فلسفة "إرادة القوة" في التجربة القصصية لمحمد لفقيهي

فلسفة "إرادة القوة" في التجربة القصصية لمحمد لفقيهي
بقلم: محمد بعدي
يوحي العنوان أعلاه من خلال مفهوم "إرادة القوة" إلى فلسفة مخصوصة، و هي فلسفة نيتشه { الفيلسوف الألماني الذي عاش ما بين 1844 و 1900 }، التي تعرف باسم فلسفة "إرادة القوة". و نحن هنا نريد أن نستعير هذا المفهوم لقراءة التجربة القصصية لمحمد لفقيهي "البطل الذي لم يولد"، الصادرة عن "الأحمدية للنشر"، مطبعة سيماب، البيضاء، 1998. و إذا كانت فلسفة "إرادة القوة" كما تبلورت مع نيتشه تنهد للسمو بالإنسان إلى مرتبة الإنسان الأعلى... من خلال إعادة نظر جذرية في القيم و الأخلاق الإنسانية، فإننا ندعي أن المنتوج الأدبي للكاتب محمد لفقيهي في مجموعته القصصية يقدم نفس التصور، و يسير في نفس المسار، و سنحاول من خلال هذه القراءة أن نقف عند أهم تجليات إرادة القوة كفكرة و كمنهج للسمو بالإنسان و بتطلعاته الإنسانية.
قول في العنوان:
يشير مفهوم البطل إلى كل معاني القوة و الشجاعة و السمو، و يختزن كل دلالات النصر و الفاعلية و القدرة على الخلق... إن البطل هو شخص مريد، حر، و قادر على تجاوز وضعه، و على استثمار كل الإمكانيات لكي يكون في وضع أفضل في المستقبل... لأنه يؤمن بأن لا وجود للمستحيل. إن البطل ذات فاعلة، تتخذ قراراتها بوعي و تسلك وفق اختياراتها الحرة، ذات ترفض الانفعال و الإملاء و التنفيذ... ذات تعيش وجودها الحقيقي باعتباره وجودا مستقلا يقوم على الفاعلية و العمل و السيادة... تريد القوة، و تحطم كل قيم العبودية التي ترسخ الصغار و الهوان و المذلة.
إن "بطل" كاتبنا لم يولد، و لن يولد في ظل هذا الواقع المأزوم قيميا... سواء الواقع القروي أو الواقع المديني أو الواقع العربي برمته. لأن الإنسان لم يستطع بعد تجاوز وجوده السطحي التابع الذي يجعل منه ظاهرة طبيعية ووجودا بيولوجيا بدون تطلعات و بدون إبداع، و بدون قدرة على الفعل و الخلق. البطل الذي لم يولد هو الإنسان القروي المنفلت من قيد التقليد و الجهل، و هو الإنسان المديني المتملك للوعي السياسي و الأخلاقي و الوطني، و هو الإنسان العربي الحامل لمشروع الحرية و التحرير، الحالم باستعادة الأرض المغتصبة و الأمجاد الغابرة...
الواقع القروي: موت العقل
من خلال القراءة العميقة للنص القصصي لمحمد لفقيهي نجد هذا النص مسكون ب" إرادة القوة" باعتبارها فكرة و باعتبارها منهجا أيضا ووسيلة لتمكين الذات من الفعل. هكذا إذن نستطيع الإنصات إلى هذه النصوص القصصية، و خصوصا إلى ما تريد قوله، و يمكن أن نرسم ملامح" إرادة القوة " في هذه النصوص على شكل دوائر تتداخل زمانيا و تتسع مجاليا بالانتقال من الوسط القروي إلى المديني، ثم العربي عموما.
في  "البطل الذي لم يولد" التي تدشن المجموعة القصصية يرصد الكاتب بعين سوسيولوجية مجموعة من الظواهر التي تشكل البنية الثقافية القيمية لدى الإنسان القروي، حيث تحدث أشواك التقاليد جروحا غائرة في الجسد الاجتماعي، يبدو ذلك جليا من خلال العقلية الذكورية التي تنظر إلى المرأة نظرة دونية، إلى حد تطليقها بدعوى عدم إنجاب الذكور، يقول الكاتب:" فلطالما تمنت فاطمة أن تضع ابنا كما شاءت الأقدار أن يكون، المهم أن يكون لكي لا تمطر سماء آذار طلاقا و تعاسة لا طعم لهما" ص9. خصوصا و أن المجتمع القروي يحتاج سواعد الذكور في أعمال الحقول الشاقة التي لا تستطيع المرأة القيام بها، يقول الكاتب:" و ما العمل و الأشغال في الحقل لا غنى فيها عن سواعد الرجال؟ و المرأة في قريته محكوم عليها بملازمة البيت كما شاء شيوخ القبيلة و وجهاؤها" ص 9. إننا أمام عقلية ذكورية تحمل الأنثى المسؤولية عن جنس المولود و كأنه قطعة حلوى تصنعها بيديها... عقلية حجب عنها الغباء كون الإخصاب فعل مشترك بين الرجل و المرأة... لقد كانت تلك الأعرابية أكثر ذكاء من هؤلاء عندما خاطبت زوجا من هذه الفصيلة و قد اعتزلها غضبا من إنجاب البنات قائلة:
ما لأبي الذلفاء لا يأتينا                 وهو في البيت الذي يلينا
يغضب إذ لم نلد البنين                و إنما نعطي الذي يعطينا
 يكتب محمد لفقيهي ساخرا:" و كيف تنسى أن زوجها الفلاح أحمد يؤمن حتى الجنون بأن المرأة لا بد أن تنجب ذكورا. و هي فكرة شب عليها، و يعقد العزم على أن يشيب عليها" ص 9.
نجد في هذه القصة استنجاد المرأة بالسحر و الشعوذة و الفكر الخرافي بهدف إنجاب الذكور و الحفاظ على الزوج. حتى أن المرأة تتجشم وعثاء السفر و قيض الشمس و حرها ظنا أن الولي الصالح قادر على الاستجابة إلى طلبها في إنجاب الذكور. و عندما تصل يستقبلها من يدعي أنه ابن الولي القادر على التوسط بينها و بين السماء، و تبدأ الطقوس الحاطة من الكرامة... و هذا ما عبر عنه الكاتب بسخرية رائعة في قوله:" بدأت تقبل بلغته الصفراء تارة، و هو يمد لها كل رجل على حدة، و يديه النحيفتين و عمامته الأسطوانية و هو ينحني ليقترب رأسه منها، تارات أخرى... ". و يغوص الكاتب في سيكولوجيا المرأة القروية التي يستبطن أناها الأعلى قيما تعتقد أن الولي على كل شيء قدير... نقرأ في الصفحة 13 :" و فاطمة الآن في شهرها الخامس و كلما انتفخ بطنها، كبر الأمل، و عمت الغبطة نفسها، فلا تلقاها إلا باسمة، أنيقة الهندام، جذابة، حلوة الطباع، مشرقة المحيا، إذ جعلت منها ثقتها بالولي... امرأة أخرى".
تنتهي قصة محمد لفقيهي مثلما اختار لها كاتبها كالتالي:" و تبين بعد ذلك أنه لا يمكن، بالعين المجردة على الأقل، تحديد جنس المولود" ص 14. إنها نهاية تجعل الحلم بتغيير هذه العقلية مؤجلا إلى حين.
و في قصته المعنونة "حتى الدجاج يطير" يرسم الكاتب محمد لفقيهي ملامح بطله حميد التلميذ "القروي" المناضل الذي صدق مقولة معلمه "أن من نجح في البكالوريا سيأكل الدجاج"، ليكد و يجد رغم الظروف:" و لكن هل أنت تستطيع السير، و حذاؤك مرقع، و رأسك عار و جيبك فارغ...؟ إن في الطريق زوابع و عواصف و ضربات شمس، تماما كما في الطريق بين البيت و المدرسة..." ص31. إنه الواقع القروي المأساوي حيث تبعد المدرسة بكيلومترات، و حيث لا يستطيع تحمل المشاق في سبيل الدراسة إلا من أفرغ الله عليه صبرا. لكن "أكل الدجاج" يتطلب التضحية.
تمر الأيام و السنون، و يقترب الموعد.. موعد النجاح و "الخدمة" و الزواج... لكن مرة أخرى تكون نهاية مأساوية في هذا الواقع الذي لا يرحم، فقد "انتهت السنة الدراسية الجديدة كسابقاتها، و حصل حميد على البكالوريا بامتياز... فأصبح أهل البلدة لا يتحدثون إلا عن وظيفته الراقية المرتقبة و عن الراتب السمين، و لا شغل شاغلهم سوى حفلي: "الخدمة" و "الزواج"... ص34. سوف ينجح البطل في الحصول على البكالوريا و بامتياز أيضا... لكن دون أن يتمكن من تحقيق الحلم في "أكل الدجاج"... فالتفوق ليس مرادفا للنجاح عندما تكون الدولة غير معترفة بالكفاءات، و عندما تكرس التفاوتات الاجتماعية و اللامساواة... و عندما لا يكون في المنصب المناسب من يناسب... هكذا سيلج حميد "البطالة" من بابها الواسع... لتصبح أيامه متشابهة في حلة رمادية، و بدون طعم غير طعم المرارة و المعاناة... ليتأجل مرة أخرى الحلم بواقع عادل يقدر الكفاءة و يعترف بالاجتهاد... و يستمر واقع المعاناة و الموت البطيء... الذي يقود إلى الجنون... يكتب محمد لفقيهي في ص 35: "فانطلق حميد فوق الربوة عدوا، مقلدا بيديه حركات أجنحة الدجاج...!!".
الواقع المديني: موت القيم
في قصة :"زوج قابل للقسمة على اثنين"، ينتقل بنا الكاتب محمد لفقيهي إلى الواقع المديني حيث يرصد اختلالات القيم و احتضار الأخلاق إلى الحد الذي تتنافس فيه الأم و ابنتها على رجل واحد... يكتب محمد لفقيهي في الصفحتين 23 و 24 :" ذات مساء دخلت السيدة غرفتي لتجدني رفقة ليلى و هنا ثارت ثائرتها: "مالك سابقة الفرح بليلة، سنرى... آش ناوية تعملي أنت و هاذ... روميو ديالك؟" فانسحبت الفتاة من الغرفة... لتشهر السيدة في وجهي واحدة من أهم أوراقها "ابنتي... لا... لا... هيء نفسك لتقبل هذا..." و أجبتها "و لكنك أنت من..." و قاطعتني: "و هل في الحب يا أم ارحميني..." و خرجت باسمة، و كأنها لم تكن غاضبة إطلاقا...". يحسب للقاص محمد لفقيهي في هذا المقطع حرفيته الكبيرة على المستوى الإبداعي، عندما يسجل بأسلوب رمزي رائع سلوكا جسديا بهيميا بلغة إنسانية بعيدة عن الابتذال و الهبوط و السماجة... حيث يترك لذكاء القارئ اقتناص التلميح و دونما حاجة إلى التصريح...
إنه الانحدار الأخلاقي في أشد صوره وضوحا و قتامة... انحدار لا يملك له الكاتب حلا سحريا و تبقى معالجته مؤجلة إلى حين... "اتزوجهم بجوج... و ديرني في البال" ص26 .
أما في القصة المعنونة ب"لافتات من رغيف فاتح ماي" فيلتقط الكاتب مشاهد المعاناة و العبث المرتبطة بالبحث عن العمل و اجتياز المباريات بالنسبة للبطل القادم من الأقاصي بجيوب تكاد تكون فارغة... ليفترش الأرض و تغطيه السماء: "قضى ليلة أخرى فوق العشب الرطب و تحت النجوم الشامخة، و أفاق مرة أخرى ليجد هيكله العظمي مرة ثانية و قد فكت عناصره، و لما وصل إلى الكلية وجد الأبواب مقفلة خرساء، بأقفالها السمراء الرهيبة، و طلائها البني الداكن... و استفسر فأجابه أحد المارة بأنه "فاتح ماي"،ص 48.
 كما يوجه الكاتب نقدا لاذعا لسماسرة النضال المزيف الذين يبيعون الأوهام "للمعاقين شغليا" في عيد يسمى جورا عيد الشغل... "لكن ما دخل هؤلاء المتشردين الأميين، و ماسحي الأحذية، و أصحاب العربات اليدوية، و بائعي السجائر بالتقسيط في ملتقى الطرق و أضواء المرور، ما دخلهم بعيد الشغل و اللافتات و الشعارات و العدل و المساواة و الطبول و المزامير...؟"
إنه عيد للمنتفعين الذين يقتاتون على عرق الفقراء، و يستغلون سذاجة الجياع، و يتاجرون بمآسي الملايين، و يتخذون من النضال حرفة... "وزمجر صاحب البطن المنتفخ السمين و أزبد، و تطاير غليونه في الفضاء و هو يردد: " قاتل الله أمثالك يا ابن ال... حتى تزدهر مهنتي...".
الواقع العربي: موت العرب
في "زخم من الزواج لأجل الوحدة"، يقارب الكاتب محمد لفقيهي الواقع العربي من خلال قضية العرب الأولى، أي فلسطين... حيث ينمو التخلف معرضا فلسطين للضياع. يغادر ناصر الدين بطل القصة السجن ليجد واقعا تطبع المأساة قبلة على جبينه... حيث العرب منشغلون عن فلسطين بهز البطون و ملأ البطون... و الانبطاح للغرب و الإبداع في تقليده حد إنجاب جيل فيه "فتيات مدمنات على المساحيق و سراويل الجينز، و أولاد يحملون حليا في آذانهم و أعناقهم تماما كالغواني..." ص 41.
إنه جيل لا يعرف ماضيه لأنه فاقد للذاكرة، و لا مستقبل له لأنه مجثث الهوية... جيل جاهل يلهث وراء اللهو و العبث و الغرائز... جيل يحتاج صدمات ليستفيق من غيبوبته، و يخرج من صمته... " إنهم صامتون هنا و هناك... يرقصون باستمرار في الملاهي، و يجثمون الساعات في المقاهي..." ص 40.
تنتهي القصة هذه المرة بأمل تصنعه إرادة القوة من رحم الغضب المتفجر حجارة صاخبة تدوي في الأفق، إيذانا بتغيير واقع الذل و الهوان، و التطلع إلى الكرامة و العزة... "و عم الآفاق دوي أخضر صاخب من الحجارة أوقد كلمات سمية و أبناءها، فبدت شهبا تتلألأ في الأجواء...".
على سبيل الختم
في نهاية هذه القراءة للعمل القصصي للدكتور محمد لفقيهي لا بد من التأكيد أن ما قمنا به هو محاولة متسرعة كان الهدف منها لفت الانتباه لهذا العمل الإبداعي المتميز ليس إلا، أما قراءته فتحتاج إلى وقت و جهد كبيرين، خصوصا و أنه عمل ينفتح على إمكانيات عديدة للقراءة و من خلال مناهج مختلفة نظرا لغناه و خصوبته: حيث يتقاطع الأدبي بالاجتماعي و الثقافي... و غيرهما.  

تنويه: تماشيا مع مبادئ المجلة المرجو التعليق باللغة العربية

فيلوبريس على الفيسبوك

المواضيع الأكثر قراءة

فيديوهات فيلوبريس