فوكو والسلطة-تتمة-

فوكو والسلطة-تتمة-
 بقلم: عبد الفتاح جنيني
يتأسس مفهوم السلطة عند فوكو – كما راينا سابقا – على نقد التصور الكلاسيكي الذي تبلور على الخصوص مع النظرية الليبرالية للدولة كما هو الحال مع فلاسفة القرن 18 او النظرية الماركسية للسلطة في علاقتها بالبنيات الاقتصادية  للمجتمع ، الأمر الذي ينتهي عند فوكو بضرورة الإبتعاد عن النظر إلى السلطة  كحصيلة للعلاقات الإقتصادية او تركيزها فقط في أجهزة الدولة .... عموما فهو يميز بين السلطة كحرب والسلطة بوصفها قمعا ، ليخلص إلى أن تمظهرات السلطة يمكن أن تفتح على معنيين ، أحدهما نجد اصوله مع وليام رايش ويطلق عليه اسم علاقات السلطة القائمة على القمع ، بينما الثاني يرتبط  بنيتشه  حيث ترتبط السلطة هنا بآليات المواجهة الشرسة  بين قوى المجتمع . لكن السؤال الذي يفرض نفسه  هنا هو : لماذا هذا الحفر العميق حول مفهوم السلطة عند فوكو والذي استثمر فيه طاقة هائلة من البحث في الأرشيف خاصة الفرنسي منه ؟ إنه السؤال الذي نجده حاضرا عند مجموعة من الفلاسفة  كالوجوديين أو فلاسفة الاختلاف أو فلاسفة فرانكفورت ...والذي تبدو امكانية الإجابة عنه واحدة ولكن بزوايا نظر متعددة ، حيث يعتقد الكثير من الفلاسفة وعلى رأسهم فوكو–وقد ازداد هذا الإعتقاد بعد الثورة الطلابية لسنة 1968- أن هناك صراعا في المجتمعات الغربية ضد كل اشكال اخضاع الذاتية الفردية وطمس حريتها ، هذا الصراع الذي بدأت شرارته الأولى مع الاصلاح الديني ابان القرنين 16-17، لكن معناه العميق والحاسم هو ما ترسخ مع ظهور الدولة الحديثة  باعتبارها تمثل نموذجا للسلطة لا يهتم بشؤون الأفراد وانما بشؤون الجماعة ، وهي سلطة يرى فوكو أنها تمتد بجدورها إلى ما يسمى بالسلطة الرعوية  ، وهي سلطة  وجدت جدورها حسب دراسات بول فين في بعض النصوص اليونانية ، لكنها سرعان ما ستنتشر إلى المجتمعات الشرقية خاصة مع العبرانيين ، حيث سيتجسد معنى الرعاية ، فالراعي هو المسؤول عن قطيعه من حيث تدبير أمر تغذيته وحمايته ، وتحقق ذلك لا يقضي التمييز بين أهمية الفرد والجماعة لأن كلاهما مرتبط بالآخر ، وعندما ظهرت الكنيسة سرعان ما ورثت هذه السلطة الرعوية التي شملت رعاية الأمور الدنيوية و الأخروية  للأفراد ، بذلك جعلت الكنيسة هذه السلطة ركيزتها في التحكم في النفوس وأجساد رعيتها ، وبالتالي فالإلتزام  بسلطتها المقدسة هو السبيل إلى خلاصهم . وسيتزامن ظهور الدولة مع إرثها لهذه السلطة ، لكن مع التركيز على جانبها الدنيوي – رعاية الأفراد تعني هنا تحقيق رفاهيتهم وامنهم وسعادتهم - ، والتركيز على هذا الجانب ينسجم مع روح التنوير والعقلنة التي ميزت القرن 18 ، لهذا مورست هذه السلطة أحيانا بنوع من السلاسة وترسخت في نفوس الأفراد كحاجة ملحة ، حيث ستؤول هذه السلطة الرعوية تدريجيا إلى التنظيمات الخاصة بالدولة كالشرطة والإدارة والمستشفى والمدرسة...هنا يرى فوكو أن السلطة بدأت تفعل مفعولاتها الانضباطية –السلطة الانضباطية – للتحكم في أجساد الأفراد عبر سلطة هائلة تتميز بقوة  على تطويعهم ، وهي سلطة تخترق كل مناحي المجتمع :الأسرة –المدرسة –الإدارة –السجن –المستشفى ...انها سلطة موجودة في كل مكان ولا يملكها احد ، ولا يجب استنباطها من المركز بل على العكس من ذلك  يرى فوكو أنه من أجل فهم حقيقتها يجبالإعتماد على تحليل تصاعدي ينطلق من السفل نحو الأعلى مثال ذلك عزل المجانين ، فقرار عزل هذه الفئة من المجتمع لم يبدأ مع الحاكم وانما ترسخ أولا مع الأسرة والمستشفى والشرطة وهكذا دواليك ... ولعل ما يميز هذه السلطة التي تم وضع أسسها ابان القرن 18 انها تتمركز على جسد الأفراد ، حيث يتم بموجبها ضمان نوع من  التوزيع المكاني لأجساد الأفراد من أجل  تصنيفهم ووضعهم في سلاسل لمراقبتهم بغاية ترويضهم عبر نظام كامل من الرقابة والتراتبية والتفتيش والتسجيل والتقرير ، كل هذا يتم بأقل تكلفة ممكنة ، وهذا ما يسميه فوكو بتكنولوجيا انضباط العمل . لكن مع بداية النصف الثاني من القرن 18 ستظهر سلطة أخرى لا تلغي الأولى وانما تكملها وتعتبر امتدادا لها ، وهي السلطة الحيوية –البيو سلطة- وهي لا تتوجه إلى الإنسان الجسد وانما إلى الإنسان الحي ، انها لها علاقة  بالساكنة باعتبارها تشكل مجموعة كلية تتأثر بعمليات تخص حياتها المشتركة كعمليات الولادة والوفيات والإنتاج والمرض ...لقد اصبحت السلطة لا تستهدف التحكم في جسد الفرد فقط وانما التحكم ايضا في الجماهير عبر عدد من البيو- سلط المحلية والجهوية التي لها صلة بالإدارة والشؤون الصحية والتمويلية...
يمكن الخلوص مع فوكو إذن ، كما أكد هو نفسه ، أن البحث والتفكير في السلطة لم يكن غايته السلطة في حد ذاتها أو الرغبة في تقديم نظرية نسقية بصددها ، بل إن التيمة الأساسية لكل أبحاثه هي الذات وحريتها ، هذه الحرية التي أصبحت محاصرة بسلط متنوعة ، مما يجعلها مهددة في عالم يتخذها كشعار وكحق طبيعي تتغنى به المحافل الدولية في الوقت يضيق فيه الخناق على عالمها الذي لم يعد فسيحا ، إضافة إلى ما تعرفه دلالتها من تمييع فأصبحت تعني كل شيء ولا شيء في الآن نفسه .



تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس