأحوال خاصة بطبيعة العمران، وهو الهدف الأمثل لكل المجتمعات الإنسانية، من منطلق ذلك يرجع إلى دائرة العلم وإعمال المنطق واعتماد المصادر الموثوق بها، وهو أمر قاده إلى تفنيد رواية المسعودي حول (عفاريت البحر) في حكاية (الإسكندرالمقدوني) وبناء (الإسكندرية) كما انتقد المؤرخ البكري  في روايته عن (مدينة النحاس) أو (المدينة ذات الأبواب) من باب أن فن تاريخ على حد لسانه فن غزير المذهب، جم الفوائد، شريف الغاية، يوقفنا على أحوال الماضين في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الإقتداء رافضا مغالطات روايات المؤرخين للوقائع  لإعتمادهم على النقل المجرد غثا أو سمينا من دون أن يسبروها بمعيار الحكمة، فظلوا عن الحق، وتاهوا في بيداء الوهم والغلط، ولاسيما في إحصاء الأعداد من الأموال والعساكر، وفي ذلك لابن خلدون بحوث مفيدة في تاريخ الشرطة العربية ضمنها مقدمته يشرح مهمة الشرطة شرحا يتفق مع ما يسمى في العصر الحديث  بقواعد الإجراءات الجنائية، وبعلم التحقيق الجنائي العملي والفني، ويتبعه ببحث آخر مطول في التاريخ العسكري العربي و(قيادة الأساطيل) عند العرب وتاريخ ركوبهم البحر وفتحهم جزر(صقلية) و(مالطة) و(قبرص) و(جنوة)،  ويتحدث في (مقدمته) عن علم الحرب ويحلل الحروب وأسباب وقوعها تحليلا عميقا، فيعرفها تعريفا ينطبق عليها إلى اليوم، هذا إلى تضمينه مقدمته فيضا زاخرا من المعلومات في الاقتصاديات والإجتماع والفلسفة والموسيقى، ومن مختلف العلوم والفنون والآداب، فيعمد إلى ذكر تعريف العلوم من علم الفقه الفرائض، وعلم الكلام، والتصوف وعلم تعبير الرؤيا إلى العلوم العقلية وأصنافها، والعلوم العددية-الحسابية- والعلوم الهندسية، وعلم المنطق والطبيعيات والعلوم الإلهية، وعلوم اللسان العربي، كما تحدث عن مضار الاحتكار وعن طب وعلاقة أنواع الطعام بالأمراض، وعلاقته بالتطورات الطارئة على أخلاق بعض الناس.                  
 وفي ميدان التأليف ألف ابن خلدون كتبا كثيرة منها (لباب المحصل) و(شرح البردة) و(شفاء السائل لتهذيب المسائل) و(كتاب في الحساب) و(تقييد في المنطق) وكتاب (التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا) وهو أول ترجمة ذاتية باللغة العربية، وأول سرد تاريخي مسهب لأطوار حياة صاحبه، استهله بتحقيق سلسلة نسبه العربي، وذكر الرياسة العلمية لأجداده، وزعامتهم السياسية بإشبيلية، ونزولهم تونس مع الحفصيين، واشتغاله منصب كاتب العلامة لدى السلطان تونس ومستشاره في أمور الفقه والشريعة الإسلامية، إلى ذكر رحلاته بين بلدان المغرب والأندلس والقاهرة التي تربع بمدارسها كراسي تدريس الفقه المالكي، وتقلده قاضي المالكية وفشله في إصلاح جهاز القضاء بمصر. بعد زكيه ابن خلدون في أهله قضى صبابة عمره عاكفا على الدرس وتنقيح مؤلفاته إلى وفاه الأجل المحتوم بالقاهرة سنة (808هـ/1406م) واضعا نهاية لحياة مليئة بالعطاء الفكري والإنتاج العلمي مفعمة بألوان الصراع، مشرعة بالأمل واليأس.                                  
هكذا  يمثل فكر الخلدوني علامة بارزة في سيرة الحضارة العربية الإسلامية لإرتباطه الوثيق بتاريخ المغرب الإسلامي بقضايا العمران، ذلك أن إعادة قراءة المقدمة قراءة نقدية وليست إنبهارية يشعر أنها ما تزال تشدنا في كثر من جوانبها شدا قويا إلى قضايا عديدة عالجها ابن خلدون وما تزال مطروحة إلى اليوم في تحليل المجتمع العربي الإسلامي، ذلك أن الرؤيا الخلدونية للعمران ليست رؤية ماضوية تراثية بل هي رؤية تتسم بالدينامية والإستمرارية، ثم إن ما يميز الفكر الخلدوني معاصرته، ومسه حياتنا مسا قريبا خصوصا أن الإستفادة منه مطروحة اليوم وتبدأ بالتساؤل: كيف يمكن الربط بين الرؤية الخلدونية ومحاولة تأسيس مدرسة إجتماعية عربية حديثة.                                                              

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس